كنتُ في بيروت حين صدر الجزء الرابع من مشروع «نقد العقل العربي» حاملا عنوان: «العقل الأخلاقي العربي»، كان ذلك في شهر مارس من العام 2001. ومن بيروت هاتفتُ الدكتور الجابري مهنِّئاً إيّاهُ بصدور الكتاب الذي اختتم به مشروعاً فكرياً أنفق فيه زمناً غيرَ يسير وجَهْداً في العمل استثنائياً تحدّى فيه الطبيعة والمألوف. كنتُ أعرف أن هذا الجزء هو (الجزءُ) الأخير من مشروع نقد العقل الممتد على مدى عشرين عاماً من الكفاح اليومي بين مئات المصادر وعشرات الآلاف من الصفحات المقروءة بعنايةٍ بالغة وببصيرة باحثٍ مُجَرِّب. لكني قلتُ للفقيد الجابري مُمَازِحاً: «متى سيصدر الجزء الخامس»؟ ردَّ متسائلا: «أيُّ جزءٍ خامس»؟ أمعنْتُ في الممازحة: «حول: العقل العِلْميّ العربي، فأنتَ بعد الأجزاء المتعلقة بالتكوين والبنية والعقل السياسي والعقل الأخلاقي لا تستطيع أن تُخرج من دائرة البحث العقل العِلْمي». أجابني بالتعبير المشرقي الدارج: «فال الله ولاَ فالك». أنا لم أصدِّق أنني تخلصتُ من عبء هذا الجزء حتّى تحدّثني عن عبء جزءٍ جديد».
لو لم يكن الجابري قد كتب إلاّ هذه الأجزاء الأربعة، فقد كتبَ كلَّ شيء، وقدَّم للثقافة العربية درَّةً من أَنْفَسِ ما يقدَّمُ لثقافةٍ ومجتمعٍ وأمَّة، فكيف إذا كان ما كتبَهُ يفيض عدداً عن الثلاثين كتاباً، وكيف إذا كان في جملة ما كَتَبَ نصوصا نادرة في القيمة العلمية كالتي تناولتْ بعضَ كتب ابن رشد بالإضاءة والبيان؟ ولقد يمُرّ زمنٌ طويل، ربّما بعد أجيال، لن يُذْكَرَ الجابري إلاّ مقترناً بالمشروع هذا، وقد لا يُعْرف إلاّ بوصفه «صاحب مشروع نقد العقل العربي»، مثلما عُرِف أرسطو وعُرِّف بمنطقه فكان الجاحظُ – مثلاً- لا يكاد يأتي على اسمه بالذكر مُؤثِراً تسميته «صاحب المنطق».
والحقُّ أن «نقد العقل العربي» هو بيت القصيد في المشروع الفكري للأستاذ الراحل، فهو مصَبُّ روافده الفكرية كافة. وبيانُ ذلك أنه إذِ اجتمعتْ في فكره اهتمامات شتى: من الانشغال بالتراث الثقافي والديني، إلى العناية بالدرس الإ?ستيمولوجي، إلى الانقطاع الدائم للسياسة وأسئلتها…، فإن الاهتمامات هذه إنما وجَدَتْ كيمياءَها التركيبية في «نقد العقل العربي». فإلى موضوعه (التراث الإسلامي)، اتَّسعت مساحةُ تشغيل أدوات التحليل الإ?ستيمولوجي، ووَجَدَ سؤالُ الراهن السياسي مكانَه ولو من وراء حجاب.
على أن الجابري شاء أن يجعل من هذا المشروع مناسبة لتطوير الاهتمامات تلك وشحْذ أسئلتها أكثر:
فالهاجس العلميّ المنصرف الى دراسة التراث – وقد بدأ مبكّراً في أطروحته للدكتوراه عن ابن خلدون وفي دراساته المضمومة الى بعضها في «نحن والتراث»- ترشَّد أكثر منذ مطالع الثمانينيات من القرن الماضي، فانتقل من حدِّه الابتدائي- التدشيني (نقد التراث) الى حده الأعلى والأنضج (نقد العقل)، فاتحاً بهذا الانتقال أفقاً جديداً أمام دراسات التاريخ الثقافي الإسلامي لم يشاركه أحدٌ في فتحه – من الباحثين العرب- سوى محمد أركون (في اشتغاله على نقد العقل الإسلامي).
وهاجس الدرس المنهجي الإ?ستيمولوجي، الذي بدأ تربوياً في دروس الجامعة ونشر منه دراستين حول «فلسفة العلوم»، والذي اخْتَبَرَ بعض مفاهيمه في دراساته المجموعة في كتابه «نحن والتراث» ثم في «الخطاب العربي المعاصر»، سينعطف في التطبيق انعطافة حاسمة مع «نقد العقل العربي»، حيث ستتجاور مفاهيم التحليل النفسي الفرويدية ومفاهيم غاستون باشلار ولوي ألتوسير وجاف ?ياجي مع مفاهيم ميشيل فوكو وأخرى لريجيس دوبري (في تحليل العقل السياسي) تجاوُراً خلاَّقاً وتركيبياً لا افتعال فيه ولا تلفيق، مع مرونة في الاستخدام وتبيئة (للمفاهيم) مدهشة.
