مسيرة ثورتهم ثورة السابع عشر- الثلاثين من تموز
في الذكرى الثانية والأربعين لثورة الثورات 17/30 من تموز المجيدة لا بد من التوقف المسؤول للتأمل بموضوعية لما تعرضت له هذه الثورة العظيمة من تآمر منذ لحظاتها الأولى وما تتعرض له اليوم من قصف متواصل من النقد الحاقد والخلط المتعمد لمضامينها ومنجزاتها إلى حد محاولات توسع دائرة التشكيك المتعمد من قبل مختلف القوى الحاقدة على القومية العربية وعلى الثورة العربية وعلى أهداف هذه الثورة البعثية التي تمكنت من تجاوز كل التحديات خلال الخمس والثلاثين عاما من عمرها المجيد، وتتعرض اليوم لمؤامرات جديدة ومكثفة ضد امتدادها الثوري المتميز والمتمثل بالمقاومة العراقية المباركة التي لم تشهد المنطقة مثيلا لها ولن نبالغ إذا قلنا أنها تتعرض لعدوان متواصل تتكامل فيه تحركات الأعداء بمختلف أطيافهم السياسية والفكرية ومذاهبهم ومضامينهم الاجتماعية المتداخلة حلقاتها بمشاربها الدينية والمذهبية والطائفية والعنصرية والعرقية والصهيوماسونية.
وبالرغم من هذه الموجات صمدت وأثبتت للأعداء قبل الأصدقاء إنها ثورة لم يشهد التاريخ لها مثيلا، ثورة اعتمدت وتعتمد على قدرتها الذاتية والموضوعية، وعلى إمكانياتها منطلقة في ذلك من إيمانها الراسخ بمبادئ البعث وأبعاد ومضامين الرسالة الخالدة.
حقا لا نبالغ إذا قلنا إنها تتفرد بهذا الشرف العظيم في مواجهة أوسع هجمة شرسة من قبل مختلف القوى الحاقدة والاتجاهات المريضة المعادية للعروبة والإسلام… هجمة ليس لها مثيل في التاريخ العربي والإسلامي… هجمة مشحونة بتراث تعبوي استعماري بشكل خاص بهدف إحداث تشقق في الأرض وتفكك في القناعات، وتمزيق لأجزاء الوطن، عراق الحضارة والتاريخ العظيم. كل ذلك بهدف الإمعان في توسيع دائرة تجزئة المجزأ، وتوسيع دائرة الفوضى تحت مضامين عرقية وإثنية، إلى جانب الجهود المبذولة لتعميق الفجوة بين أبناء الوطن الواحد والأمة الواحدة، من خلال برامج تشكيكية، وتوظيف نخب عرقية في العراق وطائفية مرتبطة بعلاقة حبل سري مرتبط بمركز "قم" ألصفوي إلى جانب علاقة هذا الحبل السري بالأطماع الصهيونية والإمبريالية الأمريكية التي تسعى جاهدة لحماية ما يسمى بمصالحها في المنطقة العربية بشكل عام والانطلاق من العراق كساحة لتحقيق أهدافها في استغلال ونهب متكاملة في ذلك مع نهب واستيطان واجتثاث للهوية والإنسان من خلال استيطان الكيان الصهيوني لأرض فلسطين المحتلة.
في هذه الذكرى نقف وقفة جادة لقراءة مسيرة الثورة البعثية العملاقة في عراق القائد صدام حسين إلى جانب قراءة ما كتبه القائد المؤسس أحمد ميشيل عفلق، والقائد المجدد صدام حسين في حقولها ومرتكزاتها الفكرية والثورية، ولنبدأ في قراءة هذه المسيرة أولا: كيف ينظر البعثيون اليوم للثورة قبل احتلال العراق؟ وكيف يفهم الآخرون من أبناء الأمة الشرفاء منجزاتها خلال 35 عاما؟ ثم كيف ينظر البعثيون وكل المناضلين في الأمة إلى امتدادها المتجسد اليوم في المقاومة البطلة والتي هي في الأساس امتداد لثورة 17/30 تموز وتعبير عنها، والتي انطلقت فور احتلال العراق كي تواجه الاحتلالين الأمريكي والفارسي، وحليفتهما الصهيونية التي جعلت من شمال العراق ساحة لتنفيذ المخطط الصهيوامريكي الفارسي على أرض العراق العظيم؟ كما يثار سؤال آخر وهو كيف تتعامل جماهير الأمة مع هذه الثورة… مع هذه المقاومة… تتعامل مع المقاومة العراقية التي عبرت وتعبر بصدق عن ثورة المستقبل العربي كله في الحاضر، ورسالة الحاضر إلى المستقبل الحر الذي رسمت خطوطه وأبعاده ومضامينه الثورة البعثية الانقلابية.؟
فالمتتبع لمسيرة ثورة 17/30 من تموز من نقطة البداية، نقطة الانطلاق يجد أنها تبدأ بيوم السابع من نيسان 1947 وهو يوم تأسيس حزب الثورة العربية.. حزب البعث العربي الاشتراكي…..هذا اليوم التاريخي في مسيرة حزب الثورة العربية، حدد مسار العمل القومي من منطلق تحديد المعنى الذي بلور حدوده القائد المؤسس كمخاض لولادة تاريخية جديدة تتجاوز كافة الحواجز التي تحد من الرؤية العلمية الثورية التاريخية، الرؤية التي تسمو فوق القطرية والطائفية وكافة المفاهيم التقليدية الشائعة، لتشكل هذه الرؤية نقلة نوعية، تشد المجتمع العربي إلى جوهر الأمة، والأبعاد القومية بمضامينها الاجتماعية والإنسانية بمعانيها الروحية والثورية.
