من فلسطين إلى العراق فأفغانستان.. وحتى إيران لم يقل شيئاً ونَفذّه… وفي محصّلته النهائية لم يخرج عمّا "أنجزه" سلفه!
قبل إنتهاء العام الأول من ولاية الرئيس الأمريكي باراك أوباما، إلتقت انتقادات الكثير من السياسيين والمحلّلين على وصف أدائه بالتذبذب والتردّد وحتى العجز عن إنجاز ما وعد بتنفيذه أثناء حملته الإنتخابية وبُعيد توليه الرئاسة، بغية تبييض الصفحة السوداء التي تركها سَلَفه جورج بوش في كل الميادين الداخلية والخارجية، لكن شيئاً مما تحدَّث عنه خصوصا على الصعيد المتعلق بقضايانا لم يُنفّذ حتى الآن. ورغم ذلك ما زال يؤكد وإن بنبرة اقلّ وثوقاً وأكثر تردداً، على التمسّك بما اختطّه لسياسة الولايات المتحدة، وما يودّ تنفيذه حسبما وعد – ولو بالكلام حتى الآن -.
إذا إستعرضنا ما تعهّد به فيما يتعلق بتحقيق التسوية السلمية ل "مشكلة الشرق الأوسط"، وتأكيده على حلّ الدولتين، وإشارته إلى "الشعبين اللذين عانا من ماضٍ مؤلم" دون أن يُفرّق في كلامه بين معاناة شعب سبَّبها قيام الكيان الصهيوني على أرضه، ومعاناة "الشعب الآخر" لسبب لا علاقة للأول به، ومع ذلك تمّ التكفير عنها على حسابه…
… إذا استعرضنا ذلك وقارناه بما نفّذه على الأرض، وما وصلت إليه الحال في هذه الأيام بالنسبة للمشكلة التي أعتُبرت إمتحانه الأول، لوجدنا أننا لم نتقدّم خطوة إلى الأمام على طريق الحلّ السلمي، بل على العكس عُدنا الى الوراء، وكانت عودتنا عبر أطروحات خبيثة مخادعة، حربائية الصياغة والمفردات، ولم تَقِلَّ في أذاها – سواء أراد أوباما ذلك أم لم يَرِدْه – عمّا ارتكبه مجرم الحروب جورج بوش، خصوصاً بعد رجوعه عن موقفه السابق برفض استمرار عملية الاستيطان الصهيوني في مدينة القدس، وما ترتّب على ذلك من آثار سلبية عادت عليه وعلى شعبنا، وقضايا السلم في العالم، كما أدّت في المقابل إلى تعزيز النَفس الصهيوني الإستعلائي داخل "إسرائيل"، بدل أن تُخفّف من غلوائه. وقد رافقها تردّد في مواقفه تجاه القضايا الساخنة الأخرى التي حدّدتها إدارته بالعراق وإيران وأفغانستان، إلى حدّ العجز عن اتخاذ قرار حاسم، حتى لو كان في غاية السوء كقرارت سلفه سيّء الصيت. وهذه الكيفية هي التي عبّرت عن شخصيته حتى الآن، ولم تختلف في محصّلتها النهائية، وإن اختلفت في أسلوبها، عن محصّلة شخصية بوش التي كانت حازمة في القرار والموقف الإجرامي بشكل أكثر خصوصية.
القضايا الأخرى على نفس المنوال!
فمن يتمعّن بما قاله أوباما عن الوضع العراقي، وكيف أن الحرب بالنسبة لهذا البلد "كانت قراراً لم نضطر إلى إتخاذه بل اخترناه على خلاف أفغانستان "، ثم وَعْده بفتح تحقيقات حول الجرائم التي ارتكبتها قواته ضد المدنيين فيه، وعزمه على نشر صور الإنتهاكات والمعاملة غير الإنسانية التي تعرَّض لها المعتقلون في سجونه، سوف يرى أن كل هذا الطرح وما رافقه من وعود، لم يكن إلاّ كلاماً في الهواء. فلا الإنسحاب الذي حُدّد موعده يبدو مؤكداً على الطريق ولا العدالة والإستقرار قد تحقّقا، وما احتلال حقل الفكّة النفطي من قبل إيران وسكوت الأميركان على ذلك، إلاّ مثلاً على ما يمكن أن يحدث مستقبلاً بصورة أفظع وأكثر ضرراً، الأمر الذي يستدعي "بطبيعة الحال" استمرار وجود قوات الإحتلال الأميركي تطبيقاً لـِ "روح الاتفاقية الأمنية"، طالما بقي التهديد الخارجي قائماً، وهذا ما أكد عليه مؤخرا بول برايمر الحاكم الإداري السابق في العراق المحتل في حديث له مع ال بي بي سي بدعوته باراك أوباما الى عدم سحب القوات الأميركية من العراق حسب الوعد الذي حدده لنفسه بحلول شهر تموز من العام المقبل!
