مثلما يصاب الفرد بمرض الهستيريا النفسي فيدخل في وضع عقلي يتميز بمخاوف أو انفعالات لا يمكن السيطرة عليها، فكذلك الجماعات والشعوب. إن لديها، هي الأخرى، القابلية لأن تصاب بما يعرف بالهستيريا الجماعية، ولقد عرف العديد من مدن أوروبا في القرون الوسطى حالات من تلك الهستيريا الجماعية تمثلت في انخراط الألوف من الناس في رقص مستمر ليل نهار في الشوارع إلى أن يصابوا بالإعياء الشديد أو بفقد الوعي. عند ذاك فقط يتوقف الرقص ويعود الراقصون المجهدون إلى سابق طبيعتهم.
الهستيريا الجماعية هي إذًا حالة ظهور أعراض جسدية أو عاطفية متماثلة تماماً بين أفراد جماعة من مثل عواطف القلق أو الخوف أو الانفعالات غير المبررة، ولأن الأعراض تنتقل بين الأفراد بسرعة ويسر سميت أيضاً الهستيريا الوبائية. وهي، بمعنى آخر، ظاهرة اجتماعية معدية تتميز بظهور عاطفة جامحة غير منضبطة بين غالبية أفراد جماعة وذلك كرد فعل لحدث معين، ويظهر الكثير من الدراسات أنها ظاهرة كثيرة الحدوث في المجتمعات المنغلقة على نفسها من جهة وفي المجتمعات البدائية والمتخلفة حضاريا من جهة أخرى.
السؤال: هل هناك علاقة بين هذه الظاهرة النفسية الاجتماعية وبين ما يراه الإنسان من تصرفات الألوف من الشبان بعد انتهاء بعض مباريات التنافس الرياضية؟ ونحن هنا نشير إلى تلك المباريات التي تربط نتائجها مسبقاً، وخصوصاً عبر وسائل الإعلام، بقضايا وخطابات رمزية من مثل العزة الوطنية أو الصعود إلى مسرح العالم أو عبقرية المدرب واللاعبين أو كسر أنوف الخصوم. عند ذاك تنقلب الهزيمة في اللعبة إلى انتكاسة في التوقعات الوطنية أو فضيحة للنظام السياسي أو إشارة إلى التخلف الحضاري لبلد الفريق المهزوم، إلخ… من القراءات السطحية البليدة التي تدل على عدم النضج وقلة التوازن الذهني وبدائية العاطفة والمشاعر.
إنه في مثل هذه الأجواء يصبح دخول الجماعات في ظاهرة الهستيريا الجماعية أمراً ممكناً وسهلاً خصوصاً إذا وجدت القيادات السياسية الانتهازية الماكرة أو وجدت المنابر الإعلامية غير المهنية وغير الملتزمة بأي قيم مسلكية وغير المعنية بإطفاء الحرائق في مجتمعاتها، وهي عادة منابر مشتراة من قوى فاسدة من الخارج أو الداخل على حد سواء.
في القضية العربية المطروحة الآن: قضية الأزمة الكروية فيما بين مصر والجزائر، تبدو الصورة واضحة. لقد انقلبت ظاهرة نفسية – اجتماعية بسيطة، يشاهدها الإنسان يوميا بعد الكثير من منافسات العالم الرياضية ويطمئن إلى أنها مؤقتة وعابرة بل يبتسم لمشاهدتها، إلى ظاهرة عربية نفسية – اجتماعية – سياسية مركبة تشير إلى ظهور عارض آخر مقلق، هو الرغبة في تدمير الذات، ولا يوجد طريق لتدمير الذات أكثر من الإعلان على الملأ التخلي عن الهوية، فظهور مسؤول سياسي انتهازي على شاشة التلفزيون ليعلن أن كرامة بلده هي فوق العروبة وفوق القومية العربية، وإعلان ذلك الفنان أو حتى ذاك المواطن أنه كفر بالعرب والعروبة، واقحام رؤساء دول أنفسهم في معركة سخيفة قام بتأجيجها بعض الجهلة والموتورين، كل ذلك يدل على رغبة جامحة في تدمير وإفناء أحد الملاذات الأساسية لكل أمة: هويتها وروابطها القومية، أولا في البلدين المتخاصمين ومن ثم في كل الأرض العربية.
نحن هنا أمام جنون عقلي تختلط فيه الهلوسات، من مثل الشعور بالعظمة الكاذبة الفارغة التي ظهرت عند البعض أو الشعور بالغبن والظلم غير المبني على أسس واقعية، تختلط باللوثات الكلامية غير المفهومة وبالشكوك في أن الآخرين يتآمرون وبغيرها من عوارض مرض الا انفصام المعروف.
ظاهرة الهستيريا الجماعية التي رأيناها في شوارع القاهرة والجزائر والخرطوم وباريس كان من الممكن أن تنتهي، مثل غيرها، عند حدود إظهار قابلية الجماهير لتتصرف كالقطيع تحت أشكال كثيرة من التجييش العاطفي، السياسي والديني والفني والرياضي وغيره، لكنها في مهزلة الكرة المصرية – الجزائرية انحرفت ودخلت في مستنقع السياسة. إن المسؤولين السياسيين في كلا البلدين يجب أن يتحملوا اللوم الأكبر على هذا الانحراف، ويجب أن يدركوا أن النار التي يؤججها "أزلامهم" وأولادهم المراهقون والأبواق الإعلامية الهستيرية التابعة لهم لن تحرق الأعداء الإخوة الآخرين المتخيلين بل إنها ستحرق أيضاً الإوزة التي تبيض لهم ذهباً، ستحرق أوطانهم.
لقد جرت العادة في الماضي على أن يشار إلى أن سبب الهستيريا الجماعية هو تلبس الشيطان لأرواح وعقول الجماهير، فهل وصل الحال ببعض قادة السياسة والإعلام العرب إلى قلب المعادلة وتقمص أرواح وعقول الشياطين؟