لقد كانت هذه الرؤية وما تزال تشكل انقلابا كاملا في العلاقات الداخلية وصلتها بالجوار والإقليم وامتداد الوطن العربي بمختلف أقطاره، انقلابا بأبعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعلمية والتربوية، إلى جانب العسكرية والأمنية، مرتكزة على فكر البعث الذي كان وما يزال فكر ثورة 17/30 من تموز. وكيف لا إذا ما عرفنا بموضوعية أن الثورة استمدت قوتها من رؤية البعث وفكر القيادة المؤسسة والمجددة، وقوة تأثيرها الميداني في حياة المواطن التي عملت على دفع عملية النمو والتطور والتقدم في العراق.
من هذه الزاوية ينبغي أن تبدأ قراءة الثورة ليس بهدف الوقوف عند ما تحقق من أهداف وإنما في الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك أي أن تتكثف القراءة البعثية والقومية لمعرفة كافة الجوانب الإيجابية التي حققتها على الصعيدين الاقتصادي والإنساني في المجتمع وما أحدثته من تغيير جذري على الصعيدين التربوي الثقافي، الحضاري والصناعي والزراعي بحقولهما المختلفة، وما أنجزته في حياة الإنسان في مختلف اوجه حياته الخاصة وعلاقته بمحيطه…. فقراءة الثورة والتجربة ينبغي أن يكون خارج إطار الاضطرار، بل داخل مفهوم المعرفة وتقصي حقائق ومواقف الأعداء التاريخيين داخل المجتمع وما يحيط بالتجربة بحقولها الوطنية والقومية والإسلامية وتقصي أبعاد القدرة والإمكانيات المادية والمعنوية داخل التجربة،وفق جدلية الذات والموضوع، وما يحيط بها من تحد خارجي، والوقوف بجدية أمام كثافة الأعداء ومحاولة معرفة وكشف ما وراء تخوفهم من التجربة التي كثفوا حولها مخططاتهم المعادية لها والخوف من البعث الذي حشدوا عليه كل القوى الحاقدة عربيا، إقليميا، دوليا، التي تخاف بعث القوة والاقتدار في حياة الأمة التي جزأها الاستعمار وتم ربطها بعجلة القطب الأوحد بشكل خاص، والغرب بشكل عام، داخل شرنقة المصالح بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وسقوط الاتحاد السوفيتي، مسلوبة الإرادة بعد أن كُبلت بمختلف الاتفاقيات والمعاهدات تحت ذرائع المعونات والمساعدات والتعاون بصيغ مختلفة.
إن قراءة التجربة ومنجزاتها، وقراءة دور وفكر القائد المجدد يفتح مجالا جديدا للإبداع وتفاعلا جاداً يوسع من فهم أبعادها ومعانيها، بالمقارنة لما سبقها ولما جاء من بعدها، أي بعد احتلال العراق، في الحقول المختلفة حتى تنسجم القراءة مع القناعات البعثية والثورية بأبعادها الوطنية والقومية. فالتاريخ الذي يجب أن نكتبه كي يقرأه الجيل القادم، فيبدع ويطور مساره وحركة المجتمع الذي يعيش فيه، ينبغي أن يكون منارة في مواجهة موجات الحقد والتحدي والتآمر الخبيث المركز ضد الثورة والوحدة والأمة العربية، وتكون حركته وفعله امتدادا للتجربة وحركة الجماهير التي تماهت معها ومع منجزاتها.
لا شك أن قراءة التجربة البعثية وتتبع فعلها في خلق مجتمع جديد وتهيئة مناخات وطنية وقومية متميزة. هذه القراءة الفاحصة تجعلنا ندرك حقائق موضوعية أحاطت بها من الداخل والخارج فنصل إلى معرفة حقيقة ما أنجزته، ومعاني موجات العداء التي واجهتها على الصعيدين الوطني والقومي، إلى جانب الخوف منها ومن إيجابياتها في مواجهتها على الصعيدين الصهيوأمريكي وكذا الفارسي والرجعي المحيط والمجاور… وقد كان القائد المجدد صدام حسين واضحا دقيقا عندما قال: ((يجب أن لا نتحدث عن التاريخ بصورة معزولة عن الزمن وتفاعلات الأحداث))… كي نفهم التجربة فهما تاريخيا موضوعيا ثوريا من خلال القراءة المتأنية للمنجزات بمعانيها داخل التاريخ وأحداثه وزمانه وما حولها من الإيجابيات والسلبيات.
من هذا المنطلق ينبغي على البعثيين أن يفهموا التاريخ الحديث من خلال فهمهم لتجربة ثورتهم، وأن يقرأوا الأحداث قراءة واعية مستوعبة لما يدور حولهم وحولها حتى ينصفوا تجربتهم وقيادتهم في الميدان، ويتفاعلوا مع فكرهم وما أفرزته التجربة الكبيرة من منجزات عانقت الفكر البعثي وتفاعلت معه فتصبح القراءة للثورة قراءة لتاريخ كتب بالجهد، بالدم، بالعرق داخل الفكر البعثي المتميز، و تكون مدخلا حقيقيا لمخاطبة الحاضر والمستقبل من خلال كتابة تاريخها للأحياء انسجاما مع مقولة القائد المجدد والميداني صدام حسين القائلة: ((إننا نكتب التاريخ للأحياء لا للأموات…. إذ أن هذا المنهج يقدم خدمة كبيرة للأحياء من الناس في المجتمع)) وهذا ما ينبغي أن يفهمه البعثيون وكل الشرفاء من أبناء الأمة. كما أن التفاعل اليوم مع المقاومة العراقية البطلة واستيعاب فعلها بمضامينه الوطنية والقومية والإسلامية والإنسانية، هو تعبير عن تفاعل خلاق مع كتابة التاريخ للأحياء، وبدون شك تصبح هذه العملية منطلقا "لتشجيع الأحياء على البطولة والإقدام على التضحية والإيثار حتى الاستشهاد"، فهذه المعاني التي ركز عليها القائد الميداني المجدد تعتبر ركائز أساسية في صفحة الإعداد والتربية، وفي بناء الشعب المقاتل، وبناء الدولة البعثية في آن واحد.
