عندما انتهت لجنة التحقيق البريطانية من الاستماع لرئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، وهو يجيب عن أسئلة أعضاء اللجنة عبر ستِّ ساعات، وقفت عائلات الجنود البريطانيين القتلى في العراق وهتفت في وجه بلير، وأمام الملأ، “كاذب ومجرم”.
كاذب لأنه أنكر أنه قد لفَّق القصص الخيالية لإقناع الرأي العام البريطاني والبرلماني ومجلس اللوردات بقبول إعلان الحرب على العراق واحتلاله دون أية مبررات شرعية وطنية أو دولية.
ومجرم لأنه أثبت أنه بلا ضمير عندما رفض إعلان ندمه على ما فعل بشعب العراق، من مليون قتيل وملايين الجرحى والمشردين واليتامى والثكالى والمهجّرين. بل عزّز غريزة الإجرام عندما أصرّ على أنه سيفعل الأمر ذاته لو وجد الرئيس العراقي السابق مرة أخرى.
والواقع أن بلير لم يكذب فقط بالكلمات، وإنما أضاف إليها بالسكوت عن ألف خطأ وألف خطيئة ارتكبت بحق العراق الوطن والعراق الشعب، وانطبق عليه ما قاله أدريان ريشن من “أن الكذب يمارس بالكلمات كما يمارس بالسكوت”. بل إن الإنسان الذي استمع لهذا الكذّاب، وهو يدلي بشهادته المزورة، كان يتذكر قول الفيلسوف نيتشه من “أن أكثر الكذب انتشاراً هو الكذب على النفس”. وكانت معرفة بلير اليقينية بأنه كان يكذب على نفسه، وخوفه من اكتشاف الناس لكذبه تتجلّى في عدم قدرته على النظر إلى وجوه سائليه، وظلت عيناه متجهتين نحو الأرض بانكسار المتغطرس الذليل. ولم تستطع تلاعباته المضحكة بالألفاظ ولا حركاته الجسمية البهلوانية أن تخفي انكسار الكاذب الداخلي وشعوره بالهوان على نفسه، وبأن كل ما بناه طيلة حياته قد ذهب أدراج الريح. ولا يفهم الإنسان لماذا لم يقترح أحد أعضاء اللجنة باستعمال ماكنة اكتشاف الكذب الشهيرة لمواجهة كذّاب أشر.
والواقع أن السنين الأخيرة أظهرت أن الغالبية الساحقة من حكومات ما يعرف “بالديمقراطيات العريقة” في الغرب تمارس الكذب والتستّر على الكذب. وبهذا سقط أحد أهم أعمدة الديمقراطية: عمود الشفافية. وكان توماس هاردي يقول “إن أساس الأخلاقية هو انتفاء وجود الكذب واختفاؤه إلى الأبد”، وإذن فقد أصبحنا أمام حكومات غربية ناقصة الديمقراطية وناقصة الأخلاق.
ولنا في تراثنا الإسلامي العظيم: “ما زال العبد يكذب ويكذب حتى يكتب عند الله كذاباً”. ومن المؤكد أن بلير قد دخل قائمة الكذابين.
لكن التحقيق مع بلير أظهر صفته الثانية التي أطلقها أهل الضحايا: صفة الإجرام. وأهم صفة في المجرم هي غياب الضمير والحساسية الإنسانية تجاه عذابات الآخرين، وبالتالي عدم القدرة على الندم. ولذلك فإن بلير لا يستطيع ان يرى يده الملطخة بدماء الأبرياء، التي لن تستطيع مياه المحيطات غسلها. وبعكس ليدي ماكبث المعذّبة، والتي جعلها شكسبير تهذي ندماً في لياليها، فإن بلير ينام هادئاً من دون أحلام ومن دون كوابيس، فالذي لا ضمير له لا أحلام عنده.
وكما أن المثل يقول إن السارق يعتقد أن كل الآخرين سارقون، فكذلك الحال مع عديمي الضمير. ولذلك اعتقد بلير أن كل الذين شاركوه في تغطية الجريمة تجاه العراق سيكونون عديمي الضمير مثله، ليكتشف أن الكثيرين استيقظ فيهم الضمير وندموا وفضحوه وحكومته في لجنة التحقيق. ويظهر أن رئيس الوزراء السابق لم يسمع بالمثل الذي يتداوله سكان دولة ملاوي الإفريقية: “من أن الجريمة تترك أثرها، تماماً كخنفساء الماء والحلزون”.
والسؤال موّجه الآن للحكومات العربية وللمنابر الإعلامية العربية والدولية الشريفة: هل ستقبلون بعد اليوم استقبال هذا الكذّاب المجرم، ليستمر في ممارسة كذبه أم ستنبذونه كالشخصية الملوثة؟ ويا سلطة رام الله الفلسطينية: هل ستتعاملون بعد اليوم مع هكذا شخصية؟