وهكذا تبدو النتيجة واضحة من خلال الإبقاء على معادلة تقاسم حكم العراق بين "الشيطان الأكبر" وعضو "محور الشر" قائمة إلى أن يشاء الله! ولهذا السّبب – على الأرجح – لم يأتِ السناتور الديمقراطي السابق جورج ماكغيفرن على ذِكْر العراق في المقال الذي كتبه مؤخراً حول التحديات التي تواجه الولايات المتحدة، وحذّر فيه الرئيس أوباما من عواقب الفشل الأميركي بأفغانستان، وذكّره بتجربة فيتنام، ثم طلب منه إعادة مراجعة استراتيجيته، ليس بالنسبة لأفغانستان فقط، بل بالنسبة لإيران أيضاً التي على الولايات المتحدة أن تعرف هدفها طويل المدى من "التعامل" معها ـ كما قال ـ هل هو تشجيعها على أن تكون قوة إقليمية مميّزة، أي شريكة لها ولإسرائيل كما كانت في الماضي، أم التعامل معها على أساس أنها عدّوة ومصدر عدم استقرار؟. ويعود عدم ذكر ماكغيفرن للعراق إلى سببين لا ثالث لهما على الأرجح: إما أنه اعتبر الإنسحاب الأميركي من تحصيل الحاصل، أو أنه اعتبر الإحتلال باق، حسب رؤيته للترتيبات القائمة على الأرض، مهما كانت تصريحات أوباما وإدارته وجنرالاته متباينة حول هذا الموضوع!
أما أفغانستان، فقد تراوحت مواقفه المتذبذبة منها بين اعتبار حربها " حرب ضرورة " والتوجّه نحو النظر في جدواها وجدوى بقاء القوات الأميركية فيها، إلى الإنتقال نحو تبنّي موقف مناقض عبّر عنه أمام قمة الأمم المتحدة في أيلول الماضي بالقول "إن موضوع الإنسحاب أو الحدّ من عدد القوات الأميركية في أفغانستان، لم يعد خياراً مطروحاً"، رغم إدراكه وإدراك القيادات السياسية والعسكرية الأميركية أن الوضع في هذا البلد لم يتغيّر، ولم يتم "ترتيب" أوضاعه كما تريد الولايات المتحدة. فلا القاعدة قُضيَ عليها، ولا أفغانستان شهدت الحرية والأمان والديمقراطية، بل تم الإكتفاء باسقاط نظام حركة طالبان التي ما لبثت أن لملمت صفوفها وعززت قدراتها وباتت تُهدّد بالعودة كما كانت الى أفغانستان والتأثير أكثر من السابق في باكستان، وهذا الوضع يعني أنه إذا كانت مخططات الأميركان في هذا البلد قد ضُربت في الصميم، فإن ما ينتظرهم أخطر مما مروا به في السابق.
مَثَل على الفشل… من بريطانيا
ومع ذلك، فإن حيرة أوباما وضعفه أمام اتخاذ القرار المناسب والجريء لم يتوقفا عند هذه الحدود. وإذا أردنا إحصاء الأمثلة فهي طويلة ولا تقتصر على موقفه التراجعي من موضوع الردع الصاروخي، ولا الحرص على مداراة إيران والصبر عليها والتراجع عن كل التهديدات التي وُجهّت لها في السابق، ولا التوقّف عن التحقيق ونشر صور التعذيب، بل وصلت الى حد التوقّف عن مساعدة أقرب حلفاء الولايات المتحدة في الكشف عما ارتُكب من جرائم، الى درجة دفعت عدداً من النواب البريطانيين، وهم أعضاء اللجنة البرلمانية المهتمة بمتابعة برنامج المخابرات الأميركية حول الترحيل السرّي للمشتبه بعلاقاتهم مع الإرهاب، إلى رفع دعوى قضائية ضد وكالة المخابرات الأميركية أمام إحدى المحاكم الأميركية في واشنطن العاصمة، يُطالبونها فيه – ومعها مكتب التحقيقات الفيدرالي وأجهزة الأمن الأخرى – بالكشف عن الدور البريطاني في برنامج الترحيل السّري، بعد أن امتنعت عن الرد على المعلومات التي طلبتها هذه اللجنة طوال عام كامل، ومن بينها ما يتعلق بتسليم القوات البريطانية في العراق "محتجزين مشبوهين" إلى الجيش الأميركي، حيث تمّ نقلهم جواً إلى أفغانستان وبعدها إلى جزيرة دييغورا غارسيا أو إلى البلدان المتخصصة بخدمة الأميركان في مجال التعذيب على طريقة غوانتانامو وأبو غريب، إضافة إلى ما يتعلق بمعرفة المزيد عن حجم استخدام المجال الجوّي البريطاني وكذلك المطارات لهذا الغرض، وطبيعة الإتفاقات المخابراتية أو العسكرية المبرمة بين الولايات المتحدة وبريطانيا حول تسليم المطلوبين.