هكذا كان يحث القائد الميداني على التضحية والاستشهاد. وهذا الموضوع أصبح اليوم ظاهرا ظهور الشمس على صدق وبرهان نجاح التجربة البعثية، متجليا في المقاومة العراقية، التي أصبحت عنوان مرحلة كاملة، وراية مرفوعة لمراحل قادمة في حياة الأمة. فالمقاومة العراقية لم تأت من فراغ على الإطلاق وإنما هي بنت التجربة البعثية والثورة البعثية التي بنت إنسانا يمثل البطولة والتضحية والإيثار حتى الاستشهاد. لذا نقول لكل البعثيين ولكل الشرفاء في الأمة أن استعراض التجربة المستوعب بات حاجة ملحة ووسيلة ضرورية تمكن الجميع من التواصل الفاعل معها بصفحاتها المختلفة ومع الفكر البعثي، قراءة تلتقي بمواقف القائدين المؤسس احمد ميشيل عفلق والمجدد صدام حسين وفكرهما، فمن خلال هذا التواصل نلتحم بعظمة تاريخ أجدادنا وحضارة أمتنا بصفحاتها المشرقة ومقارنة ذلك بما حولنا في الماضي والحاضر وتصور المستقبل، من أجل هذا الجانب المهم أكد القائد المجدد: "عندما أستذكر نبوخذ نصر، فلأني أريد أن أقول للعرب وللعراقيين خصوصا أن التاريخ ليس عبئا عليكم وإنما هو سلاح بيدكم ومهماز معنوي يدفعكم إلى أمام وليس ثقلا يمنع الحركة، فعليكم أن تستخدموه لأن لديكم تاريخا مشرقا ومشرفا".
هذه الإشارة البليغة تؤكد أن ثورة البعث استلهمت إيجابيات و إشراقات الماضي بكل مراحله لتصنع تاريخا للعراق وللأمة وفتحت آفاقا كبيرة ظلت مستمرة، وما المقاومة العراقية اليوم إلا امتدادا لها، تمثل ثورة تاريخية عظيمة… بل ثورة مستمرة لثورة 17/30 من تموز البعثية… ثورة الجماهير العريضة التي اشتركت فيها وتلاحمت معها في الميدان. واليوم تتلاحم وتتفاعل مع امتدادها… مع المقاومة العراقية… تواصلا مع المنظور الفكري، والبعثي. فالتاريخ العربي تميز بالبطولة والتضحية وقوة الاندفاع والعطاء في سبيل المبادئ الكبيرة. فهو "ثورة وثروة".
لذا يؤكد الرفيق القائد الميداني صدام حسين على هذا بقوله: "مطلوب منا، ومطلوب من كل عربي أن نتوخى دروسه وروحه".. مضيفا.. "وأن ثورة البعث ليست حركة فردية وإنما هي ثورة شعبية جماهيرية ذات محتوى انقلابي… بل حالة مستمرة وهي رسالة الحياة."
لقد امتُحنت ثورة البعث في القادسية الثانية قادسية صدام، وكانت جديرة بالامتحان إذ كما يقول القائد المجدد "ولعلنا قد لمسنا أثر هذا البناء في مدى سنوات الحرب العراقية –الإيرانية فواقع الشعب العراقي وبناؤه الجديد يؤكد على أن: "أهم إنجاز وأعظم إنجاز عندنا مثلما ورد في السؤال هو الإنسان العراقي الجديد الذي هو الحصيلة النهائية لكل الإنجازات في الميدان الثقافي والسياسي والتقني والاقتصادي والاجتماعي ودرجة هذا الإنجاز وطبيعته ومعرفتة في موقعين: في موقع البناء والتطور العلمي والتقني.. وفي موقع الدفاع عن العراق عندما تقتضي الضرورة لمواجهة عدوان خارجي مسلح بأحدث الأسلحة الأمريكية. وفي هذين الميدانين نحن الإنسان العراقي معروف في مكانته… هذا هو أعظم إنجاز."… لقد عملت الثورة على إعداد الإنسان العراقي إعداداً مبدئيا، وحصنته بحصانة مبدئية أهلته وتؤهله اليوم لرفض كل لون وشكل من ألوان وأشكال المؤامرات وكل حالة تعيده إلى الخلف كما تحاول المليشيات الإجرامية اليوم فعله، وإعادته إلى ما قبل الثورة البعثية.
فالحاضر المعاش في العراق المحتل اليوم ليس نهائيا أو مسلما به وبنتائجه المروج لها عبر وسائل الإعلام الأمريكية والصهيونية والإيرانية وتلك المؤمركة، بل بحاجة إلى قراءة بعثية واعية مستوعبة أبعاد المؤامرة التي حُبكت ضد النظام الوطني في عراق القائد صدام حسين.
انطلاقا من فهمنا لطبيعة المؤامرة التي حيكت ضد العراق… ضد ثورة البعث يحتم على ألبعثي "أن يعطي تفسيرا جريئا بحيث لا يكون متجنيا فيه على التاريخ أو يخترع حوادث التاريخ اختراعا، لكنه في الوقت نفسه يجب أن يختار طريقة مرتبطة بخصوصيته البعثية للأغراض التربوية"… وأن يحذر من مقولات العاجزين والمنحرفين الذين لا يحترمون تاريخ أمتهم ولا يعتزون به، والذين نَبَهَّ منهم القائد المجدد قائلا: " أن بعض أبناء الأمة ممن يؤمن إيمانا راسخا بتاريخها وعظمتها وعمق رسالتها يقف أمام هذا التاريخ عندما يقرأه وقفة العاجز فيقول إنني لا أقدر أن أكون مثل أجدادي في هذا التاريخ فالأحسن أن نتركه كله ونتغنى به فحسب، نتركه على حاله دون أن نتعب أنفسنا في تمثل دروسه وتفهم عمق معانيه، وهذا موقف خاطئ، كما هو خاطئ ومنحرف موقف الذين لا يؤمنون ولا يحترمون تاريخ أمتهم".
