في حديثنا السابق، عن وحدة المتقابلات تناولنا جانبا من معضلات مشاريع النهضة العربية، وصفناه بمعضلة وضع العناصر اللازمة للنهضة في حالة تقابل، بدلا من التفاعل. وركزنا على عنصري الحرية والعدل. هذه المعضلة، معضلة التقابل تمس للأسف جوانب أخرى كثيرة، من مشاريع النهضة العربية.
لنأخذ على سبيل المثال، قضية الوحدة العربية. وقد رأى معظم المفكرين العرب، أن علاقتها بنقل المجتمع العربي، من مجتمع زراعي تقليدي إلى مجتمع صناعي متقدم هي علاقة جدلية، بمعنى أنها علاقة ترابط وتكامل. إن نجاح أحدهما: الوحدة والتقدم، متوقف على نجاح الآخر، وأن الفصل بينهما مهمة شاقة وعسيرة، إن لم تكن مستحيلة. هذا الاكتشاف، ليس وليد اللحظة، فقد أدرك محمد علي باشا أن تمصير مصر، وخلاصها من الهيمنة التركية، لن يتحقق إلا بتبني طريقين: الأول، التحديث والانفتاح على المنجزات العلمية الأوروبية في عصره، والآخر، خلق إمبراطورية عربية. بمعنى، أن استقلال مصر وحداثتها لا يتحققان إلا عبر ارتباط وثيق بالوطن العربي. أما مصر المعزولة داخل حدودها الإقليمية، فمآلها الحتمي الهزيمة والانحدار.
ورغم أن كافة مشاريع النهضة العربية، اعتبرت قضية الوحدة الركن الأساس، فيها، فإن سياقات تحقيق هذا الهدف، وشكل الوحدة المنشودة كانت ولا تزال موضوعا خلافيا بين المفكرين العرب.
فالفكر القومي الثوري، ركز على المضمون الاجتماعي للوحدة، باعتبارها إعادة تشكيل سياسي واجتماعي لخريطة الوطن العربي. بمعنى أنها سبيل لنقل المجتمع العربي من وضع عشائري قبلي شبه إقطاعي، إلى مجتمع مدني صناعي. إن ذلك سيحدث فقط في صيغة تحول دراماتيكي حاسم، ولن يتم عبر تطورات تدرجية. إن شرط تحققه، هو وثبات نوعية يصاحبها في الغالب غليان ونهوض، تندفع في صخبه الغالبية من الجمهور المحروم.
الوحدة ضمن هذا المنطق، لن تتم من خلال بُنيات فوقية، حالها في ذلك حال التغيرات الاجتماعية الكبرى في التاريخ الإنساني، والتي هي في أهم مقولاتها تعبير عن مصالح فئات اجتماعية. في هذا السياق، يستدل الدعاة للحلول الجذرية بتجارب فرنسا وانجلترا وروسيا والصين. وقد استمرت هذه الرؤية، سائدة في الفكر العربي، خلال حقبة نهوضه، في الخمسينيات والستينيات.
هذه الرؤية تراجعت، منذ نكسة الخامس من حزيران عام 1967، التي مثلت تحولا استراتيجيا في الفكر العربي، بدأ بردود فعل عاطفية، مارست جلدا عنيفا للذات، وتنكرت لكل المنجزات الوطنية والقومية، التي تحققت بعد تتويج مرحلة الكفاح الوطني بالنصر على المحتل. وكانت تلك المنجزات علامات باهرة، في مجرى النضال العربي، شملت التنمية ومجالات الفنون والمعرفة، كما شملت تناميا غير مسبوق في وعي الناس، تجاه قضاياهم. وقد زجت بأغلبية الشعب العربي، في أتون معركة المواجهة مع الصهيونية، ومعارك العدل الاجتماعي.
لكن مرحلة العجز هذه ما كان لها أن تستمر، ولم يكن للتاريخ أيضا أن يعاود خطاه بشكل ميكانيكي، دونما مراجعات نقدية لمرحلة النضال القومي، التي شهدتها الأمة في حقبتي الخمسينيات والستينيات. مراجعات نقدية، تنطلق من التسليم بالنسبي في قراءة التاريخ، وأيضا من كون التاريخ صيرورة وحركة في آن معا.
صيرورة، بمعنى الخلق والإبداع، وحركة تتفاعل فيها آليتا التفسير والفعل، وتشملهما معا. وذلك هو شأن كل تقييم إيجابي لتجربة إنسانية فوارة.
وفي عملية الخلق هذه، وفيما يتعلق بموضوع الوحدة العربية، حدثت رؤية جديدة للدولة القطرية، بدلا من وضعها في خط معاد للأمة، كما كان الحال في أدبيات الخمسينيات والستينيات، ومعظم الأدبيات الجنينية التي بشرت بالفكر القومي، إلى حال جديدة. أصبحت الدولة القطرية، الآن منطلقا وطنيا، نبني عليه، ولا نتجاوزه لتعزيز العمل الوحدوي القومي. ننطلق منه إلى صيغ فيدرالية أو كونفدرالية، تحقق الهدف الأسمى من فكرة الوحدة، خدمة مصالح الناس، ولحاق هذا الجزء من العالم، بقاطرة النمو والنهوض، وليس صيغة الاندماج الكامل، المنفعلة، التي كانت عنوانا لمرحلة الصعود في الفكر القومي.
ولأن التاريخ صيرورة وحركة، إرادة وفعل، لم تعد سياقات الثورات الاجتماعية الكبرى، وحدها دليل للعمل القومي، وبوصلته في صناعة الوحدة. فأمامنا الآن ما يعزز توجهاتنا الجديدة في القضية القومية. فلسنا على سبيل المثال، بحاجة إلى كبير عناء لتعريف من هو القومي، أو من هو العربي. فمن ينوء كاهله بالتجزئة، من يطالب بانتقال رؤوس الأموال العربية، من يطالب بفتح سوق العمل للعمالة العربية، من يطالب بإلغاء تأشيرات السفر بين العرب، من ينادي بعملة عربية موحدة، من يطالب بجواز سفر عربي موحد، من يطالب بإقامة سكة حديد تربط الأقطار العربية، من يؤمن بهذه الأهداف فرادى أو مجتمعة هو قومي، دون الدخول في متاهات أيديولوجية أو شعارات معقدة. والعربي، هو من يعيش على الأرض الممتدة، من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي، ويؤمن بحق أهلها في تقرير مصائرهم وأقدارهم، والنهوض ببلدانهم، وسيادة مفهوم المواطنة المستند على الندية والمساواة والتكافؤ هو عربي. ذلك بالتأكيد، يقتضي مراجعة واعية أعمق، لعناصر القومية، لغة وتاريخ وأرض مشتركة… وإعادة صياغتها بحيث تزج بمختلف الطاقات في عملية التنمية والبناء.
وإذا كان علينا أن نستلهم عبرا ومحفزات من التاريخ، فليس صحيحا، أن الثورات الاجتماعية الكبرى، في فرنسا وبريطانيا وروسيا والصين، على أهيمتها هي كل ما لدينا. وإذا ما انطلقنا من رؤية برجماتية، فإن دليل الصواب والخطأ، يكمن في تقييم التجارب والبرامج السابقة واللاحقة، نجاحا أو فشلا. وقراءتها بوعي يضعها في سياقاتها التاريخية الصحيحة، وليس في سياق من خارجها.
فالتحولات الاجتماعية الكبرى، التي أشرنا إليها، أخذت مكانها ضمن سياق وظروف تاريخية مختلفة، وتبنيها من قبلنا سيكون بمثابة وضع العربة أمام الحصان. بمعنى طرح شعار دون إمكانية تحقق ظروف تاريخية تسمح به. وأهم معوقات ذلك، هو هشاشة التشكيلات الاجتماعية، في منطقتنا، وحالة الانسداد التاريخي، التي فرضتها تلك الهشاشة.
لا مندوحة إذا، من اجتراح وسائل أخرى، بإعمال العقل والفعل. لا بد من عمل خلاق ومبدع، يستند على الفعل الإرادي الإنساني، ويقسر الظروف التاريخية، ليس من خلال تجاوزها، لأن ذلك بحكم المستحيل، ولكن بالتغلب على عناصر الردة، ومعوقات النهوض. ونجد نفسنا هنا مجبرين، أن نركز على عنصري الثقافة والوعي، مسلمين بأن الفكر، حسب المنطق الهيجلي، قوة تاريخية، كما هو الفعل أيضا قوة تاريخية.
نتعلم من الثقافة والوعي، أن التحولات نحو الديمقراطية، التي شهدتها أوروبا الشرقية، وانتقلت بموجبها من أنظمة شمولية إلى أنظمة ديمقراطية، وهي تحولات اجتماعية كبرى، بقياسات التاريخ، قد تمت دون معارك اجتماعية، وحدثت في الغالب بشكل سلمي، بما في ذلك سقوط جدار برلين.
بل إن السقوط الدرامي للاتحاد السوفييتي، قد تم هو الآخر، بشكل سلمي. ولن يكون مجديا القول بأن الأزمة الاقتصادية التي واجهها هي وحدها التي أدت إلى سقوطه. فهناك بلدان كثيرة تعيش أزمات اقتصادية حادية، وتحكم بقبضة استبداد حديدي، ولم يحدث فيها انتقال رئيسي نحو الديمقراطية. إنها جملة من العناصر المركبة والمعقدة، من ضمنها شيخوخة النظام الشيوعي، وتصاعد النزعات القومية، والصراع بين أجهزة النظام البيروقراطية، مضافا إليها الأزمة الاقتصادية الحادة، وأيضا تدخلات القوى الدولية في الشؤون الداخلية للاتحاد السوفييتي، هي التي أودت جميعا إلى تفككه، ونهايته. كان العقل الإنساني، جاهزا ومتحفزا لدى شعوب أوروبا الشرقية، وجمهوريات الاتحاد السوفييتي، ولذلك حدث انتقال سلمي سلس في الهرم الفوقي، وتغيرت النظم السياسية في تلك البلدان.
أمامنا تجربة أخرى، رائدة، ينبغي أن يستفيد منها التوجه القومي العربي، هي تجربة الإتحاد الأوروبي، وقد مرت بمسار طويل، ومخاض عنيف، لكنها أخذت مكانها في النهاية بجدارة واستحقاق. وكان ما ينفع الناس، هو قاطرة حركتها، منذ بدأت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية مباشرة، حتى إعلان تأسيس الإتحاد، بوضعه الحالي. وهي تجربة ثرية تستحق أن نقف عندها وأن نقرأها بوعي، في محطات قادمة، ضمن عمل دءوب ومثابر، لإعادة الاعتبار لمشاريع النهضة العربية.