ما من أمة ارتوت بدماء شهدائها أكثر من الأمة العربية، وما من شعب حلّت عليه مصائب الدنيا، وعدوانية الامبريالية والصهيونية أكثر من شعب فلسطين، فقد تقطعت به السبل وتشتت في شتى بقاع الأرض، بسبب عدوانية الصهيونية، ودعم ومساندة الغرب الاستعماري، وهو مازال يكافح ويناضل حتى قدّم الآلاف من الشهداء، وكان العدوان على غزة واحدة من محطات هذا العدوان، حوّل أرض وسماء القطاع إلى أتون، تشوي نيرانه أجساد الأطفال، وتيتم الصغار وترمل النساء وتأتي على الشيوخ، وتقلب الحياة البشرية إلى أبشع صورها في هذا العالم المجنون، الذي يشاهد الجريمة ويشهد عليها، دون أن يحرك ساكنا، أو ينبس ببنت شفة.
تمر الذكرى الأولى لمحرقة غزة، ومازال الحال كما هو الحال، فعدوان الحصار مازال مستمرا، والناس يعيشون في العراء، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، والدعم المالي والعيني العربي والعالمي، يصطدم بتعنت آلة العدوان الصهيوني، دون أن يستطيع أحد أن يصرخ في وجوه مجرمي العصر، لا بل أن دعاة الحرية وحقوق الإنسان في الغرب، يمدون أيديهم لهؤلاء المجرمين، لإنقاذهم من الملاحقة الدولية، في نشاطات منظمات الحقوق الإنسانية، ومؤسسات المجتمع المدني، كما فعل رئيس وزراء بريطانيا، ذات السمة الامبريالية الأولى في هذا الكون، والأب الشرعي لمشروع غرس هذا الكيان الغاصب في الوطن الفلسطيني، رغم أن هذا الكيان يتميز بتعدد آبائه، الذين يرعونه ويدافعون عنه في أوروبا وأمريكا.
محرقة غزة إدانة صارخة للإنسانية جمعاء، التي لم تجرؤ على وقف آلة الحرب الصهيونية، ووقف استخدام كل أنواع الأسلحة التقليدية وغير التقليدية، حتى تلك المحرمة دوليا، ضد أناس لا يملكون من وسائل الدفاع، إلا ما يوصف بالوسائل البدائية، في مقارنتها مع ما يملك العدو، وما يستخدم في العدوان، والناس تتلهى بمشاهدة القنابل تتساقط على رؤوس أبناء غزة، الصامدين في أرضهم، المتشبثين بحقهم في الحياة، رغم فداحة ما يواجهون.
محرقة غزة إدانة للنظام العربي الرسمي الذي فقد دوره، وأضاع بوصلة الأمة، التي توجب عليه أن يلتئم شمله، وأن تتجمع قواه، وأن يلملم كل ما بيديه من أوراق، لاستخدامها في وقف العدوان، ومن أجل أن ينطلق منها إلى إعادة النظر في استراتيجية الذل والخنوع، التي يسير على نهجها، أمام امتهان كرامة الأمة، وتدمير حياة الإنسان العربي على أرضه في فلسطين والعراق، بفعل العدوان الامبريالي الصهيوني.
محرقة غزة إدانة لنهج الاستسلام الذي انتهجته القيادة الفلسطينية في "اتفاقية أوسلو"، والتي شقّت الصف الفلسطيني، وغيّبت الوحدة الوطنية، ودمرت طموحات المناضلين، الذين أفنوا حياتهم في النضال من أجل التحرير، فضاعت الوحدة، وضاع التحرير في غياهب دهاليز التفاوض الاستسلامي مع العدو الصهيوني، ونسي أصحاب هذا النهج الاستسلامي، أن الأوطان لا تسترد إلا من خلال النضال المسلح وفوهة البندقية، وأن جلسات حوار الاستجداء مع العدو لن تعيد بوصلة واحدة من الأرض المغتصبة.
محرقة غزة ما زالت نيرانها مشتعلة، ومازال لهيبها يصطلي به أجساد أطفال غزة، ويدمر حياة النساء والشيوخ فيها، والعدو يزداد شراسة في عدوانه، والانشقاق في الوحدة الوطنية يتسع ويكبر، والذل والهوان العربي يتفاقم يوما بعد يوم، والحصارات تتوالى من الشقيق في الواجهة الغربية للقطاع، ومن العدو في الجهة الجنوبية والشرقية، فأصبح الناس في القطاع يعيشون في كانتون مظلم، ويقول لهم العالم، العدو من أمامكم والبحر من ورائكم، وجدران العار والخيانة تسعى لخنقكم وحرمانكم من الحياة.
محرقة غزة رغم ما أصاب الناس كل الناس من ويلات، ورغم ما تركته من أثر دام في النفوس، ورغم ما يحيط بالقطاع من اعتداءات متعددة ومتنوعة، تريد أن تدفع بالقطاع وأهله أن يرفعوا راية الاستسلام، الا أن شعبا عظيما كشعب فلسطين، لا يجد في قاموس نضاله أثرا لمعنى الاستسلام، فلن يجد منه هؤلاء الطغاة والجبناء كلمة واحدة تحقق أحلامهم.
في الذكرى الأولى للعدوان على غزة الصامدة، نترحم على الشهداء الذين سقطوا، ورووا بدمائهم الزكية الأرض العربية في كل مكان، ونتمنى على أبناء فلسطين أن يلملموا جراحهم بالوحدة، وأن يعود الذين ظلوا الطريق إلى جادة الصواب، وأن تستنهض العذابات التي يعاني منها أبناء أمتنا، النظام العربي الرسمي، ليؤدي دوره في الوحدة والتحرير، تحرير الأرض والإنسان.