ونحن أمام ثورة البعث التي ما تزال متواصلة ينبغي أن نقرأ فصولها مستوعبين علاقتها بفكر البعث وثورته وما تحقق من المنجزات حتى يتضح دورها الحاضر في المواجهة التاريخية على أرض الرافدين، متفهمين الظروف التي تعيشها، مدركين بوعي أنها لا شك منتصرة لأنها لم تأتِ من فراغ، وإنما هي بنت الثورة وهي امتداد للمسيرة التي أنجبت إنسانا عراقيا مسلحا بروح التضحية والإيمان بالمبادئ التي جعلت من العراق منارة. هذه التجربة التي وصفها القائد صدام حسين:"كما يجب أن لا ننسى ونحن نتحدث عن التربية الوطنية تشخيص (الأعداء) ليس بالطريق الجاري أو بالحديث المباشر فحسب، وإنما بالصورة التي تجعل الطالب والطفل يستمر في كراهيته للاستعمار".
ضمن هذه الرؤية تبرز جدلية الحديث عن الإنسان والمجموع وفق مفاهيم التعبئة حتى تتبلور المفاهيم وتتضح صورة القيادة الميدانية والفكرية فتتلاحم قيادة التأسيس وقيادة التجديد الميدانية في عناق الفكر والممارسة الخلاقة التي تتجلى في:
1 – العمل التاريخي
2 – القيادة التاريخية
3 – الشخصية القيادية.
إن دور المقاومة اليوم يندرج في صفحة الفعل التاريخي الذي يصفه القائد المجدد: "الفعل التاريخي الإيجابي ينقل فاعله إلى مكانه بحيث نرى الأمة تبذل كل جهدها من أجل الحفاظ عليه وعلى فعله ولا يمكن أن تتخلى عنه." هذا الفعل لم يرقَ العملاء والعابثون بقيم العراق إلى فهمه واستيعابه، ولا يمكنهم أن يستوعبوا إمكانية وقدرة المقاومة في الرد الحاسم والقوى على الخونة ومشروعهم الذي استهدف العراق والأمة، ولم يفهم الذين ارتموا في أحضان الفرس والأمريكان والصهاينة أن العراق لم يُفاجأ بالمؤامرة، فهو قادر على تجاوزهم كما تجاوز المغول وكافة الانحرافات التي أتى البعث لوضع حد لها في ثورته البعثية. ولم يخطئ القائد صدام حسين عندما قال "نعتبر الخيانة أو الانحراف عندما يبدأ من الشاطئ ويستمر فسوف يصل إلى الغاطس أو الهوة السحيقة ومن هنا كنا دائما نحذر من المرونة التي تروض النفسية ومن ثم تًتخذ غطاء للردة"؟ وهذا ما حصل اليوم في العراق.
إن العراق وقيادة العراق التي أممت النفط عام 1972م هي القيادة الحكيمة والتاريخية التي اتخذت القرار وواجهت ردود الأفعال بشجاعة وأنجزت عملا تاريخيا حققت فيه الاستقلال السياسي والاقتصادي للعراق ووضعت النفط في خدمة الشعب. هذه القيادة هي نفسها من هندس للمقاومة ووضع أسس مداميكها، فكانت قيادة مبدعة أنجبت مقاومة قوية صابرة متميزة بقيادة الرفيق المجاهد المتمرس عزة إبراهيم، خير خلف لخير سلف، في ظل صمت وحصار عربي لم يسبق له مثيل في التاريخ، في مواجهة الأعداء في الميدان بمختلف الأسلحة.
وكما قال قسطنطين زريق: "لا بد إذن لكل حضارة من مبدعين وقادة، وقيمة الحضارة ونتاجها وأثرها تعتمد إلى حد بعيد على قدرهم وجدارتهم، على جلال إبداعهم وصحة قيادتهم، وعلى مدى تحضرهم وتحررهم وتقدمهم عن سواهم".وهنا تبرز واضحة صفحة المقارنة بين دعاة التخلف والتشرذم وقيادة المقاومة التي تمثل العمل التاريخي الثوري الانقلابي وتتجلى بفعل المبدعين… في مواجهة الردة الخمينية بكافة فصولها على ساحة العراق والعملاء المتساقطين، الذين حملتهم الدبابات الأمريكية والإيرانية للانقضاض على الثورة ومحاولة اجتثاث البنية التحتية لمنجزاتها العظيمة. ويصح وصف المقاومة في مواجهتها لأعداء العراق ونهضته أنها "التعبير المشترك المتكامل لمجهودات الجماعة". ومجهودات الجماعة هنا هي عنوان بارز في قيادة المقاومة التي سلكت طريق المناضلين المؤمنين الذي ينطبق عليهم ما قاله القائد المؤسس "يحاربون ليس بقواهم وحدهم، ليس بعددهم المحدود الضئيل، وإنما يحاربون أيضا بمصلحة العدد الأكبر من الشعب… الذي يوقظه تقدمهم في الطليعة فيستكشف ذاته ومصلحته وطريقه، يحاربون بالإرادة الكامنة التي تجيش في صدر الأمة جمعاء هذه الإرادة التي يعوزها المثل والقدوة الجريئة حتى تنتقل من حالة السكون والغفوة إلى حالة اليقظة والفعل"…وهي كما يرى القائد المجدد ("طليعة ثورية" بل الحالة والمجموعة التي فيها رأس متميز، ليس رأسا إداريا فحسب وإنما رأس مفكر ومشع ومبدع وقائد").
لا شك أن الأعداء قد أسقطوا من حسابهم هذه الجوانب التي تأكد فيها ثبات المقاومة وقيادة المقاومة التي تعتبر، أيضا، امتدادا متفاعلا متكاملا مع فعل القيادة التاريخية للثورة، والتي خاضت كافة المعارك التي واجهت الثورة وانتصرت عليها بأسلوب ومنهج حضاري مقتدر، ويؤكد الرفيق إلياس فرح "على ثلاثة أبعاد أساسية للشخصية الحضارية ويحددها بمقدار صلتها الحية بالماضي ودرجة معاناتها للحاضر وتفاعلها الحي مع روح العصر المنطلقة نحو المستقبل".
إنها لا شك أقوى من الأراجيف التي تتسع حلقاتها في سياق محاولة اجتثاث البعث ومن ثم اجتثاث المقاومة كما يحاول إعلام القوى المعادية وقوى الاحتلالين الأمريكي والفارسي.
نعم إعلامهم الرسمي بجوانبه المختلفة المتناغم مع الإعلام الصهيوني المسيطر والمتحكم بمعظم إعلام الأنظمة القطرية الانهزامية اللفظية المقنعة، في معظم الأحيان بعبارات وطنية وثورية، فقد فطنت المقاومة العراقية البطلة لمثل هذه المناهج الإعلامية المعبرة عن مصلحة المخططات المعادية لوحدة العراق شعبا وإنسانا ووحدة الأمة من محيطها إلى خليجها، فتوحدت وتماسكت بمختلف أطيافها الوطنية والقومية والإسلامية. فالبعث وهو مدرسة فكرية، فطنت إلى هذا النوع من الإعلام منذ وقت مبكر وحذرت في مرحلة النكسات من علاقة هذا الإعلام بمخططات أعداء الأمة. والعراق اليوم ساحة تختبر فيها المبادئ ويمتحن الإيمان كما سبق وإن اختبر في عهد "البويهيين" ومدارس المذهبية المغلقة والصفوية الحاقدة على العرب والإسلام.
ويكفي التوقف ولو لثوانٍ لقراءة تاريخ أبي مسلم الخراساني لمعرفة أحفاده الذين يحتلون العراق بدعم أمريكي صهيوني وقوى الردة في المنطقة العربية، التي تعتقد أن سياسة التعتيم قادرة على تمرير المؤامرة، وأن أساليب التكتيك المتبع في التعامل مع احتلال العراق قادرة على فرض التشرذم وترسيخ أسس الطائفية والعرقية في العراق، وذلك من خلال الخلط بين الإسلام وطروحاتهم المنحرفة متناسين أن البعث قادر على الفرز المبدئي بين تصوراته العقائدية وتصورات الاحتلال وعملائه، وبين أسلوب البعث الانقلابي وأساليبهم الرجعية المتآمرة على الدين باسم الدين، معتقدين أن بإمكانهم تمرير اللعبة، وقد فاتهم أن يدركوا أن الرفيق الشهيد صدام حسين كان قد نَبّهَ إلى عملية الخلط هذه والتآمر على العروبة والإسلام منذ وقت مبكر قائلا: "إن التحول إلى مواقع وخلط المفاهيم أو قبول عدم الوضوح يخسرنا المعركة، ويهزمنا هزيمة ساحقة ويضعنا أمام أزمة فكرية في نفس الوقت الذي نخسر فيه سياسيا لذلك نخسر من موقعين… نخسر الأرضية الفكرية التي نرتكز عليها والتي هي مصدر قوتنا الأساس ونخسر سياستنا كذلك، وبذلك نفقد التماسك الفكري ونفقد التميز ونخسر جمهورنا."
انطلاقا من هذا كان رد المقاومة ردا عنيفا لا يحتمل البين- بين ومن هذه الزاوية تم رفض العملية السياسية برمتها ورفضت عملية المشاركة بما أسموه بالانتخابات كما فشلت القوى التي حاولت أن تتمسح بمسوح الرهبان، في حين أنها تمثل قرن الشيطان، في عراق الأولياء والصحابة وعراق الخليل إبراهيم أبو الأنبياء، مغطين ذلك بطقوس دينية تعبر عن صيغ خاصة كمدخل لولاءات سياسية في مواجهة الثورة ومناهضة المقاومة وتمزيق العراق خدمة لمخطط فارسي صهيوني أمريكي. ولا نبالغ إذا ما قلنا إن شهيد الحج الأكبر القائد صدم حسين كان قد أدرك ما ترمي إليه هذه القوى منذ وقت بعيد محددا مهامها بقوله:
"إن بعض القوى المضادة صارت تستخدم الدين لأهداف سياسية فعليك أن لا تستخدم الدين لأهداف سياسية وأن لا تصطدم بهم بشكل مباشر وبأساليب تقليدية"…. مستدركا أولا: "أن هذه القوى المدفوعة من قبل الاستعمار: تقصد "جر الثورة إلى التدخل في الشؤون الدينية وفق صيغ وأساليب غير متوازنة بما يثير أوساط شعبية هي جزء من الحركة العامة للثورة ومصلحتها جزء من مصلحة الثورة.
ثانيا: "كما تسعى هذه الأوساط المشبوهة إلى دفع الأمور إلى الحد الذي يجعل بعض الحزبيين والعاملين في أجهزة الدولة يتصرفون تصرفات غير منضبطة وغير واعية من شأنها أن تأخذ الأغلبية بجريرة الأقلية المنحرفة، في الحكم العام أو في الإجراءات التفصيلية قاصدة عزل الثورة عن جماهيرنا ودفعها إلى هالة الخنادق المتداخلة".