أمّا هاجس السياسة، فما فارقَ الجابري. ولكن بينما أطلَّ على تأليفه في سنوات الستينيات والسبعينيات على نحو صريح وفي لغة سياسية مباشرة، جنح – بدءً من عقد الثمانينيات- نحو اللغة النظرية أو قل نحو استشكال نظريّ أعمق، نَلْحَظ ذلك في كتب مثل «الخطاب العربي المعاصر»، و«الدولة والدين وتطبيق الشريعة»، وفي «الديمقراطية وحقوق الإنسان»، و«في نقد الحاجة الى الإصلاح». غير أن حضوره في مشروع «نقد العقل العربي» اكتسب قيمةً فكريةً أشمل، فإلى أنه أفْرَدَ له جزءً خاصاً، هو الجزء الثالث «نقد العقل السياسي»، ظلّ هاجس السياسة هذا في أساس المشروع كلِّه: وإنْ بلغة المعرفة. ومع أن أحداً لا يملك أن يتجاهل البعد الفكري والمعرفي للمشروع كنصٍّ نظري ودراسي رفيع المستوى في التاريخ الثقافي، إلا أن سؤال السياسة يقبع خلفه ويؤسّسه. وليس السؤال ذاك سوى سؤال النهضة والتقدم واتصال التراث به: إعاقةً أو تمكيناً.
***
كان يشعر بأن رحلته العلمية الطويلة في تراث الإسلام الثقافي والفكري لا تكتمل من دون العودة إلى النصّ الدينيّ المؤسِّس، الذي دارت فروع الفكر ذاك حوله: تفسيراً، وتأويلاً، واستلهاماً في التشريع، وتأمُّلاً في المعنى الظاهر والباطن، وتعقُّلاً للكليات… إلخ. ولعلّه شعُر بأنه أخَّر ما كان ينبغي الابتداء به، أو لعلَّه أدرك أنه مسكُ الختام، ما سألتُهُ في الأمر ولا هو أفصح في ما كتب تبريراً للكتاب. لكنه خاض المغامرة وخرج من التجربة مرتاح الضمير.
ولقد حسِبتها مغامرة منذ أن أعلمني باشتغاله على الموضوع. ومع كل ما كنتُ أحرص عليه من احترامٍ شديد لحساسيته وََجَدْتني أنقل له شعوري بالخوف من التبعات العلمية والاجتماعية لهذا الخيار في البحث. فهو لا يستطيع أن يجاريَ المستشرقين المتخصصين في الدراسات القرآنية مثل نولدكه وبلاشير أو حتّى رودي بارت، ليس لنقصٍ لديه في الأدوات والمعرفة، وإنما لأنه لا يملك مساحة الحرية التي يملكها هؤلاء في الحديث في المقدَّس الإسلامي. وهو – من وجْهٍ ثانٍ- لن يرضى لنفسه بأن يكرّر تفاسير الطبري والبيضاوي وابن كثير والقرطبي والفخر الرازي… إلخ. وفي الحالين، لن يرضيَ المحافظين إن كتب على طريق المستشرقين، أو حتى على طريقة محمد أركون ونصر حامد أبي زيد، ولن يرضيَ الحداثيين إنْ كتبَ على منوال الأقدمين. ذلك في التبعات العلمية، أما في التبعات الاجتماعية أو المجتمعية، فقد خشيت أن لا تكون بيئةُ الاستقبال مناسِبة وخاصة بعد أن ضاق الخناق على العقل والاجتهاد، فيذهب مَن يذهب الى المساس بمقام الرجل وربما تكفيره والتشنيع عليه: وهو ما حَصَل بعضٌ منه.
ليس المقام هذا للتفصيل. لكني أملك أن أقول إنّى ما رأيتُ الأستاذ الراحل مرتاحاً مثلما كان بعد إنهاء مشروعه عن القرآن الكريم. بَدَا كما لو أنه أنجز واجباً معلَّقاً أَبْطَأَ في أدائه. في آخر لقاءٍ لي معه في بيته قبل أسبوعيْن من رحيله، قلتُ له ممازحاً: «أنهيتَ عملك على القرآن الكريم، فأكْمِل جميلَك العلميّ بالاشتغال على الحديث النبويّ حتى لا يقال إن أحداً من العرب والمسلمين ما استطاع مضارعة عمل غولدزيهر». ففاجأني الرجل بأنه فكَّر في الموضوع حقّاً منذ سنوات، لكنه – بعد اشتغالٍ أوّليّ- آثَرَ التوقّف لأن درجة اليقين لديه في صحَّة الإسناد قليلة، والخوض في الموضوع بالحجة يأخذ جهداً وزمناً لم يعد يملكهما على حدّ قوله. نبَّهْتُهُ إلى أن التحريضَ عليه اشتدَّ في الآونة الأخيرة، وأنّ عليه أن يأخُذَهُ بمنتهى الجدّية، أجابني ضاحكاً: «كم بقيَ لي من عُمرٍ أخاف عليه؟».
***
أنجز حفيدُ ابن رشد رحلته الطويلة بين العقل والوحي مثلما فعل أبو الوليد قبل ثمانمئة عام ونيِّف. وعلى خُطَى أبي الوليد سار الحفيد مُسْتَأسِياً به. لكن غزاليَ عصرِ الحفيد كان أسوأ من غَزَالي عصر ابن رشد.