كان الهدف الأساسي من تأسيس حركة عدم الانحياز في عام 1955 هو الابتعاد عن سياسات الحرب الباردة التي كانت بين المعسكرين، المعسكر الغربي وحلف الناتو، والمعسكر الشرقي وحلف وارسو (موسكو). وتأسست من 29 دولة والآن يصل عدد أعضائها إلى أكثر من 116 دولة و17 دولة عضواً مراقباً وسبع منظمات.
ومن الأسباب الأساسية لنشوء هذه الحركة؛ صيانة الاستقلال السياسي للدول الأعضاء، وكراهيتها للاستعمار المعيق للنمو الاقتصادي، رفض هذه الدول الانضمام لأحد المعسكرين الشرقي أو الغربي، والتأكيد على الشخصية والهوية للدول الأعضاء التي رفضت سياسة الصراع بين هذين المعسكرين، وأخيراً دعم هذه الحركة للحركات التحررية الوطنية في المحافل الدولية وبناء مجتمع دولي يقوم على مفاهيم سياسية وأخلاقية حميدة.
كما إن حركة عدم الانحياز قامت على عدد من المبادئ، نذكر منها؛ التعايش السلمي النزيه، واحترام حقوق الإنسان، واحترام مبادئ هيئة الأمم المتحدة، واحترام العدالة والالتزامات الدولية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، ورفض سياسة التمييز العنصري، واحترام السيادة الوطنية، واحترام حق الدول في الدفاع عن نفسها، والامتناع عن التهديد والعنف ضد أي استقلال سياسي للدول، ودعم القضية الفلسطينية، وردم الهوة بين فقراء الجنوب وأغنياء الشمال، ورفض التعامل مع أحد المعسكرين دون الآخر وتنقية العلاقات الدولية وحماية الثروات الاقتصادية مع التأكيد على حق الدول في الإشراف على مواردها الاقتصادية.
ولكن، بعد انهيار نظام القطبية الثنائية، وتفكك الاتحاد السوفيتي إلى مقاطعات ودول، وسيادة الهيمنة الأمريكية، أين هي اليوم حركة عدم الانحياز؟ وأين هي مبادئها؟ وهل بقى انحيازاً فيها؟ فقد استطاعت الحركة خلال أكثر من 40 عاماً من فرض أجندتها، في الكثير من أهدافها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكذلك في توثيق التكامل الاقتصادي والتنسيق السياسي بين دولها، من أجل حماية استقلالها من تقلبات حركة السياسة الدولية.
ولكن أين هي الآن من مبادئها وأهدافها؟
هنالك الكثير من العوامل التي ساهمت في ضعف حركة عدم الانحياز والتي أثرت في عدم قدرتها على ممارسة أعمالها، وأهم تلك العوامل هو تراجع مفهوم عدم الانحياز والذي يعني ''انتهاج سياسة خارجية مستقلة لدول أعضائها''.
والآن، ها هي دول الحركة، أبحرت بعيداً عن مفهوم عدم الانحياز، وأصبحت تنتهج سياسة الانحياز، بل أصبحت أداة فعالة في تنفيذ أهداف وسياسة الولايات المتحدة الأمريكية، وأداة طيّعة لإملاءات واشنطن، هذه السياسة التي نالت من استقلالية هذه الدولة ومن حرية شعوبها، ومن سيادتها على أراضيها ومن تمتعها بثرواتها الاقتصادية.
ولم تستطع هذه الدول في حركتها التي لم يبقَ منها إلا اسمها فقط أن تحقق ''الأمن والسلام''، فالآن يعيش العالم في صورة أقسى وأمر مما كان عليه في عهد الحرب الباردة، وخاصة بعد تفشي ''ظاهرة الإرهاب''، هذا الفيروس الأمريكي الذي نشرته واشنطن وحليفتها الصهيونية في كافة بقاع الأرض، من أجل حماية أمنهما ومصالحهما وتعزيز نفوذهما وهيمنتهما على دول العالم دون الاكتراث بمصالح تلك الدول وأماني شعوبها.