هنا يؤكد الرفيق المجدد على أهمية احترام التعدد والتنوع داخل المجتمع العراقي رافضا الانحياز إلى أي فرقة داعيا إلى احترام اجتهادات الجميع رافضا التخندق: معتبرا ذلك "دخولا في السياسة الخاسرة من أوسع أبوابها".مؤكدا على ما يلي:
"يجب أن نكون متوازنين ومتكاملين في هذه الأمور وأن ننطلق من نظرة شمولية ونظرة ثورية، لا من نظرة واقعية مستسلمة لأن الاستسلام للدعوات الرجعية لبعض الأوساط الدينية يستلزم أن تترك دورك القيادي للمجتمع" ويستدرك رحمة الله عليه "فإن من غير الممكن أن نحشر معالجاتنا للشؤون الدنيوية للحياة الراهنة حشرا فقهيا دينيا، لأن مشاكل المجتمع الحديث الذي نعيش فيه، والمطلوب منا معالجتها أو التعامل معها، مختلف اختلافا أساسيا عن المشاكل التي واجهتها العصور الإسلامية الأولى التي وضعت فيها قواعد الفقه، بحيث أصبح التشريع والفقه الإسلامي أحد المصادر المركزية التي تستلهم منه التشريعات القانونية وليس قانون الحياة الراهنة، إضافة إلى الانسياق وراء الرجعية، في اعتبار أن نظرية الحياة العصرية بما فيها من تطور يجب أن تكون انعكاسا لتعاليم الفقه القديم، يقود المسلمين إلى الاختلاف الذي يؤدي إلى الفرقة نظرا لاختلاف المذاهب والاعتبارات الأخرى، وبذلك نكون قد وفرنا الأجواء اللازمة للاستعمار الجديد ليلعب لعبته الخبيثة في شق الشعب وتسريب المخططات التي تستهدف الوطن العربي بأسره، بالإضافة إلى أن مثل هذا الطريق لا يعدو أن يكون جريا خلف السراب".
حقا…. كان دقيقا في تشخيص الوضع داخل العراق بشكل خاص والوطن الكبير بشكل عام. وها نحن نشهد معاني وأبعاد هذا التحليل للقائد المجدد يمارس جهارا نهارا على أرض العراق تحت رعاية وتشجيع الاحتلالين الأمريكي والفارسي. ولم يكتفِ عند هذا التحليل بل ذهب إلى البعيد مؤكدا :"ومما يعبر عن نظرتنا المبدئية الصحيحة للدين هو أن نراعي أماكن العبادة جميعها وبفعل متوازن وبنظرة شمولية ومبدئية، ولا نروج لخصوصيات أي من المذاهب الإسلامية واجتهاداتها الخاصة المختلفة والترويج لها بتمييز مذهبي واضح". ولم ينتهِ عند هذا التحليل بل ذهب على التأكيد على فلسفة البعث ونظريته التي تستند إليها دولة العرب الكبرى التي يؤمن بها القائد المجدد :"هي الدولة التي يعيش في ظلها العرب في حرية كافية في أديانهم ومعتقداتهم الدينية وانتماءاتهم المذهبية وعلى الدولة أن تراعي المعتقدات والأديان وأماكن العبادة والطقوس الدينية، دون أن تتدخل فيها أو تنتمي انتماء تخصصيا فئوياً إلى أي منها، وهكذا على دولة العرب الحديثة أن تتجنب أن تكون "بيت" عبادة أو مفتى عبادة أو مفتياً للحياة من طريق ديني، وأن تركز على دورها وواجبها بوصفها مفتى الحياة، وبيت حياة العرب الجديدة، والذي يجمع كل أبناء الأمة من مختلف العبادات والاجتهادات والانتماءات في ظله".
هكذا فهم القائد المجدد العلاقة بين الدين والعروبة، بين الدين والدولة منطلقا من نظرية البعث المتكاملة والحية مع الزمن الذي عاشته وتعيشه تجربة البعث، في العراق مختتما كلامه ب: "إننا نقيم الصلة الحية بيننا وبين تراثنا وفي المقدمة تراثنا القومي والديني وأهم حلقة فيه الإسلام ونشطاء الإسلام الأوائل".
هكذا كانت توصيفه للعلاقة بين العروبة والإسلام في مسيرة ثورة البعث الانقلابية على أرض الرافدين، وهكذا كان يقرأ صورة الحاضر وآفاق المستقبل.
فكيف يقرأ البعثيون اليوم صورة الحاضر من خلال بطولة تتجدد يوميا على أرض الرافدين بفعل المقاومة المتميزة التي تتصدى لأكبر ترسانة أسلحة في العالم وأخطر عدو تاريخي للأمة العربية متمثلا بالاحتلال الفارسي الشريك العملي للاحتلال الأمريكي الصهيوني للعراق؟ الذي جعل منه حقلا لترسيخ معاييرهم المزدوجة التي يتعاملون بها مع الأمة العربية وقضية فلسطين في مقدمتها، تلك المعايير التي استخدموها لاحتلال العراق وفرض مخططهم الرامي إلى اجتثاث مشروعه الحضاري الوطني والقومي والإسلامي. إن ما يدور في العراق اليوم يتقاطع تقاطعا كليا مع أسس ومرتكزات العدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان التي يتشدقون بها، فالعدالة تعني "قيمة إنسانية واجتماعية في جوهرها الحي"، فهل تصرفات الاحتلالين الأمريكي والفارسي تتعامل مع العدالة وفق هذا المنظور، فالأساليب المتبعة في احتلال العراق وتدمير بناه التحتية هي الأخرى تتقاطع تقاطعا جذريا مع كافة المواثيق والعهود وحقوق الإنسان وكافة القيم السماوية والأخلاقية.