اختلفت المنطلقات والنتيجة واحدة!
الغريب في هذا السياق، أن فشل بوش بأسلوبه الإجرامي في تحقيق أي إنجاز بالنسبة لمواجهة قضايا الشرق الأوسط والعراق وإيران وأفغانستان، لم يختلف عن فشل أوباما بأسلوبه الدبلوماسي المتردّد في مواجهة هذه القضايا ذاتها. فما هو السرّ الكامن وراء ذلك، باستثناء أن الأول كان واضحاً في غطرسته وعدوانيته، أما الثاني فهو واضح في حرصه على صورة المتواضع كوضوح تعثّره وعدم استقراره على موقف، فضلاً عن أن طبيعة بوش وخياراته كانت أكثر انسجاماً مع مواقف كل من الكونغرس ومجلس الشيوخ.
المؤكد أن هذين السببين لا يفسّران كيف أنه رغم إختلاف منطلقات وأسلوب كل منهما إلا أنهما انتهيا عند نتيجة واحدة. لكن هذا " السّر " يطرح تساؤلات محيّرة ومشروعة في آن، حول خيارات أوباما الحقيقية، منذ بدء حملته الإنتخابية نحو الرئاسة وإطلاقه العديد من الوعود الوردية، ثم تأكيده على التمسك بهذه الخيارات المتناقضة مع نهج سلفه: ترى هل كانت هذه الوعود التي تتلخص باختيار حل الدولتين، واستبدال القتال بالحوار، والعداء بالتفاهم، ووضع حدّ لخرق القانون والملاحقة والتعذيب… الخ، صادرة عن إيمان حقيقي من قبله، أم أنها مجرد أطروحات تكتيكية هدفها التمايز عن سلفه، على أمل أن يُشكّل في نظر الأميركيين والعالم البديل المختلف، ولو في طريقة الطرح على الأقل؟
خطابه في القاهرة دلّ عليه
ثمّة من يقول في الولايات المتحدة أنه جاد وصادق فيما طرح، وهو يتميّز بالكياسة والثقافة ويرجّح العقل على القوة، لكنه غير قادر على التنفيذ لأسباب عديدة منها تركيبة الطاقم الذي اختاره الى جانبه، سواء في الحكومة أم على صعيد كبار المستشارين داخل البيت الأبيض وخارجه، ومنهم من تمّ وصفه بالمعرقل لبعض الخطوات والإجراءات، وثمّة من كان منذ الأساس ضد توجهّات أوباما وأولوياته، لا سيما فيما يتعلق بأولوية التسوية السلمية لحلّ ما سُمّي "نزاع الشرق الأوسط"، وهذه التركيبة بمجملها تتناغم مع أجواء الكونغرس ولوبيّات السياسة والمصالح.
بالنسبة لنا نحن العرب، كان وما يزال بإمكاننا أن نحكم عليه بمجرّد إعادة سماع خطابه "التاريخي" الذي وجهه الى العالم الإسلامي من جامعة القاهرة، لنكتشف أنه تميّز بأسلوب حربائي قابل لأكثر من تفسير. ويمكن لكل من يعود إليه أن يرى كيف حرص أوباما على أن لا يأتي بجملة واحدة تعكس موقفاً محدداً بوضوح، بل أتى بكل ما يقبل التأويل على أكثر من منحى ومعنى. فهل هو الخبث الذي دفعه لأن يبدو بغير وجهه الحقيقي، أم الضعف والتردد؟
إذا اعتمدنا حصيلة عامه الرئاسي الأول للحكم عليه، قد لا نستطيع الجزم بأحد الأمرين دون الآخر. لكننا مع ذلك لن نستغرب بل نرجّح أن تكون نتيجة عامه الأخير مثل الأول، اللهم إلاّ، إذا كان يتمتّع بدهاء مستتر وغير مسبوق، فخرج علينا بمعجزة لم نحسب حسابها، مع أن زمن المعجزات قد ولّى إلى غير رجعة… والله أعلم.