لا أحد يختلف على أن صدور ميثاق العمل الوطني قد مثل نقطة تحول مهمة في تاريخ البحرين السياسي الحديث، عندما اقترنت رؤية جلالة الملك حمد بن عيسى وعقليته المتفتحة برغبة وتصميم القوى السياسية والرموز الوطنية ومؤسسات المجتمع البحريني، الأمر الذي أدى إلى حصول "التوافق الوطني" وولد الاقتناع التام عند جميع الأطراف للخروج من المأزق الذي كانت تعيشه البلاد، وتعجيل عملية الانفتاح السياسي عبر العديد من الخطوات العملية على الأرض، التي مهدت الأجواء وأوجدت قاعدة سياسية جديدة قائمة على الثقة كان يمكن البناء عليها وتطويرها.
إحدى صور وتعبيرات هذه "الثقة" إقدام القوى السياسية على مختلف توجهاتها السياسية وانتماءاتها العقائدية، على إعلان خياراتها السياسية الجديدة بالوقوف إلى جانب المشروع الإصلاحي الذي أطلقه جلالة الملك والعزم على تطويره حتى بلوغ أهدافه، ومن المؤكد أن إعلان القوى السياسية هذا الخيار يفصح عن إيمان هذه الأخيرة بالأهداف والمبادئ العامة التي جاء بها "مشروع الإصلاح السياسي" وكانت تنتظر أن تكون شريكا حقيقيا وأساسيا في القرار السياسي من دون أي قيود أو عوائق دستورية أو قانونية من أجل المضي في طريق ترسيخ قيم العمل السياسي الوطني السلمي، باعتباره أحد أهم محاور أو وجوه الإصلاح الديمقراطي في البلاد، الذي لابد أن يفضي مع مرور الوقت إلى تعميق وعي الناس بحقوقهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ويلبي تطلعاتهم إلى الحرية والمساواة والعيش الكريم، فهذه هي الركائز الأساسية التي بشر بها "مشروع الإصلاح" وتوافق عليها هؤلاء الناس مع القيادة من خلال "ميثاق العمل الوطني" الذي صدر قبل تسع سنوات.
ومن المتفق عليه أن إحدى أهم القنوات لتطوير عملية الإصلاح السياسي وحمايته من أي ضعف أو تراجع، وجود قوى سياسية "معارضة" تمارس عملها السياسي بحرية تامة تستطيع أن تراقب أداء وعمل الحكومة والقيام بممارسة عملية نقد موضوعي لأي قرار أو إجراء تقدم عليه السلطة التنفيذية يؤشر على وجود خلل ما في اسلوبها أو طريقة معالجتها أو في أهدافها النهائية من هذا القرار أو الاجراء السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي.لذلك لا معنى للحديث عن الديمقراطية وعن العمل السياسي المنظم من دون أن تتاح الفرصة للقوى السياسية بأن تلعب دورها في العملية السياسية، وفي صلب هذا الدور يأتي وجودها الدائم في الساحة السياسية ومسئوليتها عن المتابعة ومراقبة التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتحديد الموقف منها.
وتزداد هذه المسئولية عند مرور الوطن ببعض المنعطفات السياسية التي تؤشر على وجود بعض المخاطر أو التداعيات السلبية، أو في حالات وجود قصور أو تراجع على مستوى الحريات العامة للمواطنين وبشكل يتناقض مع مبادئ الإصلاح السياسي، ويمكن أن يقود هذا القصور إلى بعض الاضطرابات أو الاحتجاجات السياسية، وهنا يبرز دور المعارضة وأهمية حضورها في عقلنة وهذه الاحتجاجات وتحويلها إلى مطالب سياسية في إطار القانون والقابلة للنقاش والتفاهم حولها.
فالمعارضة يمكن أن تكون صمام أمان ضد تحويل أي خلاف أو نزاع إلى صراع أو مواجهة، وهذه الحقيقة هي التي تستدعي من الحكومة أن تتفهم أهمية دور المعارضة وأن أي محاولة للإجهاز عليها أو تقزيم دورها تعد في الواقع تشجيعاً على اللجوء إلى "حوار الشارع" واختيار طريق المواجهة.
والقوى السياسية أو المعارضة الواعية تدرك جيداً أنه بقدر ما تكون مسئوليتها كشف النواقص والسلبيات، عليها أيضاً المشاركة في تقديم الحلول والمقترحات التي يمكن أن تسهم في علاج أي أزمة طارئة أو التقليل من انعكاساتها السلبية على الوطن والمواطن، بغير ذلك تكون هذه المعارضة قوى سلبية وتتحول إلى عبء على العمل السياسي الوطني ولا يمكن الوثوق في نياتها أو في صدقية شعاراتها، وهذا يمثل أحد المفاتيح المهمة لدخول بوابة بناء الثقة بين القوى المعارضة والدولة، والوصول إلى نقطة التوازن المطلوبة لنجاح العملية السياسية في البلاد، عندما يتحقق مستوى من الضمان الذي يصون "مشروع الإصلاح الديمقراطي" ويحفظه من أي تراجع أو انحراف، وفي الوقت نفسه يصون العمل السياسي الذي تمارسه القوى السياسية من أي غلو أو شطط، ويمكن بلوغ "نقطة التوازن" هذه فقط عندما تنظر الحكومة أو الدولة إلى القوى السياسية والمعارضة باعتبارها شريكا وليس منافسا في العملية السياسية، فالمعارضة هي في نهاية المطاف وسيلة أو أداة للتغيير، إذا وجدت في نظام ديمقراطي يعترف بشرعيتها ويحترم حقوقها.