وإننا إذ نجزم كبعثيين أن حكومة "المنطقة الخضراء" في بغداد التي ترعاها حراب الأمريكان وعلوجهم وتسيرها مرجعية "قم" الفارسية لم تأت لخدمة العراق والأمة بقدر ما صُممَت كي تنفذ مخططين في آن واحد، مخطط يمثل مصالح أمريكا والصهيونية العالمية والكيان الصهيوني، ومخطط يمثل الأطماع والطموحات الفارسية والإمبراطورية الكسروية، مغلفا بتعصب طائفي مذهبي أعمى لا يرى إلا صورة إيران التاريخية المجوسية، ولا يتعامل مع العراق إلا من زاوية الانتقام من التاريخ… الانتقام من الإسلام… الانتقام من العرب. هذان المخططان لا يمكن أن يتعاملا مع شعب العراق كشعب تعاملا إنسانيا… تعاملا يؤمن ويرتكز على العدالة والمساواة، بل كطوائف متشرذمة متناحرة… لأن الحاقد أعمى البصر والبصيرة.
وعودا على بدء كيف يقرأ البعثيون اليوم أحاديث الرفيق القائد المؤسس وأحاديث الرفيق القائد المجدد، وكيف يفهمون العلاقة بين تجربة البعث الثورية من 17/30 تموز حتى السابع من نيسان 2003م؟؟؟ وكيف يفهمون العلاقة الجدلية بين تأسيس الحزب وتأسيس المقاومة؟ وكيف يفهمون موقف شهيد الحج الأكبر أمام قضاة الاحتلال فيما كان يسمى بمحاكمهم السيئة الصيت؟ وكيف يستوعبون موقفه الشامخ والعظيم يوم اغتياله بل يوم استشهاده وهو يخاطب العملاء بلغة الثائر المناضل والقائد المسؤول عن شعب بكامل أطيافه؟
كيف يقرأ البعثيون اليوم كلمات القائد المجدد وهو يقول في الثمانينات:"عقولنا تتفتح ونفوسنا تنتعش، وإيماننا يتعزز وقلوبنا تعمر بالاستعداد للعطاء والتضحية وحياتنا معه تمتلئ بالسعادة الروحية"؟؟؟ ألم تُستحضر هذه المعاني أمامنا وهو يبتسم أمام الموت ببطولة وإيمان مجسدا هذه المعاني؟؟؟ واليوم وبعد مضي سبع سنوات على صفحة المقاومة في المواجهة الميدانية للاحتلال وتمريغه في "مستنقع العراق" ومعه عملائه الذين أتى بهم فوق دباباته كيف يستوحي البعثيون هذه المعاني وكيف يتماهون معها في استحضار المستقبل العربي كله؟؟؟
إن العودة إلى ما خلفه القائد المؤسس من منهج وتراث غني بالمعاني الوطنية والقومية والإنسانية، المعاني التي مثلتها تجربة البعث في العراق وما تركه شهيد الحج الأكبر من تراثٍ متلاحمٍ مع فكر القائد المؤسس في ميدان التجربة البعثية التي شكلت نموذجا حيا لنظرية البعث هو الامر المطلوب.
وتأتي المقاومة العراقية البطلة اليوم على أرض العراق لتتواصل مع التراث والتجربة ومنجزات الثورة البعثية، بل لتتكامل معها، عمليا ونظريا. ومهما حاولنا أن نتحدث عن مسيرة الثورة في حقولها المختلفة، فلن نوفها حقها. ويكفي أنها تجسد عهد البطولة التي أكد القائد المؤسس عليها:"في عهد البطولة"….. ضرورة توفرها في المناضلين الحقيقيين الذين ينذرون أنفسهم لطي ((صفحة الضعفاء الذين يقابلون مصائب الوطن بالبكاء وبأن يقولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله، صفحة النفعيين الذين ملئوا جيوبهم ثم قالوا: لا داعي للعجلة، كل شيء يتم بالتطور البطيء، صفحة الجبناء الذين يعترفون بفساد المجتمع إذا ما خلوا لأنفسهم، حتى إذا خرجوا إلى الطريق كانوا أول من يطأطئ رأسه لهذه المفاسد))…. "وفتح صفحة جديدة، صفحة الذين يجابهون المعضلات العامة ببرودة العقل ولهيب الإيمان، ويجاهرون بأفكارهم ولو وقف ضدهم أهل الأرض جميعا".
فإذا كانت ثورة 17/30 من تموز قد حسمت الموقف في أيامها الأولى حسما مبدئيا، جسدت هويتها ميدانيا، وأعلنت خطها العقائدي الثوري الانقلابي بشكل لا يقبل التردد والالتباس، فواجهت شبكات الجواسيس وتعقيدات القضية الكردية بجدية ومسؤولية وخرجت ببيان 11 آذار، وحسمت قضية تحرير النفط بقرار التأميم ا حزيران 1972م، متواصلة في خطها المبدئي وصولا إلى قادسية صدام المجيدة وفي أم المعارك الخالدة والصمود أمام الحصار الجائر والغاشم الطويل ومعركة الحوا سم التي ما تزال مفتوحة. جابهت كل ذلك وفق رؤية بعثية ثورية صادقة إلى جانب تعاملها مع قضية بناء الإنسان الذي يحمي العراق اليوم ويدافع عنه ويخوض معركة شرسة في مواجهة الاحتلال وعملائه… هذا الإنسان العراقي الجديد المتنوع في عطاءاته في الحقول العلمية والثقافية والتربوية والحضارية والعسكرية… هذا الإنسان العراقي هو الذي يقاتل اليوم في جبهة مفتوحة تبدأ في العراق وتمتد إلى أكثر من ساحة عربية بنتائجها وأهدافها التي تحمي الوطن والأمة، بل تتفاعل تفاعلا عميقا وصادقا مع القيم الإنسانية التي تؤمن بها كل الشعوب والأمم المؤمنة بالحرية والاستقلال والعدالة.
