سبع سنوات ونصف سنة تفصل ما بين "أكاذيب" الرئيس الأمريكي السابق "جورج بوش" و"تلفيقات" الرئيس الحالي "أوباما" حول رؤية وطريقة تعامل كل منهما مع تداعيات جريمة غزو العراق واحتلاله، وهي رؤية تنطلق من قاعدة واحدة وتحمل أهدافا واحدة، تتلخص في اعتبار احتلال العراق مدخلاً لإعادة رسم خريطة المنطقة وبناء شرق أوسط جديد، بالإضافة إلى النظر إلى العراق باعتباره "غنيمة" تستحق دفع بعض الأثمان لوضع اليد عليها، لذلك فإنه بالرغم من إعلان الرئيس الأمريكي أوباما انتهاء العمليات القتالية في العراق، فإن الاحتلال باق ومستمر، وبالمقابل فإن "المقاومة" باقية ومستمرة، وهو ما يعني أن "الحرب" هي باقية ومستمرة، فقد اعتبر "أوباما" أن عملية الانسحاب الجزئي تمثل "خطوة على طريق وضع حد للحرب" كما أنه رفض الحديث أو الاحتفال "بالنصر" مذكراً العالم ببعض أكاذيب سلفه "بوش" عندما وقف بعد شهرين من احتلال العراق (مايو 2003) على متن إحدى الطائرات الأمريكية ليعلن بزهو وغرور انتصار أمريكا في العراق وانتهاء العمليات القتالية، ومبشراً الشعب الأمريكي وأسر الجنود الأمريكيين بأن خسائر حرب العراق ستكون "صفرا" وقد رأينا بعد ذلك كيف كذب الواقع كل ادعاءات "بوش" وتحولت الحرب إلى حالة استنزاف بشري واقتصادي وسياسي للولايات المتحدة الأمريكية، وكانت حالة الاستنزاف هذه تتفاقم يوماً بعد آخر حتى أوصلت الإدارة الأمريكية إلى قناعة بأن الثمن في العراق سيكون أكبر من الغنيمة، لذلك حصل هذا الانسحاب الجزئي أو إعادة الانتشار لقوات الاحتلال في العراق. والمنطقان العسكري والسياسي يؤكدان أن "عملية الانسحاب" هي خطوة "تكتيكية" تلائم استراتيجية "الهروب" من العراق التي ستحصل عاجلا أو آجلا بفعل ضربات المقاومة العراقية التي ستكون مسئولة عن ترجيح كفة الخسائر الأمريكية مقابل ما تحصل عليه من "غنائم".
من هنا فإن واقع العراق اليوم لا يحتاج منا إلى الدخول في "جدال" أو وضع "فرضيات" حول نيات وأهداف أمريكا من حربها على العراق، فهي لم تعبر البحار والمحيطات لتقوم بجريمة الغزو والاحتلال، وتتحمل كل هذه التكاليف البشرية والمادية، من أجل أن تأتي اليوم – هكذا وبكل سهولة – لتترك العراق بثرواته الهائلة وموقعه الاستراتيجي وبثقله السياسي والحضاري، بل حتى المدى الزمني الذي أعلنه "أوباما" وحدده بنهاية 2011م لإنهاء الوجود العسكري المباشر للولايات المتحدة الأمريكية في العراق، نقول حتى هذا الزمن المحدد، ليس بالضرورة هو تاريخ قطعي وملزم للتنفيذ، فلن تعدم الولايات المتحدة الأمريكية الأسباب التي تجعلها تتراجع عن قرارها والبقاء في العراق إلى مدى غير معلوم.
نعم الواقع يقول إن أمريكا أقدمت اليوم على انسحاب جزئي، لا يعدو كونه كما قلنا "إعادة انتشار" وهي خطوة مرتبطة في جانب منها بأسباب داخلية، تتمثل في رغبة الرئيس الأمريكي وحزبه في تقليص الخسائر في سنة الانتخابات النصفية للكونجرس الأمريكي، بالإضافة إلى أزمة قواتها المتفاقمة في أفغانستان، كما أن الواقع الفعلي يؤكد بقاء 50 ألف جندي أمريكي موزعين على عشرات القواعد العسكرية في مختلف مناطق ومحافظات العراق، تحت عناوين الإشراف والتدريب وتقديم المساعدة للقوات العراقية بموجب أحكام الاتفاقية الموقعة بين "المجرم بوش" و"العميل" المالكي.
