ستكثر الكتابات التحليلية والنقدية والشامتة واللائمة حول ما جرى في دبي من إشكال مالي. ومع الأسف فان أغلب تلك الكتابات ستكون معنية بالنظر إلى هذا العارض المؤقت بدلاُ من التعمق في المرض الأساسي الذي وراء هذا العارض. فدبي ليست جزيرة معزولة يعيش ساكنوها في عالمهم الخاص، بل هي جزء من محيطها الخليجي العربي. وكل ما فعلته هذه المدينة هو أنها سبقت الآخرين في السير في نفس الطريق الاقتصادي الذي سارت وتسير فيه دول البترول العربية الخليجية.
لنذكر أنفسنا بأنه منذ بداية حقبة البترول في دول الخليج العربية سادت مؤسسات الحكم فيها نظرتان اقتصاديتان متتابعتان، الأولى في بداية الحقبة والثانية بدأت تظهر في العقدين الأخيرين. في المرحلة الأولى اعتمد الاقتصاد بصورة شبه كاملة على ما يسمى بالريع الخارجي، وهو ريع حصلت عليه الدولة الخليجية الريعية كنتيجة لبيع البترول للآخرين وقبض ثمنه كريع مالي. ولأن تلك الدول جميعها لم يكن لديها ريع داخلي ناتج عن اقتصاد إنتاجي يسمح بجمع ضرائب من الناس، فان مؤسسات الحكم اكتفت بتوزيع جزء من الثروة البترولية، أي الريع الخارجي، على الرعية على شكل بناء البنية التحتية من مثل الطرق والكهرباء والموانئ والمطارات والبنية الخدمية من مثل المدارس والجامعات والمستشفيات، وعلى شكل توظيف لأعداد كبيرة من الناس في المؤسسات الحكومية المتضخمة باستمرار لرفع مستوى الدخل، وعلى شكل بناء زبونية طفيلية من خلال توزيع الأراضي ثم شرائها بأسعار عالية أو من خلال إرساء المناقصات على المقربين من أفراد ومؤسسات القطاع الخاص.
لم تكن هناك إشكالية، كمرحلة انتقالية، مع وجود الدولة الريعية المعتمدة على الاقتصاد الريعي والمهتمة بتوزيع ذلك الريع الخارجي بالطرق التي ذكرنا وذلك بالرغم من وجود تحفظات عند البعض حول مقدار ما يقتطع من ذلك الريع لخدمات الأمن والدفاع المبالغ في ما يصرف عليها، وحول مقدار ما تأخذه بعض الجهات من كعكة الريع الخارجي في داخل الحكم وفي خارجه. لكن المشكلة بدأت تظهر عندما طالت مدة تلك الفترة الانتقالية وانقلبت إلى نظام حكم ريعي مستمر مكتف بدولة ريعية توزع ثروة ناضبة مؤقتة دون أن تحاول بجد وبتخطيط متوازن وبإعداد علمي موضوعي الانتفاع من ذلك الريع الخارجي لبناء اقتصاد داخلي إنتاجي ومعرفي يدران ريعاً داخلياً ويساهمان في إقامة تنمية شاملة مستدامة اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية. بدلاُ من حدوث ذلك الانتقال استعملت الفوائض من ذلك الريع في مضاربات عبثية غير اقتصادية إنتاجية من مثل المضاربات في العقارات وفي أسواق الأسهم وفي انغماس استهلاكي مبتذل. لقد انتهى الأمر ببناء اقتصاد غير قادر على الوقوف على رجله ومعتمد على تدفق ريع من ثروة بترولية مؤقتة ستنضب مهما طال الزمن.
ثم جاءت المرحلة الثانية مع هدير وأمواج العولمة الاقتصادية، وهي مرحلة بالغة التعقيد من حيث تشابكها مع الجنون الأمريكي للسيطرة على العالم وعلى الأخص منابع البترول الكبرى في الخليج العربي ومن حيث التبعية الكاملة لاقتصادات دول مجلس التعاون لما يجري في الأسواق العولمية فأصبحت القرارات الاقتصادية الخليجية إما متأثرة أو خاضعة لمطالب الحكومات الأجنبية أو لإملاءات الشركات العولمية العابرة للقارات. وفجأة وجدت دول مجلس التعاون نفسها في وضعين اقتصاديين متعاكسين. فقسم كبير من فوائض ريعها الخارجي صادر يذهب للخارج لاستثماره في أسواق وبورصات وسندات الدول الأخرى. بينما اجتاحت دول المجلس حمى وهلوسة اجتذاب رؤوس الأموال الخارجية النظيفة وغير النظيفة أو استدانتها من بنوك الخارج الكبرى. وبالطبع ما كان يمكن أن نتوقع أن تقوم الاستثمارات الأجنبية ببناء اقتصاد داخلي وطني إنتاجي ومعرفي ينافسها في المستقبل ويزاحمها في جني الثروات فكان أن تركزت الاستثمارات، هي بدورها أيضاً، في مضاربات العقارات والأسهم وبناء مجمعات الترف والرفاهية وفي تقديم الخدمات الاستهلاكية الهامشية أو التجارية السريعة الربح.
لقد كتب الصحافي الأمريكي توماس فريدمان، وهو المؤمن بالتوجهات العولمية، بأن دبي هي النموذج العصري الذي يجب على الولايات المتحدة الأمريكية تشجيع العرب والمسلمين الإقتداء به! ليطمئن الأخ فريدمان فرغبته قد أستجيب لها، إذ أن جميع عواصم مجلس التعاون تتسابق منذ بضع سنوات لتتماثل مع دبي في كل ما تفعله.
وإذن فبدلاً من إضاعة الوقت في تحليل ونقد ما حل مؤخراً بدبي سنحتاج إلى تحليل عميق ونقد شجاع وتجاوز سريع للكثير من النتائج الكارثية التي قادت إليها تلك النظرتان الاقتصاديتان اللاتي هيمنتا على مسيرة دول مجلس التعاون عبر العقود الماضية. المطلوب هو الإنتقال إلى اقتصاد وطني إنتاجي معرفي وإنمائي آخر يؤدي إلى تنمية إنسانية شاملة مستدامة حتى نخرج جميعاً من هذا العبث الاقتصادي الذي طال عليه الأمد ففسد وعجز وخرف
© جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia.