مضى حتى الآن أكثر من أربعة عقود، منذ اتجه النظام العربي الرسمي إلى القبول بمشروعية اغتصاب الصهاينة لأرض فلسطين، مقابل استعادة الأراضي التي احتلت في عدوان يونيو/حزيران عام 1967م . كان القبول بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 من قبل العرب، قد تضمن اعترافاً صريحاً بالعجز عن مواجهة الكيان الغاصب، رغم وعيهم المبكر بأن “ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة”.
ومنذ ذلك الحين، حتى تاريخه طرحت عشرات المشاريع، وزار المنطقة وسطاء من مختلف الأجناس في رحلات مكوكية، من أجل التوصل إلى تطبيق القرارات الدولية، وتحقيق السلام في المنطقة . ولم يتمكن العرب من تحقيق اختراقات عملية باتجاه استعادة بعض حقوقهم، رغم تسليمهم بحق اليهود في الاحتفاظ بما سطوا عليه في نكبة عام 1948 . وجاءت معركة العبور عام ،1973 التي كان من المفترض أن تشكل عاملاً أساسياً في تحقيق التوازن النفسي لجيوش تمكنت من استعادة حضورها من خلال بسالتها ومهارة أدائها، لكن النتائج السياسية لم تكن متسقة أبداً مع ملحمة أكتوبر البطولية .
لقد أراد صناع القرار لهذه الحرب أن تمثل انتقالاً استراتيجياً، من الالتزام بحق الأمة العربية في فلسطين، كاملة غير منقوصة، إلى التسليم بأن تلك الملحمة، كما أملوا، هي آخر الحروب، وأن السلام وليس الأرض هو مطلب العرب . ولأن مطلب السلام بحد ذاته يصبح من دون معنى حين لا يرتبط بالأمن، الذي هو مبعث الطمأنينة لكل البشر، أصبحت خطانا تنحدر نحو واد سحيق، غيبت فيه استراتيجيات الفعل الإرادي الإنساني، وأصبح حراكاً محكوماً بقانون رد الفعل، باتجاه سالب مستمر، منحناه اسما مزيفا هو “هجوم السلام” .
توقفنا عن الكلام بشعارات التحرير، واعتبرنا مرحلتها عدمية وماضوية، واستبدلنا أناشيدنا الوطنية، بما يطمئن السادة الكبار بصدق نوايانا، وجرى فك ارتباط أول وآخر، واندفعنا في ذات الاتجاه ووقعنا معاهدة كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو، لكن الحرب استمرت من طرف واحد، وتواصلت الاعتداءات على الأمة لتستباح أول عاصمة عربية في مطلع الثمانينات من القرن المنصرم، وليدشن القرن الجديد باستباحة واحتلال عاصمة عربية أخرى . ونحن لما نزل طلاب سلام، وليس أمن .
وفي غمرة الشعور بالمرارة والمهانة، وأمام فشل مختلف المشاريع التي طرحت للتوصل إلى حل يضمن الحدود الدنيا من حقوق الشعب الفلسطيني، انطلقت انتفاضة الأقصى، معبرة عن موقف مبدئي وأصيل ورافض للمهانة والذل . ومع غياب الاستراتيجية المقاومة أصبح الاستشهاد وليس التحرير هو الهدف . وكانت تلك سمة طبعت العقود الثلاثة الأخيرة من تاريخنا . وذلك بالتأكيد شعور نبيل يجسد الإباء والكرامة والعزة، ولكن العمل المثابر والدؤوب والقراءات الدقيقة والتحليل والتفكيك والاستراتيجيات الصحيحة هي التي تصنع النصر، أما ما عدا ذلك فإنه يضعنا أمام أمرين، إما التنازل والتفريط وضياع الحقوق، أو النهج العدمي، المعمد برائحة الموت والدم، وعدم وضوح أين وإلى أين تتجه البوصلة .