وأمام هذا العدو الجديد الإرهاب، فأما تكون دول العالم قاطبة أن تواجه هذا العدو مع الولايات المتحدة الأمريكية في جبهة واحدة أو أنها ستكون عدوةً لها، عندئذ سيتم تصنيف هذه الدول بأنها دول مارقة وسيتم وضعها في محور الشر. لذا فالعالم اليوم يقوده محور واحد فقط هو الولايات المتحدة الأمريكية، صاحبة السيادة والهيمنة والغطرسة، فهل تستطيع حركة عدم الانحياز في ظل هذه السيادة والهيمنة أن تحقق شيئاً من أهدافها؟ وهل هناك مبرر لوجودها؟
والجواب، لا تستطيع هذه الحركة الآن أن تحقق شيئاً من ذلك؛ وقد يكون نظرياً هناك مبررات لوجود هذه الحركة كعامل توازن مهم لحركة السياسة الدولية لما يشهده العالم من توتر ولحالة من عدم الاستقرار؛ وعملياً يمكن أن تكون تلك المبررات واقعية إذا استطاعت الحركة أن تسلب واشنطن جزءاً من هيمنتها وسيطرتها الأحادية الجانب؛ فهل تستطيع هذه الحركة أن تخوض هذه المعركة مع الولايات المتحدة الأمريكية؟ لقد استطاعت الولايات المتحدة أن تستفرد بهذه القطبية بعد أن فتحت لها عدة جبهات عسكرية واقتصادية وسياسية، منها في العراق وأفغانستان، في منطقة الخليج العربي، القضايا النووية، بجانب سيطرتها الفعلية على حلبة المساعي الدولية في أوروبا وباقي قارات العالم، فأي جبهة تستطيع حركة عدم الانحياز أن تفتح حتى تستطيع فعلاً مشاركة القطب الأوحد في سياسته الدولية؟
والآن، ماذا لدى القمة الـ15 للحركة أن تقدمه؟ وأي من القرارات التي صدرت عنها سيتم تنفيذه؟ وهل لأشخاص هذه القمة دور وأهميةً كما كان للرؤساء الأوائل المؤسسين مثل جمال عبدالناصر، وجوزيف تيتو، وجواهر نهرو، وماوتسي تونغ، وسوكارنو؟ هؤلاء الذين كان للمعسكرين الغربي والشرقي يحسب لهما ألف وألف حساب؟
فهذه الحركة ومؤتمرها الذي انعقد تحت شعار (التضامن الدولي من أجل السلام والتنمية) لا تستطيع أن تطبق قراراتها على دولها، ولا على المنظمات الدولية والإقليمية التي لا يهتم بشأنها أحد، فالقضية الفلسطينية ودارفور والصومال والتنمية الاقتصادية في دول أفريقيا وقضية الرئيس السوداني ومشاكل الشرق الأوسط.. هذه الملفات جميعها لا يستطيع حلحلتها إلا واشنطن التي ملكت السيطرة على العالم، ولو أصدرت هذه القمة عشرات أو مئات القرارات فإن نهايتها إلى أدراج المكاتب، ولن يتذكرها أحد إلا عند انعقاد القمة الـ16 القادمة. وإن كافة الجهود التي أعلنت عنها القمة للتقليل من الأزمات والنزاعات إن لم تكن مدعومة من قبل واشنطن والعدو الصهيوني في توجهها وقراراتها فلن يكون لها أي مبرر ولن تحقق أي نتيجة تُذكر.
والآن، أي من هذه الدول الأعضاء في حركة عدم الانحياز غير منحازة فعلاً للبيت الأبيض؟ وإذا كان الجواب (لا توجد أي دولة غير منحازة) فهذا يعني ببساطة وواقعية أن الحركة غير فعالة وليس لها أي تأثير في القضايا الدولية
© جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia.