إثر اغتصاب الصهاينة للجزء الأكبر من فلسطين، عام 1948، عملت ماكنة الإعلام الغربي على تصوير الصراع بأنه صراع بين مجموعتين: عربية ويهودية، وأن كليهما يدعي ملكيته لأرض لم تكن مملوكة لأحد، قبل هذا الصراع. إن فلسطين التاريخية، حسب منطوق أول وزيرة خارجية للكيان الصهيوني، غولدا ماثير هي أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض. وعندما حدث عدوان يونيو عام 1967، جرى حرف الصراع، من قبل نفس الماكنة الإعلامية، من صراع على فلسطين، إلى صراع على مناطق متنازع عليها.
المبررات الصهيونية لعدون يونيو أنها حرب وقائية، شنتها بهدف منع الهجوم العربي الهادف لإلقاء اليهود في البحر. إن جل ما تطمح له "إسرائيل" هو أن يعترف بها جيرانها، ويقيمون علاقات حسن الجوار، ويتعايشون بسلام معها. هذه الدعاية المضللة تسللت للأسف لماكنة الإعلام العربي، وصدق بها الضحية. وفي زحمة الصراعات والمواجهات ضعفت الذاكرة، وغيبت حقائق الجغرافيا والتاريخ. ونسي البعض أن شعب فلسطين، عاش على أرضه في سلسلة ممتدة، استمرات أكثر من أربعة آلاف عام. وغاب عن الذاكرة أيضا، أن تعداد اليهود عام 1947، بعد مضي قرابة عقدين على وعد بلفور المشؤوم، وتصاعد الهجرة اليهودية إلى فلسطين لم يتجاوز اﻠ 7% من سكان فلسطين، حسب إحصاءات الأمم المتحدة. ومع ذلك صدر قرار التقسيم بشطر فلسطين مناصفة بين الصهاينة والعرب الفلسطينيين. وفي الزحمة أيضا غاب الهدف من تأسيس الكيان الصهيوني، وبهتت الذاكرة العربية الجمعية، تجاه مجازر في دير ياسين وبئر السبع.
وتداعى الوسطاء إلى المنطقة من كل مكان، حاملين الرسالة تلو الرسالة، مؤكدة رغبة الصهاينة في اعتراف جيرانهم بهم، والعيش بسلام…. وكانت الشعارات والمبادرات تسير في واد، والسلوك الصهيوني، يسير في اتجاه آخر. معبر عنه بعدوان على السموع في الضفة الغربية، وقصف همجي على مدرسة للأطفال، في بحر البقر، وقصف آخر على معامل "أبو زعبل" قريبا من حلوان. وتشريد للسكان على الضفة الغربية لقناة السويس. وطرد للفلسطينيين من مساكنهم، وهدم بعضها الآخر، وتجريف المزارع، وفرض الحصار، وإعلان حالة الطوارئ، وإعلاق المعابر. ولغة السلام تطغى على المبادرات الدولية، من مشروع تيتو للاسلام بالشرق الأوسط، إلى حراك جوزف سيسكو، وحتى مبادرة روجرز، إلى الرحلات المكوكية لجونار ياريج.
صدقت القيادات العربية، وتبعها الفلسطينيون، أن تحقيق السلام أمر ممكن، إذا ما أقر الجميع بمشروعية سطو الصهاينة على أرض فلسطين، وأن ذلك سيكون فيه حقن للدماء ونشدان للسلامة. وأيضا استرجاع للأراضي، وإن كانت ستبقى مجردة من السلاح. فحين يتحقق السلام لن يكون هناك معنى لامتشاق للسلاح.
ومن جديد عملت الماكنة الصهيونية، على ترويج فكرة أخرى مؤداها أن من يرغب في السلام، عليه أن يبدى حسن نواياه أولا، بتخليه عن السلاح. إن السلام يحتاج إلى قوة دفع وتطبيع وكسر للحاجز النفسي. وهي أمور مناط تطبيقها بالعرب وحدهم، لأنهم مصدر العدوان، أما الصهاينة المسالمين، فليس عليهم أن يقدموا أثمانا للعدوان عليهم.