أما العدو الصهيوني، فخارطة طريقه واضحة وجلية أمامه . المزيد من الاندفاع في استكمال تنفيذ المشروع الصهيوني، المزيد من الهجرة اليهودية إلى فلسطين، مضاعفة عدد المستوطنات في عموم فلسطين، بما في ذلك الأراضي التي احتلت عام ،1967 بناء الجدران العازلة، وتهويد المقدسات الإسلامية، وفي مقدمتها الحرم الإبراهيمي، وتحويل مناطق الضفة والقطاع إلى كانتونات معزولة عن بعضها، وإحكام القبضة على المعابر . والتأكيد على يهودية الكيان، بما يختزله المعنى من ضرورة مصادرة الأراضي الفلسطينية، وطرد السكان الأصليين عن ديارهم .
لا يتردد الكيان الغاصب، من الاعتداء على سيادة الدول، مجيشا أدوات قتله ومخابراته، لملاحقة المقاومين، الذين يتحدون الأسطورة والسطوة التوراتية، المسربلة بزيف أرض الميعاد . وليس اغتيال الشهيد محمود المبحوح على واحة دبي الآمنة المسالمة، إلا غيضاً من فيض، على طريق تركيع الأمة العربية وقهر إرادتها .
ما حدث في مدينة دبي، ليس اعتداء على السيادة الوطنية لدولة الإمارات العربية فحسب، بل هو عدوان صارخ على الأمن القومي العربي . وهو اتهام واضح وصريح للدول التي استخدمت جنسياتها، في إعداد جوازات السفر للمجرمين الذين نفذوا عملية الاغتيال . وقد آن لنا، بعد تكشف الحقائق، أن نسمع من هذه الدول، ما يؤكد موقفاً حاسماً في رفض السلوك “الإسرائيلي” . آن لهذه الدول، إن كان لها بقية من احترام للقانون الدولي ولشرعة الأمم، أن تكفر عن بعض من خطاياها، تجاه العرب وشعب فلسطين، خاصة وأن من بينها من منح الوعد بتحويل فلسطين إلى وطن قومي لليهود .
لقد عودتنا هذه الدول أن تنتفض بغضب وشراسة، عندما يقوم أحد المقاومين الفلسطينيين، بتنفيذ عملية فدائية داخل حدود فلسطين، موجهة تهمة الإرهاب ومنادية بالويل والثبور بحق العرب والمسلمين، فهل سنرى منها موقفا مماثلا تجاه العبث الصهيوني بحقنا .
على الصعيد الفلسطيني، لا يبدو أن عربدة “إسرائيل”، ودم الشهيد المبحوح، قد قدما دروساً عملية للقيادات الفلسطينية، بالتوقف عن الصراع في ما بينها، والامتناع عن اللهاث خلف سراب السلام، وأن البديل عن ذلك هو الوحدة الفلسطينية، وتفويت الفرصة على العدو من استثمار حالة التشظي والتفتيت لقضم المزيد من الأرض والحقوق . ولتشويه صورة الفلسطينيين عالمياً، بين كيان “إرهابي” في غزة، وآخر “فاسد” في رام الله، كما أظهرته القناة “الإسرائيلية” التلفزيونية العاشرة .
الحديث الذي يجري الآن عن استئناف المفاوضات بين الكيان الغاصب والسلطة الفلسطينية، خلال الثلاثة أسابيع، هو محاولة صهيونية للتغطية على جريمتها، ولن يكون سوى محطة أخرى، في مسلسل العبث بمقدرات شعب فلسطين . إن تزامن الحديث عن السلام مع الاعتداء على الحرم الإبراهيمي وطمس هويته العربية والإسلامية، واغتيال المبحوح، ومواصلة مخططات القمع والتوسع الاستيطاني، وتجريف الأراضي، ومواصلة بناء الجدران العازلة، واستمرار عمليات التهويد يغيب توازن القوة بين الأطراف المتفاوضة، والذي هو شرط بديهي ولازم للتوصل إلى حلول مقبولة، تكفل حقوق الأطراف المتفاوضة .
لقد كشفت تجربة صمود شعب لبنان في حرب يوليو/تموز عام ،2006 وصمود غزة في مطلع العام المنصرم، أن الأمة زاخرة بالقدرة على التصدي والممانعة، وأن خيار التصدي، رغم كلفته هو أسهل بكثير من استمرار اللهاث خلف سراب هو “السلام المستحيل”، فهل ننتظر خارطة طريق عربية جديدة تعيد الاعتبار للكرامة المهدورة؟
© جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia.