تحدثت في عمودين سابقين عن الاحتلال الإيراني لحقل فكة النفطي العراقي، وما كشف عنه من اطماع ايرانية من جانب، ومن مواقف لسلطات الاحتلال الامريكي من جانب ثان، والحكومة العراقية من جانب ثالث.
غير ان هناك جانبا آخر هنا يستحق التوقف عنده، ولعله اهم واخطر من الجوانب الثلاثة التي تحدثنا عنها. نعنى بذلك مواقف القوى السياسية في العراق من الاحتلال، وبالأخص تلك القوى الموالية لإيران.
بداية، لابد ان نفرق بين موقف الشعب العراقي بكل طوائفه وقواه ومواقف هذه القوى السياسية. الشعب العراقي شعب عظيم بتاريخه العريق وصموده. رغم كل المحن والمآسي التي طحنته مع الاحتلال الهمجي، فإن حبه لوطنه لم يفتر وولاءه للعراق لم يهتز. ولنا ان نتأمل ما تابعناه في الفترة القليلة الماضية منذ احتلال حقل النفط من صور رفض شعبي وادانة شعبية للاحتلال في مدن عراقية عدة في كل انحاء العراق. ادانة تجلت في المظاهرات التي خرجت، ومواقف العشائر وقوى شتى في المجتمع .. الخ.
نريد ان نقول ان مواقف هذه القوى التي نتحدث عنها شيء، وموقف الشعب العراقي شيء آخر.
إذن، أي موقف اتخذته هذه القوى الموالية لايران أو المتعاطفة معها أو المحسوبة عليها والموالية لها، أو ايا كانت التسمية، مما اقدمت عليه ايران من احتلال حقل النفط؟
هذا الموقف يتلخص في كلمتين فقط: الصمت التام.
لقد حرصت مثلا منذ اليوم الاول لاحتلال حقل النفط على ان اراجع يوميا الموقع الالكتروني الرسمي للمجلس العراقي الاسلامي الذي يرأسه السيد عمار الحكيم. وحتى اللحظة، لم اجد كلمة واحدة عن هذا الاحتلال.. لا بيان ولا تصريح، ولا أي كلمة كما قلت. وهذا هو نفس الموقف الذي اتخذته القوى الاخرى الشبيهة.
ماذا يعني هذا الصمت التام عما اقدمت عليه ايران؟
يعني ببساطة اما ان هذه القوى تعتبر ان ما جرى امر تافه لا يستحق أي اهتمام من أي نوع، وإما انها ايا كان موقفها الفعلي، فإنها لا تجرؤ على ان تعلنه. وهي في الحالتين مصيبة.
إذا كان احتلال اجنبي حتى ولو لشبر واحد من الارض وانتهاك السيادة الوطنية موضوع تافه لا يستحق الاهتمام، فما الذي يمكن ان يستحق هذا الاهتمام إذن؟ واذا كانت قوة سياسية لا تجرؤ على ان تعلن موقفها الحقيقي من أي تطور، فما معنى وجودها اصلا؟
وفي كل الأحوال، فإن موقف هذه القوى على هذا النحو لا يمكن بداهة ان يعتبر موقفا وطنيا مسئولا، ولا يمكن بداهة النظر اليه الا باعتباره مظهرا من مظاهر اهتزاز الولاء الوطني.
هذا الموقف اللامسئول الذي اتخذته هذه القوى من احتلال حقل النفط الايراني، كيف يمكن لنا ان نفسره؟
الحديث يطول هنا بالطبع، لكن ثمة جانبان جوهريان هنا يستحقان التأمل.
الجانب الاول: ان هذا الموقف هو من دون شك احد نتائج وتجليات الحالة الطائفية التي استفحلت وتوحشت في العراق على امتداد سنوات ما بعد الاحتلال الغاشم بالتطورات التي نعرفها جميعا.
حين تستفحل الطائفية وتتوحش في أي بلد، فإنها تشيع بالضرورة روحا عامة غير وطنية. بعبارة اخرى، الطائفية تعيد ترتيب الاهتمامات والاولويات العامة، بحيث لا يصبح للقضايا والهموم الوطنية العامة الأولوية.
بعبارة ادق، حين تسود الحالة الطائفية في المجتمع، فمعنى هذا بالضرورة اهتزاز الولاء الوطني وتراجعه لحساب ولاءات أخرى.
في هذا الاطار العام إذن، يكمن جانب من تفسير موقف هذه القوى.
والجانب الثاني: يتعلق بالروابط الوثيقة بين هذه القوى وبين ايران، ايا كان شكل هذه الروابط. وهي على أي حال تأخذ كما نعلم شكل الدعم الايراني المباشر بالمال أو السلاح، والروابط السياسية بالطبع.
هذه الروابط وهذه الرعاية الايرانية الكاملة لهذه القوى، تجعلها مرتهنة الارادة والقرار.
بعبارة أخرى، فإن هذه القوى، حتى لو كانت في قرارة نفسها فرضا غير راضية عن خطوة مثل الاحتلال الايراني لحقل النفط، فإنها لا تجرؤ على ان تعلن هذا الموقف. وبداهة، والحال هذه، انه ليس من المبالغة أو التجني القول ان ولاء هذه القوى لايران له الاولوية على ولائها للعراق.
هذا الذي قلناه يمثل في واقع الامر درسا بليغا عميقا يستحق التأمل في كل الدول والمجتمعات العربية.
أما الذين لا يعجبهم القول إن ايران فرضت شكلا من اشكال الاحتلال السياسي في العراق، لحسابها ولحساب مصالحها ومشروعها واطماعها وعلى حساب المصالح الوطنية العراقية، فما عليهم الا ان يتأملوا مليا هذا التطور الذي تحدثنا عنه.