نعلم انه في وطننا العربي، هناك الكثير من المواقف والتطورات الغريبة. نعني المواقف والتطورات السياسية وعلى مختلف الاصعدة، التي تستعصي على الفهم ونعجز ان نجد لها تفسيرا او منطقا مقبولا او حتى معقولا.
لكن هذا التطور الذي شهدناه في الفترة القليلة الماضية، من اغرب ما شهدناه من تطورات.
على امتداد السنوات الطويلة الماضية دأبنا في العالم العربي على الحديث مطولا وفي كل مناسبة عن الحرب الاعلامية التي يشنونها علينا في الغرب والتي تستهدف العرب والاسلام والمسلمين.. دأبنا على الحديث عن سطوة الاعلام الصهيوني في الغرب والدور الذي يلعبه. ودأبنا على المطالبة بأن تسعى الدول العربية الى التحرك الفاعل على الساحة الاعلامية الغربية والعالمية عموما لمواجهة الاعلام الصهيوني والدور الرهيب الذي يلعبه في الدفاع عن ابشع صور الارهاب الاسرائيلي، وفي شن الحرب على الاسلام وتشويه صورة العرب والمسلمين.
لم نتوقف يوما عن المطالبة بهذا الدور الاعلامي العربي المنشود في الخارج يحدونا الأمل رغم كل شيء في انه قد يأتي يوم ويصحو العرب ويأخذون هذا الأمر بالجدية الواجبة.
واذا بنا نفاجأ بما لم يكن في الحسبان ولم يخطر لنا ببال.
فوجئنا بدلا من ان نخترق نحن ساحة الاعلام الغربي والعالمي، بأن الاعلام الصهيوني هو الذي يخترق ساحتنا الاعلامية والسياسية العربية.. يخترقها علنا ورسميا وفي اجواء احتفالية.
في البداية، فوجئنا بامبراطور الاعلام الصهيوني في العالم روبرت مردوخ يوقع اتفاقية شراكة مع روتانا التي يمتلكها الأمير الوليد بن طلال ويشتري حصة فيها.
وقبل ان نفهم ما جرى، فوجئنا بروبرت مردوخ يحل ضيفا رئيسيا في مؤتمر ابوظبي للاعلام، ويعلن شراكة استراتيجية مع المؤسسات الاعلامية في ابوظبي وعن اتخاذ ابوظبي مقرا اقليميا لمؤسساته لتنفيذ مشاريعه الاعلامية في المنطقة.
وايضا قبل ان نفهم ما يجري، فوجئنا بمردوخ يحل ضيفا في الاردن بمناسبة احتفالية بهيجة اقيمت احتفالا بتعميد ابنتيه في نهر الاردن.
ما الذي يجري بالضبط؟
ماذا وراء هذه الشراكات الاعلامية الاستراتيجية العربية مع مردوخ؟
كيف يمكن ان نقيم هذه المسألة برمتها؟
قبل ان نحاول الاجابة عن مثل هذه الاسئلة، لابد من وقفة عند روبرت مردوخ نفسه، والدور الذي تلعبه امبراطوريته الاعلامية.
لابد ان نتوقف بالذات عند دور مردوخ واجهزة اعلامه في دعم اسرائيل والصهيونية العالمية، وفي الحرب على الاسلام والعرب والمسلمين.
هذه الوقفة ضرورية كي نفهم ابتداء، وقبل أي نقاش، كيف ان شراكاته العربية هذه شاذة ومثيرة للشك والريبة.
} } }
صوت إسرائيل والصهيونية
ليس جديدا القول ان روبرت مردوخ الملقب بـ "امبراطور الاعلام في العالم" هو اقوى شخصية اعلامية في العالم على الاطلاق والاكثر تأثيرا ونفوذا.
موقعه هذا استمده بالطبع من الامبراطورية الاعلامية التي يمتلكها. هذه الامبراطورية تشمل مئات من اجهزة الاعلام المقروءة والمرئية والمسموعة في شتى انحاء العالم. هو يمتلك مثلا اكثر من 175 صحيفة في مختلف دول العالم، وعددا كبيرا من محطات التليفزيون اكثرها شهرة محطات فوكس الشهيرة في امريكا، هذا غير شركاته في مجالات الانترنت والانتاج السينمائي والتليفزيوني.. الخ. وهو بأجهزة اعلامه هذه قادر على الوصول الى عشرات وربما الملايين في العالم والتاثير فيهم.
وليس من المبالغة القول ان اجهزة الاعلام الأخطبوطية هذه التي يمتلكها مردوخ تلعب دورا اساسيا حاسما في تشكيل توجهات الرأي العام في الدول الغربية بالذات.