صدق بعضنا ذلك، أو بدقة أكثر أردنا تصديق الاتهامات التي كيلت للضحية. فتبنينا في وضح النهار تلك الشعارات، وفرطنا في معظم حقوقنا، على أمل تجنب الحرب. وأصبحت شعارات الدفع الذاتي والتطبيع وكسر الحواجز النفسية، ضمن قائمة أهدافنا. بل وأعلن بعضنا استعداده للخروج من منظومة الأمن القومي العربي الجماعي. وأصبحت الإتفاقيات مع العدو مرجحة على ما عداها من الاتفاقيات والمواثيق، بما في ذلك ميثاق جامعة الدول العربية ومعاهدة الدفاع العربي المشترك.
جرى اجتياح بيروت، عام 1982، والنظام العربي الرسمي في أسوأ حالاته. ولم نتخذ موقفا ضد العدوان، حتى ولو كان بالصمت العاجز. بل وتقدمنا أشواطا كبيرة، بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد، نتج عنها إضافة اتفاقيتين أخريتين، هما وادي عربة وأوسلو. وكانت الكذبة تلو الكذبة تشق طريقها في عقول بعضنا وسلوكه. فكان الوهم أن الدولة الفلسطينية المستقلة، المتمتعة بكافة الحقوق، سوف تقام على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة بعد خمس سنوات من توقيع اتفاقية أسلو عام 1993. بمعنى آخر، سيشهد العالم في عام 1998م، ولادة الدولة الفلسطينية المستقلة. ومضى أثنا عشر عاما، على ذلك الموعد، وما تحقق حتى الآن هو المزيد من قضم الأراضي الفسلطينة، حتى أصبح ما يتفاوض عليه الآن لا يتعدى اﻠ 47% من أراضي الضفة والقطاع. والمفاضات لا تزال مستمرة، والسلام وليس الأمن لا يزال خيارنا الاستراتيجي.
هذا الأسبوع أعلن كبير المفاوضين الفلسطينيين، الدكتور صائب عريقات أن المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين قد بدأت بوساطة أمريكية. حسنا لقد عادت المفاوضات من حيث بدأت ولم تبدأ. وخلال عقدين، رأينا جعجعة ولم نرى طحنا. وماذا بعد؟!
لا أدعوا هنا للدخول في مغامرة عسكرية مع العدو، فكل الحقائق المتوفرة لاتشي بوجود الإرادة العربية على مواجهة الكيان الغاصب، ولست من المتحمسين للمواقف العدمية، فاستراتيجية المواجهة مع هذا الكيان ينبغي أن تكون واضحة، وممكنة التحقق. ونحن بحاجة إلى استراتيجية كفاحية، قادرة على دحر المشروع الصهيوني. لكني من جهة أخرى، لا اعتقد أن التسليم بشروط العدو سوف يقدم شيئا للفلسطينيين، فما رأيناه حقيقة خلال أكثر من تسعة عقود، منذ وعد بلفور هو تآكل الحقوق العربية، في ظل فقدان التوازن العسكري والاستراتيجي، والتنظيمي وإرادة المقاومة بين العرب والصهاينة.
ما أدعوا إليه صراحة، هو تصليب الموقفين العربي والفلسطيني، في مواجهة الكيان الصهيوني. والخيار الاستراتيجي للسلام، هو خيار واهم إن لم تدعمه قوة الردع، القادرة على جعله أمرا واقعا. والسلام دون الأمن هو ركوع واستسلام، لأنه لا يستند على قاعدة قوية تحميه وتدافع عنه. والمفاوضات، حين لا تكون هناك غاية نهائية تؤمن الحرية وحق تقرير المصير، تحول طاولة المفاوضات، إلى غاية.. فهل تكون طاولة المفاوضات هي الغاية والمطلب؟!..
editor@arabrenewal.com