انتهت القمة العربية في سرت الليبية. لسنا هنا بصدد تقييم القمة وما انتهت اليه. وعلى اية حال، ليس هناك أي تطور جديد بارز يلفت النظر فيما انتهت اليه القمة يمكن ان ننوه به او نتوقف عنده. بشكل عام، الحال قبل القمة، هو الحال بعدها.
الأمر الذي نريد ان نتوقف عنده هو بعض المواقف التي تم التعبير عنها اثناء القمة، وتعتبر، كما نراها، في عداد الغرائب السياسية. او لنقل انها على الاقل تندرج في عداد المواقف غير المفهومة الى حد بعيد. لنبدأ بما قاله الزعيم الليبي معمر القذافي، رئيس القمة، في الكلمة الافتتاحية. ونقصد تحديدا الدعوة التي اطلقها بعدم الالتزام بقاعدة الإجماع في العمل العربي المشترك، وقوله بهذا الصدد: "لم نعد بعد الآن ملزمين بالإجماع، واذا ما قررت مجموعة من الدول العربية شيئا تستطيع ان تمضي فيه لكي ترضي الجماهير.. أما اذا قررت مجموعة اخرى ان تراوح مكانها فتستطيع ان تراوح.. نحن نتقدم، ومن يريد أن يراوح مكانه هو حر".
بداية، هذا الذي يدعو اليه الزعيم الليبي هو للأسف الحادث فعلا. الحادث فعلا ان أي مجموعة من الدول العربية، او أي دولة عربية تريد ان تفعل شيئا لا تتردد في ان تفعله، بغض النظر عن الموقف العربي العام، وبغض النظر حتى عما تقرره القمم العربية نفسها.
لكن هذا بالضبط هو إحدى المصائب الكبرى في العمل العربي. نعني عدم القدرة نظريا او عمليا على بلورة مواقف عربية مشتركة متفق عليها ازاء مختلف القضايا، والالتزام بهذه المواقف. وهذا الانقسام هو باتفاق الجميع احد اكبر مصادر الضعف في الموقف العربي.
ووجه الغرابة الاساسي فيما قاله الزعيم الليبي هو، اذا كان من حق أي دولة عربية او مجموعة من الدول العربية ان تقرر ما تشاء وان تفعل ماتشاء بغض النظر عن الموقف العربي العام، فما هي إذن الجدوى من عقد قمم عربية او أي اجتماعات عربية مشتركة؟.. ما جدوى الحديث عن ضرورة بلورة رؤى ومواقف عربية مشتركة؟
وحين يقول الزعيم الليبي هنا "نحن نتقدم، ومن يريد ان يراوح مكانه هو حر"، فمن يقصد بالضبط بنحن؟.. هل يقصد ليبيا، ام انه يتحدث باسم مجموعة محددة من الدول العربية؟.. وماذا يقصد بالضبط؟.. نعني ماذا يقصد بالتقدم، والمراوحة في المكان؟.. تقدم في ماذا بالضبط؟.
ولنتوقف ايضا عند الدعوة التي اطلقها الرئيس اليمني علي عبدالله صالح في القمة. نعني دعوة هذه القمة، قمة سرت، الى "انشاء الاتحاد العربي على غرار الاتحاد الاوروبي والاتحاد الإفريقي، بأجهزة تنفيذية وصلاحيات اوسع في مستوى العمل العربي المشترك". وفي صلب اقتراح الرئيس اليمني ان اعلان انشاء هذا الاتحاد هو بديل لجامعة الدول العربية.
بالطبع، الاتحاد العربي، بل والوحدة العربية الكاملة، هي الحلم النبيل لكل مواطن عربي. ومن الجميل ان تظل الدعوة إلى الاتحاد مطروحة على الساحة العربية. لكن، أليس غريبا مطالبة قمة سرت باعلان الاتحاد العربي الآن وفورا؟.. اليس غريبا اطلاق هذه الدعوة في الوقت الذي تعجز فيه الدول العربية اصلا عن ان تنهي ما بينها من خلافات، وتعجز عن ان تتخذ مواقف عملية محددة ازاء أخطار وتحديات كبرى تعصف بالأمة؟
ثم، ما هي العلاقة بين الدعوة إلى إنشاء الاتحاد العربي والغاء الجامعة العربية؟..
ايضا، لنتوقف عند الدعوة التي اطلقها عمرو موسى الامين العام للجامعة، بإقامة رابطة مع دول الجوار، او ما اسماه "اقامة منطقة جوار عربي تضم الدول المجاورة للدول العربية".
طبعا، نحن نريد افضل العلاقات مع دول الجوار. لكن، اليس من الاجدى ان نرمم البيت العربي اولا، قبل ان نفتح "بيتا جديدا" يجمعنا مع دول الجوار؟.. اليس من المنطقي ان نفتح حوارا بين الدول العربية نفسها ونحقق المصالحة العربية، قبل ان نفتح حوارا مع دول الجوار؟.. وكيف فات على الامين العام ان بعضا من دول الجوار هذه لديها اطماع في العالم العربي، ولديها مشاريع تتناقض جذريا مع أي مصالح عربية؟.. فأي رابطة هذه التي يدعو الى اقامتها مع هذه الدول؟.
المشكلة في هذه المواقف التي تم التعبير عنها في القمة العربية في سرت ليست فقط انها مواقف تبدو غريبة وغير منطقية. المشكلة انها في جوهرها عرَض أو أعراض لمرض عضال يعانيه النظام العربي.
وهذا حديث آخر.
© جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia.