ما يجري في ساحات البلدان العربية والإسلامية من أحداث دموية مؤلمة، يستدعي التوقف مليا، لقراءة هذا الذي يحدث قراءة جديدة تستند إلى الأصول والمبادئ التي غابت بقصد أو بغير قصد عن مجالات تفكيرنا. وأخذ كثير من المثقفين والسياسيين يتذرعون بالمنطق العقلي، أو ما يسمى بالعقلانية في تفسير الأحداث التي تجري من حولنا، ويعنون بالعقلانية قياس الأحداث وتفسيرها في ضوء الأمر الواقع. والأمر الواقع يعني هيمنة منطق القوة على قوة المنطق، وسيطرة خلال القوة على عدالة الحق.
في السودان يسود منطق القوة الذي تمثله الولايات المتحدة، التي تفرض حصاراً على هذا البلد مادياً وسياسياً وإعلامياً، وتطالبه بإصلاح سياسي ديمقراطي، وكذلك الحال بالنسبة لدارفور، أي قبول التجزئة في هذا البلد الكبير، في حين أن الأمن والسلام والنمو والتطور لا يكون إلا في الوحدة الوطنية ووحدة الأرض ووحدة الاقتصاد ووحدة الثقافة الوطنية.
والحال في العراق يراوح في مكانه رغم ما يقال عن تطور ديمقراطي في ظل الاحتلال وهذا المنطق مخالف لحقائق التاريخ.
وكذلك الحال في فلسطين، العدو الصهيوني يستثمر كل الأجواء العربية والإسلامية المريضة ويُنفذ مخططاته الاستيطانية والعنصرية، ويقضم الأرض العربية يوما بعد يوم، ويصادر البيوت أو يهدمها لإقامة وحدات سكنية فوق أرضها، لاستكمال تهويد مدينة القدس، والسيطرة على المقدسات الإسلامية. وهكذا صار الباطل حقاً في نظر شياطين الغرب الموالين للصهاينة، وتكونت لديهم القناعة بأن من حق اليهود أن يبنوا هيكلهم فوق الأرض التي كان عليها هيكل سليمان من قبل.
وفي باكستان ينزلق الحكام في مستنقع لا يعرفون كيف سيخرجون منه، بدفع من الولايات المتحدة.
ألا يستلزم ما يجري في لبنان وسورية وإيران والعراق والسودان واليمن ومصر والصومال إعادة قراءة هذه الأحداث واستخلاص الدروس التي تتفق مع منطق العصر؟ فالقراءة العربية الإسلامية لأحداث المرحلة صارت من الواجبات الوطنية والقومية، لأن هناك اتجاهاً خطيراً لدى الولايات المتحدة والكيان الصهيوني يستثمر حالة التراجع المعنوي أو الانهزام الداخلي الذي يسود في الأنظمة العربية بسبب ضغط المعاناة القاسية التي يعيشها الإنسان العربي والتي تحول دون رؤية الحقائق الموضوعية العميقة.
فالمرحلة التي دخل فيها العرب بعد معارك عام 2006 وحرب غزة 2009، لا يمكن استيعابها من دون قراءة داخلية للأحداث، واكتشاف ما يكمن فيها من رسالة جهادية موجهة إلى الأمة.
وللأسف الشديد فقد وقف مفكرون ومناضلون من بلدان شتى في العالم إلى جانب العرب في تلك الحروب والمعارك، وكان آخرها من أعدوا "تقرير غولدستون" ومن دافعوا عن حق العرب، وأدانوا الإرهاب الصهيوني، ووقف هؤلاء مع العرب مدفوعين بنظرات وتحليلات ومفاهيم وقيم تقترب بدرجات مختلفة من إدراك الطبيعة الداخلية لجهاد العرب المسلمين.
بالمقابل ابتعد كتاب ومفكرون وأدباء وشعراء عرب عن فهم ما فهمه الأجانب مدفوعين بمواقف تعكس أزمة الفكر والواقع في الأقطار العربية، وكذلك أزمة النضال العربي بوجه عام في مواجهة التحديات التي تواجه أمتنا العربية.
إن اقتراب أجانب استطاعوا أن يكتشفوا حقائق جوهرية في معارك الصراع العربي الصهيوني، وابتعاد عرب غابت عنهم صورة هذه المعارك، يعني أن القراءة العربية الراهنة للأحداث تعاني من خلل في الرؤية ومن أزمة في المنهج، وهما انعكاس لازمة الواقع العربي، وقد يكون مصدرها فكرياً أو نفسياً أو سياسياً.
بعيدون استفزهم حدث ما جرى في غزة، انطلاقاً من البديهيات المنطقية، وحس القيم، وقريبون هزمهم الحدث إلى حد أفقدهم القدرة على السيطرة والتوازن الداخلي فابتعدوا عن إدراك الحالة الجهادية التي تجسدت في معركتي لبنان وغزة.. وقد كانت الجماهير في الحالتين اقرب وأسرع في التقاط جوهر الموقف التاريخي من النخب وبعض المفكرين والسياسيين.