وهناك أيضا ما يزيد على 150 ألفا من القوات المرتزقة العاملين في شركات المقاولات الأمنية مثل "بلاك ووتر" وغيرها لحماية المنشآت والمواطنين الأمريكيين الذين يتجاوزون الآلاف، وليس لهذا الواقع سوى تفسير واحد، هو أنه بالرغم من مظاهر الانسحاب الجزئي، فإن هناك في الحقيقة تعزيزاً للوجود العسكري الأمريكي، يناسب أو يلائم الوجود السياسي الذي حققته واشنطن من خلال "الاتفاقية الأمنية" ويناسب أيضاً الوجود الاقتصادي الذي حصلت عليه عبر تراخيص النفط التي أبرمتها مع عملائها في العراق، فلم يعد سرا أن الشركات النفطية الأمريكية فازت باتفاقات النفط العراقية الكبيرة، التي وقعتها تحت مظلة الاحتلال وغياب قانون النفط. فالعراق يملك احتياطيا نفطيا يقدر بـ 115 بليون برميل، فهل يتصور أحد أن يترك الأمريكان هذه الثروات هكذا من دون ضمانة في جيوبهم؟ إذاً ما هو الوصف الدقيق للحالة العراقية الراهنة، بعد الخطوة الأمريكية الأخيرة؟ وكيف لنا الحديث عن هزيمة أمريكا وهروبها من العراق؟ وما هي الأسس والمعايير التي تجعلنا نتحدث بثقة مطلقة عن حتمية انتصار المقاومة العراقية؟
في كل معارك وحروب التحرير هناك شروط للنصر وهناك أيضاً شواهد لهزيمة العدو، وفي معركة تحرير العراق من المحتل الأمريكي ممكن التأكيد في ظل المعطيات الراهنة أن هناك هزيمة أمريكية واقعة فعلاً في العراق ولكنها ليست هزيمة كاملة، وهناك نصراً حاصلاً فعلاً للمقاومة العراقية، لكنه ليس نصرا "حاسما" فالمقاومة التي واجهت المحتل طوال ما يزيد على سبعة أعوام من عمر الاحتلال، استطاعت إنجاز الكثير من المهام العظيمة في هذا المجال، ولكن طالما أن الوجود العسكري الأمريكي المباشر في العراق لم ينته، وأن النتائج السياسية التي أفرزها الاحتلال مازالت باقية، وأن القوى المستفيدة من هذه النتائج مازالت تحكم وتتحكم في العراق، ان استمرار كل ذلك، يدخل من دون شك في خانة "أرباح" أمريكا في العراق، الأمر الذي يطرح أمام المقاومة تحديات إضافية من اجل الوصول بالاحتلال في العراق إلى حالة "صفر الأرباح" بمعنى الوصول إلى مرحلة تتوافر معها إمكانية إعادة بناء عراق متحرر ليس من الاحتلال العسكري فحسب، بل أيضاً من كل ما أفرزه الاحتلال، فكون المقاومة هي مشروع تحرري وسياسي وكونها نقيض الاحتلال، فإن ذلك يعني أن مهمة المقاومة لا تقتصر على المقاومة المسلحة، بل هي معنية بإعادة العراق إلى وضعه الطبيعي بعد أن جرى تدمير كل مقومات الحياة المجتمعية فيه.
لذلك ليس هناك أحد في العالم يمكن أن يقبل ادعاءات الرئيس الأمريكي حول انتهاء الحرب في العراق، طالما أن الأسباب والمبررات التي أوجبت هذه الحرب لاتزال قائمة، إذ ان بقاء الاحتلال تحت أي شكل أو تحت أي عنوان، يعني حتماً بقاء المقاومة واستمرارها، بل ان ما ينتظر المقاومة العراقية – في ظل المستجدات الراهنة – الكثير من المهام والتحديات الإضافية.
في ظل هذه الوقائع يبرز أمامنا سؤال ملح هو أين ربحت أمريكا؟ وأين أخفقت في العراق؟ إن الإجابة عن هذا السؤال يفرض علينا تقييم الواقع العراقي بصورة موضوعية لتحديد حجم أرباح وخسائر الجانب الأمريكي، التي هي عينها معيار حجم "انتصار" المقاومة، وهي تقدم أيضاً مؤشر حجم ما ينتظرها من مهام.
