عندما رد منتظر الزيدي عبر صحيفة القدس العربي قبل أسبوعين على بعض ما أوردته الأوبزيرفر البريطانية نقلا عن لسانه حول " شعوره بالحزن لأنه فقير رغم كل ما فعله وكل الوعود التي تلقّاها…إلخ "، أراد التأكيد على رسالة كان قد أرسلها سابقا أثناء الندوة التي تحدث بها في نادي الصحافة العربية بباريس أوائل الشهرالماضي، وتوقّع فيها أن يعمل الإحتلال وعملاؤه على تشويه صورته ثأرا لما فعله، وقد حصل ذلك فعلا وسريعا. فما أوردته الأوبزيرفر لم يقله الزيدي، وما أرادت تمريره كان على عكس ما عناه في التصريح الذي أدلى به إليها.
كان من المفترض ان تمرّ زيارة الزيدي لباريس بشكل اعتيادي، لولا الحدَث الذي رافَقَها وحوّلها إلى مادة إعلامية جديدة أعطى العرب والأجانب آراءهم المختلفة حولها.
وبكلام أدقّ، لولا الدعوة التي وجّهها نادي الصحافة العربية في باريس لزملاء المهنة من عرب وأجانب، لحضور الندوة التي تحدّث فيها عمّا غاب عن بعضهم علمه، أمام تضارب المعلومات في حمى التعتيم وتزوير حقيقة ما حدث، وما حلّ به بعد القاء القبض عليه. وعندما وصل إلى الحديث عن المشاعر التي دفعته إلى "ضربة الوداع" التي وجهها لبوش، تنطَّحَ أحد الحاضرين للتعليق على كلامه، وعَرَّف نفسه على أنه صحافي عراقي وأنه اضطر إلى الهرب من العراق قبل عام فقط، طالبا اللجوء السياسي إلى فرنسا وقد حصل عليه، ثم بدأ بتوجيه النقد الإنفعالي إلى الزيدي موحياً للحاضرين بأنه ديمقراطي أكثر من اللزوم (كالأميركان!)، بدليل أنه لم يتحمّل البقاء في العراق "الجديد" لأن حاكميه أقل ديمقراطية من محتلّيه"!". وبناء علبه أعلن استنكاره لاستعمال وصف الإحتلال وطلب استبداله بعبارة "تحرير العراق على أيدي الأميركان "!"، وأدان تصرّف الزيدي إزاء "ضيف العراق"، معتبراً ضربه بحذائه عملاً بربرياً وغير حضاري، مردّداً نفس العبارات التي تلوكها بعض الأجهزة والأدوات من أن اللجوء الى الحذاء لا يليق بمستوى الصحافي والصحافة، عدا عن أنه " يتناقض مع تقاليد الضيافة العربية "!.. إلى آخر كلام عملاء الأميركان.
التبعية أم جنون الشهرة؟
وفجأة طأطأ رأسه وحمل إحدى فردتي حذائه، وقام بقذفها في اتجاه المنصّة محاولا إصابة الزيدي "ثأراً" لما فعله ضد بوش، لكنه لم يُفلح، فضجّت القاعة وهجم عليه بعض الحضور، وقام أحدهم بضربه بالحذاء الذ ي قذفه، ثم جرى طرده من القاعة "حافياً"… إلى آخر " المُشكل " الذي غطت كل وسيلة إعلام تفاصيله ـ كما سمعنا وقرأنا ـ حسب موقفها أو ارتباطها، وهو حدث لا يستحّق إعادة التذكير به إلاّ من زاوية واحدة ولهدف واحد، وهو الوقوف على الفارق الكبير بين دونيّة بعض أبناء جلدتنا – وأخصّ بالذكر مواقف ليبراليّينا والحثالات المسعورة في إرتهانها للأجهزة المعادية – وعقلانية شريحة من الرأي العام الغربي الأكثر إنصافاً منهم لنا ولأبرز قضايانا في معظم الأحيان. وأعني هنا الناس بالطبع لا الدول وحكوماتها وأجهزتها.
السبب الأساس لهذه الهبّة في وجهه كان أكثر من بديهي، وأعمق من مجرد الإعتراض على الفعل أو فاعله. ذلك لأنه لجأ – أولاً – إلى استعمال نفس الأسلوب الذي اعتبره همجيا وبربريا في هجومه على الزيدي، ثم ـ ثانيا ـ لوجود فارق كبير بين الحالتين وهو أن الزيدي ضرب العدوّ الذي إحتلّ بلده وقتل وشرّد الملايين من أبناء شعبه، واعتمد التزوير وقلب الحقائق، واستعان برهط من المخبرين العراقيين لدى السي.آي.إيه الذين كُلّفوا أن يكونوا عيون الأميركان وآذانهم في العراق، وأن يبلّغوهم بكل كبير وصغير.
