إذا كان الغضب الشعبي العربي سيتًّوجه فقط للبربرية الهمجية الصهيونية في فلسطين المحتلًّة فأنًّه لن يحقٍّق شيئاً في واقع الصٍّراع العربي ـ الصهيوني فالإعتداء الإجرامي الحقير على سفن الحرية، وهي متجهة إلى غزًّة المنهكة، ليس إلاً تكملة لسلسلة طويلة من الغريزة الحيوانية النازية المافياوية التي عبرًّ عنها وتلذًّذ بممارستها الصهاينة في فلسطين المغتصبة عبر أكثر من ستٍّين عاماً.
لكن الغضب الشعبي العربي، بتعاون وتنسيق مع أحرار العالم، يستطيع تحقيق الكثير، إن توجه نحو الآتي:
أولاً: إنُّ رأس الثعبان الصهيوني ليس في القدس، وإنًّما هو في واشنطن ـ فالحماية والدّعم المالي والسياسي والعسكري والتكنولوجي الامريكي هو رأس الثعبان. والعمل المتواصل المتنامي، غير الموسمي، وبألف طريقة، لإقناع واشنطن بأن حمايتها ودعمها للكيان الصهيوني له ثمن يجب أن تدفعه هو الذي سيهشٍّم ذلك الرأس. فالمظاهرات والعرائض والتصويت في الانتخابات والإضرابات والتثقيف السياسي اليومي وبرامج الأحزاب يجب أن تتوجًّه نحو الضغط المتواصل على الحكومات لإنهاء الاتفاقيات العسكرية مع واشنطن، وعدم تأجير مطاراتنا وموانئنا ومعسكراتنا لقوًّاتهم العسكرية، وإيقاف التنسيق الأمني العربي مع أجهزتهم الأمنية، بما في ذلك المناورات المشتركة، والتوقُّف عن استقبال مسؤوليهم بحفاوة الصًّداقة الحميمة، والنظًّر بجديُّة في مصادر أخرى غير أمريكية لشراء السلاح، وإيقاف التعاون الإعلامي والثقافي والتربوي. وأخيراً التوجه نحو الحكومات والقطاع الخاص لحمل مسؤوليتهم القومية في حقل الاقتصاد. وهنا توجد مواضيع هامة من مثل ارتباط البترول والغاز العربي بالدولار والاستثمارات العربية في أمريكا، وشراء الطائرات المدنية من الشركات الامريكية، والتوجه للصناعات والبضائع غير الامريكية.
ليست القضية قضية عنتريات. إنها عمل سياسي يمارسه الآخرون وينجحون في تحقيق أهدافه. إن أمريكا نفسها وكثيرا من الدول الأوروبية والأخرى تمارس ذلك ضد بعضها البعض. إلا نحن، فاننا نتحرج عن استعمال أية ورقة في يدنا ضد دولة لم تراع أبسط قواعد الأخلاق والقيم الإنسانية والقوانين الدولية في تعاملها مع أية قضية عربية سواء في فلسطين أو العراق أو لبنان أو سورية أو السودان أو الصومال، ومن قبل في تعاملها مع مصر.
ثانيا: إن قضية التطبيع مع الكيان الصهيوني لم تعد مسألة فرعية عند الصًّهاينة ولا عندنا. فما لم يشعر الصهاينة بعزلتهم السياسية والاقتصادية والإعلامية والثقافية التامة، وبرفض تاريخي لإدعائهم الكاذب بحقٍّهم في سرقة فلسطين وبحقٍّهم العنصري في إقامة دولة يهودية عنصرية في تلك الأرض العربية، فانهم سيتمادون في ارتكاب المجازر والتوسًّع والهيمنة على كل خيرات الوطن العربي بأكمله، وذلك كلًّه بصلف وازدراء وتحقير للعرب جميعهم. من هنا الأهمية القصوى لعمل سياسي مستمر متنام لإنهاء كل أنواع التطبيع الظاهر والخفي من قبل من طبًّعوا ومن يطبعون ومن يفكًّرون في التطبيع. إذا كان لا بدًّ من مظاهرات فليس مكانها أمام مكاتب الأمم المتحدة العاجزة المغلوبة على أمرها. مكانها الحقيقي المؤثًّر أمام السفارات والمكاتب الصهيونية والشركات المتعاونة معها والمؤسسات التي تدعو كبار شخصياتها لهذا المؤتمر أو ذاك النشاط أو تلك المقابلة الإعلامية.
ثالثا: لا النقطة الأولى ولا النقطة الثانية قابلتان للتحقق إذا كانتا ستمارسان من قبل قوى صغيرة معزولة عاجزة في هذا القطر العربي أو ذاك الذي سيجعل كل ما قلناه قابلاً للتحقق، وليس أكثر من أحلام طفولية بليدة، هو وجود تنظيم متناسق متناغم من قبل كل قوى المقاومة العربية، العسكرية منها والسياسية والمدنية الأهلية، المؤمنة بضرورة الانتصار على المشروع الامريكي ـ الصهيوني الظالم الحقير. وبالطبع ليس هنا مكان الحديث عن تفاصيل قيام وتنظيم ذلك الجهد المشترك التعاوني الشعبي.
القضية الأساسية بالنسبة لهذه النقطة هي أنه آن الاوان للصهيونية وللدول الداًعمة لها وللمجتمع الدولي أن يشعروا بأن إرادة الأمة لا تتمثًّل فقط في أنظمة رسمية، أغلبها عاجز مذعور متواطئ كسول، وإنُّما أيضاً في مجتمع عربي قادر على أن يقول كلمة لا، متحرٍّك بحيوية وكفاءة لمقارعة المشروع الصهيوني ـ الامريكي في جميع تجلٍّياته، يملك الشرعية التي تسمح له بتجييش الشارع العربي ومؤسساته، وذلك لمنع سقوط الوطن العربي كلٍّه في وحل الإستغلال البشع لثرواته، والتجريح اليومي لكرامة إنسانه، واستباحة أرضه من قبل الغزاة الهمج، وتمزيق أوصاله، ومنعه من ممارسة حقٍّه في النهوض من كبوته التاريخية وخروجه من حلقة التخلُّف التي يراد له أن يدور فيها إلى الأبد.
الصهاينة ومساندوهم يجب أن يتأكدوا من أن الشعب العربي لن يقبل بأن يكون مصيره نفس مصير شعوب الهنود الحمر في أرض العار الديمقراطي عبر القارة الامريكية كلٍّها