إن قراءة الحالة التي رافقت الحربين مع الكيان الصهيوني تحتاج إلى جانب التحليل العلمي إلى المنظور الحضاري الشامل الذي يضع ما حدث في موقعه من مسيرة الأمة ومسار العالم. ثم إلى جانب القراءة القائمة على الحسابات العقلانية وعلى التقديرات الكمية والمقارنات الوضعية التي تتم بعقل بارد شبه آلي، لا بد من قراءة مكملة تحتاج إلى نوع من الاستبطان الداخلي للأحداث وإلى شفافية الحدس الوجداني والوعي التاريخي. فالجماهير العربية استطاعت بحسها النضالي المرهف أن تكتشف في الذي حدث الحالة الجهادية التي قادت إلى تلك النتائج غير المتوقعة والتي أدهشت العدو وجعلته يُعيد حساباته ويُراجع مخططاته واستعداداته الاستراتيجية والتكتيكية.
أما الذين حادوا عن رؤية الأحداث من منظور حضاري أنساني، فإنهم تعاملوا مع الأحداث من منظور مادي حسي، متأثرين بموجة الإعلام الغربي – الصهيوني، الذي ركز على الخسائر المادية والبشرية فحسب، وفي ضوء هذه الحسابات المادية كان الحكم على الحدث الجهادي، بأنه خسارة في جانب العرب وحدهم، دونما نظر إلى ما تحقق من حالة جهادية استفزت الضمير العالمي، واستنفرت في المثقفين والكتاب المعاني الإنسانية والانتصار لقيم الحق وقوته.
واليوم عندما تقف مجموعة الشباب والشيوخ المقدسيين يدافعون عن المسجد الأقصى فإنهم يجسدون كل معاني القيم الروحية التي صبغت طبائع العرب المسلمين فيما مضى. وصمودهم ليس حالة مؤقتة، استدعتها ظروف المواجهة مع الاستفزازات اليهودية المتطرفة، لأن النضال ضد الغزاة الصهاينة العنصريين ليس اتجاهاً مؤقتاً مرهوناً بظرف محدد، ولم يأت نتيجة رد فعل على وضع راهن أو آني، وإنما هو نهج أصيل وعميق ينبع من أصول عقيدتنا الإسلامية، ومن سيرة السلف الصالح.
وما يجسده المقدسيون اليوم من صمود يستدعي أن يتحمل العرب والمسلمون اليوم مسؤولية الجهاد في إطار العصر الراهن، من أجل نفس المبادئ والأهداف السامية التي جاهد من أجلها أسلافنا الأبطال الأماجد.
إن الحالة الجهادية التي جسدها المجاهدون في لبنان وغزة والقدس، لم تكن سوى تعبير خاص عن قانون عام في حياة الأمة العربية، امة الجهاد والرسالة وهذا القانون الذي امتد فعله في الحياة العربية منذ معارك الرسالة، وكان هذا القانون ملهماً في كل المراحل اللاحقة ضد الغزوات الأجنبية الآتية من الشرق ومن الغرب، في الانتفاضات والثورات التي شهدتها بلدان المشرق والمغرب العربي والتي اتسمت جميعها بطابع جهادي.
وفي الحقيقة إن قراءة الأحداث من منظور جهادي تستلزم من كل القوى العربية أن تبدأ مرحلة جديدة من المصارحة والمصالحة مع الذات، أي أن تخوض التيارات حوارات داخلية نقدية لتصحيح المسارات السابقة دونما تجريح أو نيل واحد من الآخر فكل التيارات أصابها الانقسام والتشرذم، والاختلافات كان دافعها في معظمه ذاتيا وليس موضوعيا، وقد وقع تحت تأثيرات شخصية بعيدا عن النظرة الموضوعية.
إن غياب الرؤية الجهادية في تفسير الأحداث وتفسير التحديات التي تواجه الأمة، تجعل الكثيرين يقعون تحت تأثير الدعاية الخارجية التي تفسر الأحداث بنتائجها وليس بدوافعها ومسبباتها.
كما أن الاتفاق على رؤية جهادية موضوعية يمنح الحكام فرصة الصمود بوجه الضغوط إذ أن واقع الحال هو غياب رؤية جهادية لدى ممثلي الشعب تفرض على الحكام الامتثال لها وتبنيها أمام الآخرين.
ولو توفرت مثل هذه الرؤية، لما استمرت الاتفاقيات الجائرة التي وقعتها الأنظمة مع الكيان الصهيوني، ولتكّون رأي رسمي ضاغط على القوى العالمية ذات التأثير القوي على الصهاينة.
فهل تعي القوى السياسية في الأقطار العربية أهمية هذه المراجعة وتستدرك ما فاتها، وتستعيد المبادرة في الشارع العربي؟.