أمّا هو فقد عايش الإحتلال ستّ سنوات وقرّر بعدها الهرب كما إدّعى، والأرجح أنه هُرّب كالكثيرين من الذين جُنّدوا للقيام بمهام محدّدة في الخارج، وقد وقع عليه الإختيار لـ "الثأر" من إبن بلده الذي آلم بوش في أغرب حدث واجهه في حياته حسب اعترافه، عندما لم يجد بين يديه ما يستحق أن يردّ به على صلفه وعدوانيته غير الحذاء، رغم توقعه احتمال قتله في لحظتها من قبل رجال أمنه أو الأمن العراقي التابع لأمنه؟!
عندما تنكشف الحقيقة
هذه الحقيقة استحضرها الزيدي في ردّه الهادىء على ما حدث، وفي تصويره للحالة التي دفعته لما قام به تحت التأثر الشديد مما حلّ ببلده، خصوصا وهو يشاهد بوش في حالة هستيرية من الضحك الممزوج بالإستعلاء أثناء مؤتمره الصحفي مع المالكي، وقد أذهلته قهقهاته واستهزاءه بسائليه وتعليقاته السخيفة عليهم، وهو يزهو كالطاووس وسط جمع من الدجاج.
وفي وصفه لما قام به قال : "كان وسيلة احتجاج سلميّة ضد المحتل وليس ضد أحد من أبناء شعبي "، وأكّد أنه يتوقّع ألاّ يدّخر هذا الإحتلال ومخابراته أي جهد من أجل تشويهه سياسياً واجتماعياً وإعلامياً، ثأراً لما فعله، مضيفاً القول: "ما شهدتموه من الأخ الذي سبق له أن سرق مني جهداً صحافياً في العراق فيه دليل على ذلك".
أكثر من هذه الملاحظة لم يقل الزيدي عن الذي حاول الإساءة إليه، لكن المعلومات التي صدرت من بغداد المحتلّة، ومن أجواء الصحافيين والإعلاميين، تضمنّت كشفاً لسيرة حياته ووضعه الحقيقي رجّح موضوع استخدامه كأداة من قبل الإحتلال، خصوصاً وأن هذه المعلومات لم تصدر عن أشخاص، بل عن "تجمع كتاب فضائية العراقية "، وموقع العراق للجميع، أي عن زملائه في المؤسسات التي سبق له أن عمل فيها، وقد أكّدت بالشواهد والأمثلة ما لم ينفه أحد، لا "الصحافي" الهارب نفسه، ولا أي جهة عراقية أو أميركية أو خلافه.
يقول ملخص هذه المعلومات أن الفاعل الذي يدعى سيف الخياط كان يعمل في قناة العراقية الفضائية قبل فصله منها لقضايا "فساد أخلاقي"، وجاء عزله بعد عزل مديرها حبيب الصدر المتهم هو الآخر بالفساد الأخلاقي، كما ورد نصاً. أما الأخطر من ذلك وحسب معلومات الوسط الصحفي العراقي، فيؤكد أنه كان مكلّفاً من قبل الأميركان بتسجيل المكالمات الهاتفية التي تجري بينه وبين الإعلاميات العراقيات بهدف إبتزازهن، ومنهنّ الصحافية صباح الخفاجي، لكن أمره اكتُشف، فاضطر على أثر ذلك إلى مغادرة العراق على الفور.
بلسانك أدينك
أما معلومات موقع "كتابات" الذي يصدره صحافيو قناة العراقية، فقد أشار – على ذمته – إلى أن العمر الصحافي له 7 سنوات قضاها في الاحتيال والمراوغة وسرقة جهود الآخرين. أما المهارات التي اكتسبها في مشواره المهني – عدا ما سلف ذكره – فهي التملّق، اللصوصية، وانتحال الصفات. ونوّه إلى أن الرجل عمل خلال السنوات السبع الماضية في أربع مؤسسات هي: راديو دجلة المحلي، قناة الفيحاء الفضائية، راديو وتلفزيون نوا، وقناة العراقية الفضائية، وكل هذه المؤسسات قامت بطرده ومنعته من دخول مبانيها.
