اشرت في العمود السابق الى التحقيق المطول لمجلة "نيوزويك" الامريكية الذي يحمل عنوان "عودة النيوكونز"، أي المحافظين الجدد في امريكا ، والذي يرصد عودتهم القوية الى الساحة الامريكية في الفترة القليلة الماضية.
والحقيقة ان كلمة "عودة" هنا ليست دقيقة تماما. هم لم يرحلوا عن ساحة الفكر والسياسة والاعلام في امريكا في أي وقت كي يعودوا. رغم خفوت صوتهم في اواخر عهد بوش ومع مجيء اوباما الى السلطة ، الا انهم ظلوا قوة موجودة في مراكز ابحاثهم وفي مواقع سياسية واعلامية مؤثرة. وظلوا يطرحون افكارهم ويدافعون عنها ، وظلت اجهزة اعلام قوية ومؤثرة، من محطات تليفزيونية وصحف ومجلات كبرى، تتبنى خطابهم وتدافع عنه وتروج له. كل ما في الأمر ان هؤلاء في عهد اوباما ، لم يعودوا في مواقع السلطة وصناعة السياسة واتخاذ القرار.
وهم منذ اليوم الاول لتولي اوباما السلطة ، لم يكفوا عن انتقاده، واتهامه بالضعف ، وبالعجز عن حماية امريكا في مواجهة التهديدات الخارجية بما يروج له من موقف وسياسات في العالم.
اذن، المحافظون الجدد لم يختفوا في أي وقت. الجديد على النحو الذي يرصده تحقيق الـ "نيوزويك"، انهم مؤخرا عادوا الى الواجهة واصبح صوتهم اعلى ومسموعا اكثر. ليس هذا فحسب، بل بدا ان التطورات تسير في صالحهم وفي صالح افكارهم وسياساتهم.
والامر الملفت هنا هو ان اوباما نفسه هو الذي مهد الطريق الى عودتهم بهذا المعنى.
فعل هذا حين طرح استراتيجيته الجديدة في افغانستان ، والتي قامت في جوهرها على تصعيد الحرب بدلا من العمل على انهائها.
وفعل هذا، حين القى خطابه الشهير لدى تسلم جائزة نوبل للسلام، والذي كان في جوهره عودة الى خطاب جورج بوش، الذي هو خطاب هؤلاء المحافظين الجدد ، بحديث عما اسماه "الحرب الضرورية والعادلة".. الى آخره.
وفعل هذا بعد الحادثة المزعومة لمحاولة تفجير الطائرة الامريكية والتي نسبت الى تنظيم القاعدة، واعادته لخطاب الحرب على الارهاب بكل ما ارتبط بذلك من مواقف وسياسات عدوانية تستهدف العرب والمسلمين خصوصا.
بعبارة اخرى، اوباما بهذا الذي فعل، وبفشله بالاضافة الى هذا في حل الازمات العالمية الكبرى وخصوصا الصراع العربي الاسرائيلي وازمة ايران، هو الذي رد الاعتبار الى المحافظين الجدد وخطابهم ومهد كما قلت الطريق الى عودتهم.
بعبارة ثانية، فان اوباما عجز عن التمسك بخطابه المختلف عن خطاب هؤلاء ، وعجز عن تنفيذ رؤيته البديلة لرؤيتهم للعالم ولدور امريكا.
مجلة الـ "نيوزويك" في تحقيقها عن عودة المحافظين الجدد انتهت الى نتيجة مؤداها انه طالما بقي الوضع في الشرق الاوسط وخارجه كما هو في حالة اللاحسم واللاحل ويراوح مكانه، فان الامريكيين يمكن ان ينفد صبرهم اكثر واكثر مع الدبلوماسية ومع سياسات التوافق السياسي ومع السياسات الغامضة غير الحاسمة في الخارج ، تماما كما اصبحوا اقل حماسا لأوباما في الداخل.
تحقيق المجلة يريد ان يقول انه بناء على خبرة اوباما الخارجية في الفترة الماضية وما انتهت اليه ، فان قاعدة شعبية في امريكا آخذة في الاتساع معارضة لسياساته ومواقفه وغير متحمسة لها، ومؤيدة بالمقابل لمواقف وسياسات المحافظين الجدد.
وبناء على هذا التحليل، ينتهي تحقيق المجلة الى ان المحافظين الجدد اصبحوا موجودين بقوة على الساحة، ومع عزمهم وتصميمهم واصرارهم وثقتهم في انفسهم، فانهم سيزدادون قوة ونفوذا، وسيستمرون على الارجح في النمو وسيتصاعد نفوذهم وتأثيرهم.
كما قلت في بداية العمود؟ السابق، الجدل حول هذه القضية شديد الاهمية بالنسبة لنا في العالم العربي والاسلامي.
لماذا؟.. هذا ما سنناقشه في عمود قادم بإذن الله.