وبشكل شديد الاختصار، يمكن القول ان امبراطورية مردوخ الاعلامية هذه مسخرة لخدمة ثلاثة اهداف استراتيجية كبرى:
1 – خدمة الصهيونية والدفاع عن اسرائيل بشكل مطلق وفي كل وقت وايا كانت المذابح والجرائم التي ترتكبها.
2 – الهجوم على العرب والاسلام والمسلمين .
3 – الدفاع عن قوى اليمين في الغرب التي تتخذ اكثر المواقف والسياسات عنصرية وعدائية وخصوصا ضد العرب والمسلمين.
اما عن تسخير مردوخ لأجهزة اعلامه لخدمة الصهيونية واسرائيل، فالأمر ليس بحاجة الى أي حديث تفصيلي. على امتداد العقود الماضية كلها، كانت اجهزة اعلامه في كل انحاء العالم هي الناطق الرسمي باسم اسرائيل والصهيونية العالمية. وهو نفسه يفاخر بهذا. ليس هذا فحسب، بل انه يعتبر ان الدفاع عن اسرائيل اشبه بالمهمة المقدسة، سياسيا واعلاميا.
ومن دون أي تفاصيل، ساكتفي هنا بما قاله مردوخ في خطاب شهير القاه.
كان هذا في مارس 2009 عندما اقامت اللجنة الامريكية اليهودية حفلا تكريميا له ومنحته جائزتها نظير خدماته لإسرائيل.
في هذا الحفل، القى مردوخ خطابا مطولا. ولنلاحظ ان هذا كان في اعقاب العدوان الاسرائيلي الهمجي على غزة مباشرة وكل جرائم الحرب والابادة التي ارتكبها العدو في العدوان. لنتأمل ماذا قال مردوخ.
تحدث عن التحديات التي تواجهها اسرائيل في العالم، وعن تصاعد معاداة السامية واليهود، وعن ايران التي تدعم حزب الله وحماس وسعيها لامتلاك الاسلحة النووية.
وتحدث مردوخ عما اسماه "الهجوم الذي يستهدف النيل من شرعية وأمن دولة اسرائيل. يقصد بالطبع، الهجوم الذي يشنه الفلسطينيون والعرب، واعتبر ان هؤلاء لا نية لديهم للعيش جنبا الى جنب في سلام مع الدولة اليهودية، على الرغم من التنازلات الكثيرة التي تقدمها اسرائيل". والسبب في رأيه ان هؤلاء الفلسطينيين والعرب "لا يعرفون معنى الحرية والتسامح والديمقراطية. انهم يكرهون اسرائيل لنفس الاسباب التي يكرهون امريكا".
ودافع مردوخ عن العدوان الاسرائيلي على غزة والجرائم التي ارتكبتها اسرائيل دفاعا يفوق حتى دفاع الصهاينة والاسرائيليين انفسهم.
تحدث عن حماس الارهابية والارهاب الذي تمارسه بهدف "اشاعة الرعب في مجتمع حر". واعتبر ان اسرائيل لا يمكن ان تتحمل هذا، ولا يمكن ان تقف مكتوفة الايدي. واعتبر ان قتل المدنيين الفلسطينيين اثناء العدوان هو امر لا مفر منه. بل انه اعتبر ان اسرائيل كانت رحيمة بالفلسطينيين، ذلك انه كان بمقدورها ان تبيد غزة بالكامل وتسويها بالأرض. وادان بشدة الدعوات التي انطلقت في ذلك الوقت لمحاكمة اسرائيل على جرائم الحرب التي ارتكبتها، وقال ان قادة حماس هم الذين يجب ان يحاكموا كمجرمي حرب وليس اسرائيل.
وقال مردوخ في خطابه ايضا ان امريكا واوروبا يجب الا يسمحا بان ينجح الارهابيون الفلسطينيون، واعتبر ان الدفاع عن اسرائيل في مطلق الاحوال هو دفاع عن عن امريكا واوروبا والعالم الحر، وقال "لقد تعودنا في الغرب ان نفكر بأن اسرائيل لا يمكنها ان تعيش من دون مساعدة اوروبا والولايات المتحدة. لكنني الليلة اقول لكم، علينا في الغرب ان نفكر اننا في اوروبا والولايات المتحدة لا يمكن ان نعيش اذا سمحنا للإرهابيين بان ينجحوا في اسرائيل".
وانهى مردوخ خطابه بالقول: "ان الشعب الاسرائيلي يحارب نفس العدو الذي نحاربه نحن، وهم قتلة يقتلون بدم بارد يرفضون السلام، ويرفضون الحرية، ويحكمون بالأحزمة الانتحارية والسيارات المفخخة والدروع البشرية. وفي مواجهة مثل هذا العدو، لا يمكنني ان اشكك في قرارات اسرائيل في الدفاع عن مواطنيها. واطلب من كل المدافعين عن السلام والحرية ان يتخذوا نفس الموقف".
تعمدت ان اورد هذه المقتطفات من خطاب مردوخ هذا بالذات لأنه كما قلت يلخص موقفه من اسرائيل ومن العرب والفلسطينيين، ولأن ما قاله يمثل بداهة الموقف الذي تتبناه كل اجهزته الاعلامية الاخطبوطية. وهو له عشرات التصريحات والاحاديث التي تعبر عن نفس هذه المواقف.
ومردوخ لا يكتفي بالدعم الاعلامي والسياسي الرهيب الذي يقدمه وتقدمه اجهزة اعلامه للصهيونية واسرائيل. يتحرك على كل الجبهات لتقديم الدعم العملي المادي للمؤسسات الصهيونية في الخارج، وفي داخل اسرائيل، وايضا الدعم السياسي المباشر.
معروف عنه انه كان صديقا حميما للارهابي شارون، يل انه يعتبر شارون هو مثله الاعلى و"بطله القومي" كما ذكرت مجلة سبكتاتور في عدد 11 ديسمبر .2007 وهوايضا صديق حميم للإرهابي نتيناهو حاليا، وكبار قادة اسرائيل. وعندما كان شارون رئيسا للوزراء، وبعد سلسلة المذابح التي ارتكبها ضد الفلسطينيين، جمع مردوخ كبار المحررين المسئولين في اجهزة اعلامه وذهب بهم الى اسرائيل لزيارة شارون في مزرعته لاظهار الدعم والتاييد له، وقام معهم بجولة لتفقد المستوطنات الاسرائيلية.
ومثلا، في مايو 2008، اعلن مردوخ عن تبنيه لمبادرة في اطارها عدد من رجال الامريكيين والاسرائيليين، هدفها بتعبيره "تعظيم الاستفادة من رأس المال البشري الاسرائيلي". وكانت بادرة انشطتها انشاء مدرسة عليا هدفها اعداد جيل جديد من القادة الاسرائيليين، وهي مبادرة كان من طرحها هو رئيس الوزراء الاسرائيلي الارهابي شيمون بيريز.
ومردوخ لا يكف عن قيادة حملات جمع التبرعات لصالح مؤسسات ومشاريع اسرائيلية.
} } }
متهم في أمريكا
وفي اطار نفس هذا الدعم الذي هو بلا حد ولا سقف للصهيونية وللعدو الاسرائيلي، يأتي ايضا الدور الذي يلعبه مردوخ وامبارطوريته الاعلامية في محاربة الاسلام والمسلمين.
على امتداد السنوات الطويلة الماضية، كانت اجهزة اعلام مردوخ في العالم هي التي قادت الحرب الضارية على الاسلام والمسلمين. فصول هذه الحرب باتت معروفة وقد سبق وعرضنا لها في مقالات مطولة عدة، ابتداء من تصوير الاسلام كدين يحرض على الارهاب الى تصوير المسلمين والعرب كارهابيين وخطر على العالم كله، وحتى التحريض على العدوان على الدول العربية والاسلامية.
واجهزة اعلام مردوخ وقفت بحزم وقوة دفاعا عن كل الاعتداءات والجرائم التي ارتكبت بحق الدول العربية والاسلامية ، وخصوصا غزو واحتلال افغانستان والعراق وتبريرا لكل هذه الجرائم.
دور اجهزة اعلام مردوخ معروف هنا على نطاق واسع، وخصوصا الدور الذي تلعبه قناة فوكس التليفزيونية في امريكا، والذي كان موضع تحليلات شتى.
والذي لابد من الاشارة اليه في هذا السياق ان هناك عددا كبيرا من الكتاب والمحللين الأمريكيين الذين يتهمون مردوخ بلعب دور تخريبي في الولايات المتحدة لحساب اسرائيل والصهيونية العالمية.
ولا يتسع المجال لاستعراض تفصيلي لآراء هؤلاء المحللين الامريكيين. لكن نشير مثلا الى تحليل مطول كتبه المحلل الأمريكي المعروف جوردون داف في نوفمبر 2009 يندد فيه بتحريض محطة فوكس، وعبر الكثيرون من معلقيها، على استمرار الحرب في افغانستان والعراق تحت دعاوى ضرورات مكافحة الارهاب.
في تحليله قال الكاتب ان فوكس نيوز مملوكة لروبرت مردوخ، المتحدث باسم اسرائيل، وقال: "اسرائيل تريد للحرب ان تستمر الى الابد، وعلى الرغم من ان مردوخ الآن مواطن امريكي، الا انه هو واجهزة اعلامه لا يخدمان امريكا. وما هو في مصلحة اسرائيل ليس بالضرورة في مصلحة امريكا".