وطالما هناك "سياسة" وعمل سياسي، لابد من الإقرار بوجود معارضة باعتبارها التعبير الحقيقي عن هذه السياسة، بمعنى أن المعارضة لا يمكن أن تكون وفق مزاج الحكومة أو تنشَأ وفق قياساتها للدفاع عن ممارساتها أو تبرير قراراتها وسياساتها القائمة، انما دورها هو الدعوة والمطالبة بتغيير تلك الأوضاع وعلى كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية نحو الأفضل.
لذلك قلنا في بداية هذا الموضوع ان إعلان "ميثاق العمل الوطني" قد مثل تحولا مهما في تاريخ البحرين السياسي والاجتماعي عندما نقل البلاد، من مرحلة "قانون أمن الدولة" إلى مرحلة بناء الديمقراطية، وكما هو معروف أن للديمقراطية أسسا وآليات وقواعد، وإحدى أهم هذه القواعد وجود المعارضة السياسية، فليس هناك دولة تعلن نفسها أنها ديمقراطية، من دون أن تسمح بوجود "معارضة" بل الحقيقة أنه لا يمكن وجود "دولة" أصلاً من دون معارضة، سوى تلك التي تعيش على هامش التاريخ، وكما يقال ان الاختلاف من طبيعة الأشياء، ولكن المهم أن نفهم أن الاختلاف يجب أن يتم ويعالج وفق القواعد والأسس الديمقراطية.
وهذه قضية ترتبط في الواقع بالوعي وبالثقافة السياسية السائدين، إذا ما كانت ثقافة تشجع على قبول، أو التعايش مع الآخر المعارض، أو هي ثقافة "اقصائية" و"استئصالية"، في ظل تلك الثقافة الحكومة تطلق على المعارضين الكثير من النعوت السلبية والشائنة أحياناً وتطاردها في الداخل والخارج، هذا إذا اعترفت بوجود قوى سياسية أو معارضة أصلاً، وكذلك القوى السياسية هي الأخرى لا تخلو من عيوب في بعض الممارسات والمطالب السياسية غير المتوازنة، والنتيجة هي غياب "الثقة" بين الدولة والقوى السياسية وانسداد أي أفق للتعايش والحوار، حتى استطاعت رؤية جلالة الملك، طي تلك الصفحة من تاريخ البحرين.
من هنا نحن لا نجد في الحقيقة أي تفسير لاستمرار انعدام الثقة بين الدولة والقوى السياسية بعد مرور هذا الزمن من عمر "المشروع الإصلاحي" سوء غياب "الحوار" بين الطرفين، بالرغم من أن ميثاق العمل الوطني قد رسم "حدود" و"سقف" "الديمقراطية" في البلاد بمعنى أنه رسم حدود المشاركة السياسية من خلال العديد من "القوانين" و"الآليات" سواء ما تعلق منها بقانون "الانتخابات" أو "الدوائر الانتخابية" أو بقانون "الجمعيات السياسية" أو بنظام المجلسين وصلاحيات كل منهما، ومع وجود اختلاف في الرؤية والهدف بين الدولة والقوى السياسية حول هذه "القضايا" إلا أن ذلك لا يلغي أو يمنع الأسس العامة للتوافق بينهما، خاصة ما يتعلق بطبيعة وشكل النظام السياسي في البلاد.
ففي الدول الديمقراطية "العريقة" التي تسمح بتداول السلطة يجرى الحديث دائماً عن المعارضة السياسية وعن برنامجها السياسي الذي يتعارض أو يخالف برنامج الحكومة، والقانون وطبيعة النظام في هذه الدول يسمحان للمعارضة بالوصول إلى الحكم لتنفيذ برنامجها، من خلال المشاركة في الحكم أو الاستحواذ عليه عن طريق الانتخابات الديمقراطية والشرعية الدستورية أما عندنا فحدود مشاركة القوى السياسية المعارضة لا يمكن أن تتجاوز محاولة الضغط أو التأثير في قرارات الحكم والسعي إلى تحقيق بعض المطالب عبر استثمار أو اختراق أي حركة احتجاج باعتبارها أداة من أدوات العمل السياسي بين المعارضة، بغية الوصول إلى معالجة أو حلحلة بعض الملفات الوطنية المهمة التي تشكل من وجهة نظر المعارضة الأسباب الرئيسية وراء توالد الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وما يحصل هنا في الواقع يمثل جوهر "العمل السياسي" الذي يجب ألا يقلق أحدا أو يثير في نفسه أي شكوك أو هواجس حول نيات المعارضة.