رُبّ قائل أن هذا الكلام يعود لأوساط معادية للمذكور، أو في خط سياسي مناقض، وهذا ممكن. ولذلك دعونا نترك هؤلاء ونستشهد بما جاء على لسانه هو الى موقع "العالم الآن" الأميركي الذي سأل بعض العراقيين عن آرائهم حول التفاوض على الإتفاقية الأمنية ومطلَبْ سحب القوات المحتلة من العراق، فكان جوابه بالنص الحرفي: "التركيز على هذا المطلب لا يخدم المصلحة الوطنية العراقية، في بلاد تحيط بها دول ذات أنظمة شمولية دينية وحزبية، ولها أطماع توسعية قد تجد لها متسعاً كبيراً لتنفيذ أحلامها بزوال الرادع الأميركي"!
وفي استقصاء آخر للرأي أجرته "نيوز ماتيك" قال : إن افتقاد العراق لقوة عسكرية لصد أي عدوان خارجي يُفنّد أي مطلب بضرورة خروج الأميركان من العراق. إن وجود قواعد أميركية في العراق لا يتعارض مع مبدأ السيادة…"!
مصيبة إنقسامنا على موقف مبدئي
ما يهمنّا من كل ما سلف، ليس الحدث بحدّ ذاته، ولا ردّة الفعل الإستعراضية من قبل شخص ارتضى لنفسه مهمة الثأر من إبن بلده، لصالح محتلي بلده وقاتلي شعبه، بل إشهار رهط من أبناء جلدتنا موقفهم الإرتدادي ضد أمتهم، واتخاذهم موقفا مؤيدا للإحتلال تجاه حدث يُفترض أن لا ننقسم حوله، في الوقت الذي يتفهّم فيه الكثير من الأجانب الغرباء مواقفنا، ويلتقون أكثر منا لصالحنا.
صحيح أن معظم الصحافيين قد هبّوا في وجه الذي أراد الثأر من الزيدي لصالح الأميركان، لكن – وهنا الغرابة – ثمّة من وقف إلى جانبه وأيّد فعلته خارج الندوة، وهم أنفسهم الذين انتقدوا الزيدي وأدانوا فعلته. يعني: اعتبروا ضرب المحتلّ جريمة تستحق الإدانة، أما ضرب الشرفاء والمقاومين فعمل بطولي يستحقّ التمجيد، بينما رأي غالبية الأجانب على النقيض تماماً!
حصل ذلك في الوقت الذي لم أقرأ فيه أي تهجّم على منتظر الزيدي في صحيفة غربية محترمة، مثلما قرأت في بعض صحفنا ومواقعنا على ألسن فئة تسبح في بحر العمالة ـ مع الأسف ـ.
معظم ما قرأته في صحف الغرب المحترمة حول الموضوع لم يخرج عن سياق ما كتبه المستقلون الوطنيون من أبناء أمتنا، وإن أتى بصيغة أخرى ومفردات مختلفة.
حتى الصحافي الأميركي الشهير باتريك كوكبيرن، الذي رشّح نفسه لرئاسة الولايات المتحدة سابقاً قرأنا له يوم إطلاق سراح الزيدي في صحيفة "الإندبندنت" البريطانية تعليقاً قلّ ما قرأنا نظيرا له في صحافتنا العربية. والشيء نفسه قرأناه في الصحف الفرنسية حتى على ألسن القراء وقد فاق ما كتبه الكثيرون من أبناء جلدتنا. ولا أنسى في هذا السياق ما نشرته صحيفة "الفيغارو" على موقعها الألكتروني من تعليقات لمواطنين فرنسيين عشية الإعلان عن إطلاق سراح الزيدي، كان من أبرز عناوينها قول أحدهم "حذاؤك حذاؤنا".. وقول آخر: أعطوه حذاءً آخر فهناك الكثيرون الذين يستحقون ضربة بحذاء الزيدي.. وهكذا..
ما يهمّنا… وما يجب علينا الإعتراف به في ضوء هذا التصرّف "الثأري" وما يوحي به، أن هناك خطأ كبيراً يعشش في جانب منا نحن الجماهير، المؤكد أن سببه الأساس يعود الى حكامنا، وقد يكون بفعلنا نحن ورضانا بالهوان ضلع فيه، بدليل موقفنا المتفرّج الأخير ـ كأنظمة وجماهيرـ على العذابات التي تعرّضت لها قافلة شريان الحياة، لكي لا تصل الى أهلنا في غزة المحاصرة من قبل الإحتلال الصهيوني وجدار حسني الفولاذي!
. علينا أن نقرّ بذلك ونعمل على علاجه، بعد أن أخذ وباء العمالة يستشري كالسرطان في أحشاء شريحة منا بنسبة وصلت الى حدود تفوق التصور.