هذا الإنسان الجديد المتصدر اليوم لكل سموم الرياح الصفراء التي تم تحجيمها وهزيمتها خلال ألثمان سنوات في قادسية صدام المجيدة، والمتصدر للرياح الصهيو صليبية الجديدة القديمة، مؤكدا لشعبه وأمته أن صلاح الدين لم يمت وأن صدام حسين لم يمت وأن البعث باق وأن مبادئه وقيمه خالدة وأن رسالته التي أكد عليها القائد المؤسس بقوله:"هي ليست شيئا منفصلا عن العرب في هذه المرحلة القاسية المملوءة بالأمراض…. الرسالة بدأت منذ بدأ العرب، وخاصة منذ أن بدأ الجيل الجديد يدرك بجرأة ووعي أن حياة الأمة العربية لا يمكن أن تستمر في هذا الطريق المعوج المنحدر، وأنه لا بد من حركة إنقاذ، أي لا بد من الانقلاب الشامل… الرسالة شيء أعمق وأصدق من ذلك إنها تجربة حية، تجربة أخلاقية ونفسية تقوم بها أمة عظيمة وتضع في هذه التجربة كل حياتها… وهي أن لا تؤمن بمبدأ إلا إذا كانت تستطيع تحقيقه. عندها لا تكون الرسالة حضارة فحسب وإنما كنز روحي" تبقى حية.
ووفق هذا المنهج صاغ البعث ثورته في العراق وضحى البعثيون واستلذوا التضحية تحت لواء الرسالة الخالدة. وكان مؤسس البعث قد استوعب المعاني الكبيرة للرسالة الخالدة كما جاء القائد المجدد ليربط الأفكار بجذور الحياة ومنابع النضال مؤكدا" أن نظرية حزبنا حية ومتفاعلة، ونجد فيها دائما ما هو جديد، والجدة في عقيدتنا هي كجدة الحياة في تطورنا".
في إطار هذا المنهج و هذه الروحية والمبدئية، كان التعامل أيضا مع قضية فلسطين، إذ أكد القائد المجدد شهيد الحج الأكبر "أن فلسطين موضوعنا القومي والإنساني الذي لا يغيب عنا، فقد يجد البعض إلحاحا منا في هذا، إذا أغفل صلة هذا الموضوع بكل ما يتعلق بأمتنا من قضايا مصيرية وإذا أغفل المتمعن فيما أشرنا إليه وأعلناه في هذا الخطاب وفي غيره كجزء حي من جوهر ما نؤمن به إزاء دور العراق في الحياة العربية والإنسانية… وإن فلسطين أرض عربية وهي وطن الفلسطينيين كجزء من الوطن العربي الكبير وأمتنا العربية المجيدة وعليها أولى القبلتين وثالث التسلسل الأعلى في الأماكن المقدسة، فهل يصح أن يفرط بكل هذه المعاني إنسان عربي أو يقول بالعروبة، أو ينسب إلى نفسه صفة العروبة، والإيمان!؟ وهل يمكن لمن يقبل ويسلم باحتلالها من قبل الصهاينة، وببقاء القدس محتلة، أو أسيرة بيد الصهيونية، أن يدعي بأنه مؤمن ويتيقن من أن صلاته مقبولة عند الله!؟". حقا… كيف يمكن أن يقبل العرب والمسلمون بالشروط الصهيونية الإسرائيلية في التعامل مع قضية فلسطين التي يعتبرها القائد المؤسس "أخطر مشكلة في حياة القومية العربية"… مؤكدا في وقت مبكر من عام 1946م: "لا ينتظَّرَنْ العرب ظهور المعجزة… فلسطين لا تنقذها الحكومات بل العمل الشعبي"… "أما الحكومات العربية وجامعتها فيبقى أمامها سبيل واحد لكي تبرهن على أنها لم توجد لخدمة الأجنبي والعمل بوحيه، هو أن لا تضع العقبات والعراقيل في وجه الشعب المتعطش للجهاد!"
هكذا تكامل فكر القائد المؤسس أحمد ميشيل عفلق رحمة الله عليه والقائد المجدد سيد شهداء العصر صدام حسين، في التعامل مع قضية العرب المركزية ومع مفهوم الرسالة الخالدة "أنها تجربة حية، تجربة أخلاقية ونفسية تقوم بها أمة عظيمة تضع في هذه التجربة كل حياتها وهي لا تؤمن بمبدأ إلا إذا كانت تستطيع تحقيقه، عندها لا تكون الرسالة حضارة فحسب، وإنما كنز روحي."
انطلاقا من هذا الترابط الجدلي بين الفكر والتطبيق، بين بُعد الرسالة ومسيرة الثورة، بين النظرية البعثية والنضال العقائدي الثوري الانقلابي، وبين فعل المقاومة العراقية البطلة اليوم، وبين المقاومة التي تمثل أصدق ما تمثل حمل الرسالة بكل معانيها وأبعادها متعانقة مع مقاومة شعب فلسطين الذي ضحى ولا يزال يضحي من أجل التحرير… فالمقاومة العراقية اليوم هي الرافعة لراية التحرير في العراق بامتداداتها إلى فلسطين وكل أقطار الأمة التي ما تزال تواجه الاحتلال والنفوذ الأجنبي والعدوان، في هذا أو ذاك من أقطار الأمة.
وعلى البعثيين وكل الشرفاء في الأمة أن يتعاملوا مع المقاومة العراقية والفلسطينية وكل مقاومة ترفض الوجود الأجنبي وكل شكل من أشكال الاحتلال، منطلقين من استيعاب رسالتها، مؤمنين أن كل من يحمل رسالة بهذا المعنى العميق والكبير لا بد له من أن ينتصر على أعداء الحضارة والحياة و"الرسالة الخالدة".
الثورة العربية العدد 1 مطلع آب (اوغسطس) 2010