فليس هناك من يفكر أو يدعي بأنه سيكون بديلاً عن النظام السياسي القائم أو ينازع في "شرعيته"، وكل عمل أو تحرك سياسي أو نقابي يتم في إطار هذه الشرعية وتحت سقفها، وهذه قضية أساسية تدركها المعارضة جيداً، لأنها من الوسائل المحسومة وجرى الاتفاق أو "التوافق" بشأنها، وأي تحرك أو دعوات تحمل في طياتها ما يخالف هذا الأمر يعد في الواقع خروجاً أو تعدياً لا يمكن تبريره أو الدفاع عنه.
نحن هنا نتحدث عن "واقع سياسي جديد" حمل معه الكثير من المتغيرات الايجابية (قد نختلف في تقييم حجمها) مطلوب من القوى السياسية التفاعل والتعاطي معها برؤية سياسية واقعية وموضوعية، ومن دون شك أن هذه الرؤية تحتاج إلى وجود سياسيين واقعيين أيضاً، يمتلكون القدرة والوعي على تحقيق المطالب وتطويرها مع الزمن من دون التخلي عن جوهر تلك المطالب والثوابت التي تحكمها.
أما النظرة "المثالية" التي تتسم "بالحدية" ومحاولة اقحام المسائل الدينية والمذهبية في هذا الواقع السياسي فمعنى هذا أننا نقوم باستحضار كل وقائع وأحداث التاريخ، ونقوم أيضاً باستدعاء كل الخصومات والفتن في التاريخ العربي الإسلامي، لنسقطها على واقع سياسي لا يحتمل كل هذه الحمولة التاريخية الثقيلة، ومعنى هذا أنه لا مجال أمامنا للخروج من المأزق السياسي الذي ندفع ثمنه جميعاً، وأنه لا مجال للاهتداء إلى منفذ يضع حدا للانسداد في أفق عملنا السياسي والاجتماعي القائم.
إذاً لا سبيل أمامنا سوى التفاعل مع "الواقع" الذي يفرض علينا إعادة صياغة رؤيتنا وإحداث مراجعة عقلانية لبعض "المسبقات" السياسية، وتهيئة الأرضية والأجواء لتطوير هذا "الواقع" وتقريبه إلى ما نطمح ونريد في إطار اللعبة الديمقراطية التي على الحكومة أيضاً أن تركن إلى أسسها ومعاييرها وتلتزم بقواعدها المتعارف عليها في كل الديمقراطيات، ولا شك أن المعارضة في دعوتها إلى "الحوار" تنطلق من هذه "الرؤية الواقعية".
هذا هو الإطار العام الذي يجب أن يحكم العمل السياسي في البلاد ويحدد خطوات واهداف المعارضة ويجب أن يحدد أهداف الحكومة أيضاً، ما يعني أنه ليس هناك ما يبرر أي محاولة من جانب الدولة لتجاوز أو تهميش هذه القوى تحت أي ظرف من الظروف، أو فتح قنوات للحوار معها، سواء داخل المؤسسات الدستورية أو خارجها.
نقطة أخرى جديرة بالتأكيد هنا، هي عندما نحن نتحدث هنا عن المعارضة يجب ألا يتصور أحد أو يفهم أننا نتحدث عن "ملائكة" أو "قدسيين" فكما للأنظمة أخطاؤها وأمراضها، كذلك لبعض القوى السياسية والمعارضة أخطاؤها وأمراضها أيضاً، كما أنه لا يمكن لأحد أن ينفي أو ينكر وجود معارضة سلبية تعارض من أجل المعارضة فقط وهي مولعة بالنقد الدائم من دون فهم أو ادراك لقيمة أو وظيفة النقد، كذلك لا تخلو أي ساحة سياسية من وجود بعض السياسيين الوصوليين، من الذين يعارضون لمصالحهم الخاصة، كأن يريد هذا المعارض أو ذاك البروز والنفخ في الذات بغرض لفت نظر السلطة السياسية إلى وجوده ودفعها لاحتوائه عبر اسناد منصب له في الحكم.
هذه "النماذج" تمثل في الحقيقة افرازات طبيعية للمجتمع السياسي والاجتماعي، والإقرار بوجودها لا يلغي وجود المعارضة الحقيقية الصادقة والمؤمنة بدورها وبحقوقها في الدفاع عن مطالب الناس العادلة ومساهمتها في تطوير العمل السياسي والديمقراطي في البلاد، وأن مستقبل هذا العمل مرهون بنشاطها وقدرتها على بلورة وعي وطني حقيقي يؤمن بالمشاركة ويرفض العنف والاقصاء، ويعمل على ترسيخ ثقافة الحوار والتعايش وقبول الآخر المعارض.