ليس هناك مجال للتحليل أو التأويل بشأن دور المقاومة في المأزق الذي وصلت إليه أمريكا في العراق وبالشكل الذي دفع بها إلى أن تعيد النظر في استراتيجيتها الأساسية، وتطرح استراتيجية الانسحاب التي أعلنها أوباما في 31 من شهر أغسطس الماضي، وهو ما يعني أن أمريكا كدولة محتلة فشلت في تحقيق الكثير من أهدافها في العراق، لكن الواقع يفرض علينا القول أيضاً إنها (أمريكا) حققت بعض أهم أهدافها من العدوان والاحتلال، وفي مقدمة هذه الأهداف تفكيك العراق ككيان وطني وكمكونات مجتمعية، وبناء الأرضية المهيئة للصراعات المذهبية والطائفية والعرقية، التي باتت اليوم السمة البارزة في الواقع العراقي، وهذا الهدف كما هو معروف يقع على رأس أولويات صناع الاستراتيجية الأمريكية، وهو هدف يدخل في إطار الرؤية المشتركة للتحالف الأمريكي الصهيوني التي ترمي إلى إعادة رسم الخرائط السياسية والجغرافية لكل الدول العربية وفي طليعتها العراق، وجعل حدود هذه الكيانات بحدود الطوائف والمذاهب والأقليات العرقية وهذا هو بالضبط ما حصل في العراق على يد الاحتلال، الذي كان يدرك أنه لا يمكن الوصول إلى هذا الهدف من دون تدمير الدولة العراقية وتدمير كل مؤسساتها السياسية والعسكرية والأمنية، وكذلك القضاء على حزب البعث العربي الاشتراكي الذي يقود الدولة باعتباره حزبا وطنيا وقوميا عابرا في تكوينه التنظيمي والبنيوي وفي منطلقاته الفكرية والسياسية للمذاهب والطوائف، لذلك جرى وضع قانون "اجتثاث البعث" لاستهداف كل كوادر وأعضاء هذا الحزب في حياتهم وأرزاقهم، وتم تكليف أكثر الناس "خسة" و"دناءَة" من أمثال الجلبي وبعض الوجوه الحاقدة والمسعورة لتنفيذ هذا القانون، وليس هناك من شك في أن الاحتلال في هذا المجال حقق الكثير من النجاحات، وأنجز أهم الأهداف التي تقاطعت مع المصالح والأهداف الصهيونية والإيرانية التي أشد ما يقلقها وجود عراق موحد وقوي على حدودها العربية ومن مصلحتها بقاء العراق ضعيفاً ممزقاً حتى يسهل فرض الوصاية عليه واحتواؤه، فالعراق المقسم الفاقد الهوية الوطنية والقومية هو الذي يُغري "إيران" وغيرها من الدول لبسط نفوذها عليه ولعب أدوار سياسية وأمنية فيه كما هو حاصل اليوم.
ومقابل الدولة العراقية الوطنية التي جرى تفكيكها، تم بناء أو إعادة تركيب دولة ضعيفة ممزقة ومحكومة بدستور يكرس التقسيم طائفيا وعرقيا ويكرس حالة ضعف العراق، وهذا واقع يصب أيضاً في خدمة الاستراتيجية الأمريكية من ناحية توظيفه في سياسة ابتزاز دول الخليج العربي من خلال "التخويف" من الدور الإيراني المتعاظم، مع غياب دور العراق الذي طالما شكل قوة توازن مع القوة الإيرانية في المنطقة، كما أن وجوده (العراق) كان يمثل عنصر توازن في المعادلة الإقليمية في المثلث الذي يجمعه مع تركيا وإيران، ولكن اليوم بفعل سياسة الاحتلال أصبح العراق دولة هامشية، وغير فاعلة، وتحول من دولة "لاعبة" إلى دولة "ملعوب" بها من قبل كل دول الجوار ومن أصحاب الاستراتيجيات الدولية.
وهكذا نلاحظ أن الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني وإيران حققوا نجاحات بارزة في هذا المجال.
الهدف الآخر الذي استطاع المحتل الأمريكي تحقيقه، والذي يعد من الأهداف الرئيسية للحرب على العراق، هو إعادة السيطرة على نفط العراق إنتاجاً وتسويقاً، وهو ما تتطلب التخلص من كل القوانين التي كانت قد وضعت في ظل الدولة الوطنية للسيطرة على هذه الثروة الوطنية وبعودة الشركات النفطية الكبرى مرة أخرى إلى وضع يدها على "نفط العراق" بعد مرور أربعة عقود على قرار التأميم، يعني في الواقع أن هذه الشركات استطاعت الانتقام والثأر لهزيمتها في معركة تأميم النفط التي خاضها العراق وانتصر فيها عام 1971م.
هدف ثالث تجسد فيما كانت الصهيونية العالمية تطمح إليه في هذا البلد العربي، بكل ما يمثله من ثقل عسكري وسياسي، حيث جرى إخراجه من معادلة الصراع العربي الصهيوني بعد أن تم تدميره أرضا وقيما وحضارة، وتحويله إلى "دويلات" ينخر فيها الفساد والطائفية والتخلف وتقاد من قبل مجموعة من اللصوص الفاسدين وبعض الزمر الغارقة في العمالة والجاسوسية.