بل انه في اعقاب هجمات 11 سبتمبر بفترة، وعندما بدأ كثير من المحللين الامريكيين يثيرون الشكوك حول الرواية الرسمية الامريكية للهجمات، واشار بعضهم باصابع الاتهام الى اسرائيل باحتمال الضلوع في هذه الهجمات، كان روبرت مردوخ حاضرا في هذا الجدل.
الذي حدث هنا ان بعض المحللين الأمريكيين اتهموا مردوخ بالمعرفة المسبقة بالهجمات. الحديث يطول في هذه القضية وليس هنا مجاله. لكن نشير مثلا الى تحليل مطول كتبه كريستوفر بولين في اكتوبر 2003 تحت عنوان "11 سبتمبر: ما الذي عرفه مردوخ؟". الكاتب يتحدث باختصار عن ان مردوخ انتج قبل اكثر من عام من وقوع هجمات 11 سبتمبر، برنامجا تليفزيونيا عن هجوم ارهابي على برجي مركز التجارة صور بالضبط الهجمات كما وقعت بعد ذلك. اذ صور البرنامج عملية اختطاف طائرة مدنية واستخدامها في شن الهجوم. ويتحدث عن تفاصيل اخرى كثيرة في هذا الاتجاه ليس هنا مجال الخوض فيها.
كما ذكرت، المحللون الامريكيون، يثيرون هذه القضايا المتعلقة بمردوخ ويشككون في ولائه لأمريكا من منطلق ان ولاءه المطلق هو لاسرائيل، ومن منطلق ان عداءه المعروف للاسلام وللعرب والمسلمين يدفعه لتسخير اجهزة اعلامه بما لا يخدم بالضرورة امريكا ومصالحها.
} } }
تحريض على المسلمين
وفي عدائه للاسلام والعرب والمسلمين، لا يكتفي مردوخ ايضا بالحرب الضارية التي تشنها اجهزة اعلامه، ولكنه لا يترك هو نفسه فرصة تتاح له للحديث الا ويشن هجوما ضاريا على ما يعتبره تطرفا وارهابا اسلاميا ويتحدث عن ذلك باعتبار انه الخطر الاول الذي يتهدد امريكا والغرب.
ويكفي هنا مثلا ان نشير الى ما قاله منذ فترة عن الاسلام والمسلمين في استراليا والغرب، وفجر غضبا عارما في اوساط المسلمين في استراليا.
قال مردوخ انه على قناعة كاملة بأن المسلمين لا ولاء لهم للدول التي يعيشون فيها، وانهم "يفضلون دائما ان ترتبط هوياتهم بدينهم اكثر من ارتباطها بالجنسية التي يحملونها". واضاف في حوارمع المحطة التاسعة الاسترالية "ادراكنا لهذه الحقيقة عن المسلمين يجب ان تدفعنا لاتخاذ كل ما يلزم من تدابير وخطوات للحيلولة دون تفسخ المجتمع وانقسامه". وقال ايضا: "يجب ان نكون حذرين بشأن المسلمين لأن احساس هؤلاء الناس بدينهم وولائهم له يلغي أي احساس آخر لديهم بالانتماء للوطنية او القومية مهما كان المكان الذي يعيشون فيه".
ما قاله مردوخ واضح. هو يتهم المسلمين في استراليا والدول الغربية كلها، والذين هم مواطنون في الدول التي يعيشون فيها بانعدام الوطنية والولاء. وهو يحرض الدول الغربية على ان تتخذ أي اجراء تراه للتنكيل بهؤلاء المسلمين.
بالطبع، من السهل ان نلاحظ ان هذا الذي يقوله هو بالضبط نفس ما تروج له اجهزة الدعاية الصهيونية واسرائيل في الغرب ضد المسلمين الاوروبيين وتصويرهم على انهم خطر داهم يهدد المجتمعات الغربية، وبالتالي يجب استهدافهم وحتى التخطيط لطردهم من الدول الاوروبية بالذات.
} } }
هذا الذي ذكرناه عن روبرت مردوخ ومواقفه، والدور الذي تلعبه اجهزة اعلامه الاخطبوطية في العالم ليس في الحقيقة الا مجرد نبذة قصيرة مما يجب ان يقال بهذا الصدد.
ذكرنا هذا، لنصل الى القضية الجوهرية التي نريد ان نناقشها.
ماذا وراء افساح المجال امام مردوخ لاقتحام ساحة الاعلام والسياسة في العالم العربي؟.. ماذا وراء شراكاته الاستراتيجية مع مؤسسات عربية كبرى؟.. واي دور من المتوقع ان يلعبه اعلاميا وسياسيا؟
هذا ما سوف نناقشه تفصيلا في المقال القادم.