بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الاستاذ المناضل علي الصراف يساري عراقي كان معارضا للبعث حتى الغزو، لكنه بروح عراقية اصيلة تبنى الموقف الوطني الصحيح وهو الدفاع عن البعث لانه حزب جهاد وشهداء، مع انه لديه اعتراضات ونقد للتجربة البعثية، وهذا امر طبيعي ومطلوب. وفي مقاله هذا يضع النقاط على حروف رسالة تنبيه العراقيين والعرب الى مواطن الصواب والعقلانية ويحثهم على وضع الوطن قبل الانتماء الحزبي وفوق العواطف الثأرية، اذا كنا حقا نريد تحرير العراق وفلسطين والاحواز وكل ارض عربية محتلة. أقرأوا المقال سترون فيه روح العراق المقاوم بكل شرف الموضوعية ودقة رواد الحقيقة ثم بعد انهاء القراءة سترون ارواح الشهداء تحوم فوق رؤوسنا فرحة مستبشرة بشجاعة النقد.
أما حزب الشهداء، فأنصف
بقلم: علي الصراف
قل لي من هم أولئك الذين يناهضون حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق، أقول لك أي حزب يكون.
إذا وجدت أن عملاء الاحتلال ومأجوريه هم الذين يسعون الى سحقه وإزالته من الوجود، فاعلم انه حزب ونزاهة وشرف.
وإذا وجدت أن طائفيي الصفوية هم الذين يلاحقون مناضليه بحملات القتل والاعتقالات والتعذيب، فاعلم انه حزبُ وطنية أصيل.
وإذا وجدت أن صهاينة وامبرياليين يعتبرون إزالة سلطته نصرا لديمقراطية النهب والسلب والتدمير، فاعلم انه حزب بناء وتقدم وتحرير.
وإذا وجدت انه حزب شهداء وثكالى وأسرى وأيتام ومُطاردين كما لم يكن حزبٌ من قبل، فاعلم انه حزب مجاهدين وان كل دمعة نزلت من عين أم على ابنها من شهدائه، ستكون شاهدا من شهود الحرية على الجلادين.
هذا حزب عاد الى جذره، كواحد من أكثر الأحزاب العربية تمسكا بقيمه ومبادئه وتطلعاته، ووقف ليعمدها بالدم.
وهو عربيا، الأخير. انه آخر العروبة، وآخر الوحدة القومية، وآخر التضامن العربي، وآخر التحرير، وآخر التكامل، وهو السطر القومي الأخير في النضال من اجل تحرير فلسطين.
إنظر الى الخارطة العربية، تمعن في أحزابها، وستجد انه الوتد الأخير.
نعم، يوجد حزب بعث آخر في مكان ما قريب، إلا انه منذ أن صار حزب قتال تحت راية نورمان شوارزكوف، فقد ودّع أرض عروبته حتى لف عمامة "قوميته" بعلمين، و.. علمه بعمامتين.
هكذا، ظل بعث الشهداء هو الحزب العروبي الأخير، والأخير الذي ما يزال ينبض بالحياة من نواكشوط الى بغداد، ومن حلب حتى حضرموت.
ولئن بدا حزب "أخطاء" "وخطايا" في بعض حالات عابرة، فقد كان حزب معجزات تنموية وعلمية واجتماعية عظيمة أيضا في بعضها الأكثر.
يجوز الاختلاف فيه. ولكن لا يجوز اليوم إلا الوقوف في صفه. ربما لم يكن كل ما فعلته سلطة حزب البعث صحيحا. وقد لا يكون كل ما تبناه من خيارات سليما. ولعله زاد في وطنيته مغالاة حتى لم يعد يرى وطنيين آخرين. وكانت تلك لحظة ظالمة عليه، ظلمها على غيره. ولكنه كان حزب بشر. والبشر يخطئون. والأخطاء قد تكون كثيرة في التفاصيل، وفي أوجاعها. ولكن الأساسيات الوطنية، والاستراتيجيات، ظلت تعبر عن روحٍ نقيةٍ ومعدنٍ أصيل.
بعضنا كان يرى وجها، ويترك آخر. وكنا بحاجة الى أن ننظر في الوجهين، وان نقيم ميزان عدل بين الأساسيات والتفاصيل، ثم بين تفاصيل الأخطاء وتفاصيل الخير، وهذه الأخيرة كانت أكثر بكثير.
كانت تنقصنا الجرأة حينا، والمحبة حينا. الخوف التقليدي من القمع كبح جماح الشجاعة على القول. والقول، إذ كان يتجرد من محبة البعثي الوطني كما يتجرد من احترامه، فقد كان يدفعه دفعا الى الخشية، فيقسو ويظلم.
الوطنيون العراقيون يميلون الى التنافس، لا الشراكة، والى الشك قبل الثقة. ومن هذا التنافس والشك كان ينشأ الشرخ في وطنيتهم نفسها.
لا يكفي أبدا نقد حزب البعث في سلطته. هذا ميزان أعوج. وطنية الذين ظلوا خارج السلطة، بل وحتى الذين شاركوا فيها، كانت تنفي الآخر وتنكره وتثير في نفسه نوازع الريبة، فوق أنها لم تكن تستسيغه حتى في أفضل ما كان يفعل.
وكان من الطبيعي للنزعات الإيديولوجية المغلقة أن تتصادم، وان يُثمر تصادمها نفيا متبادلا يفرض فيه الأقوى إرادته.
والتنافس إذ كان يخلو من الاحترام، ومن القبول، فقد كان بطبيعته وصفة للتناحر وشق الخنادق.
الإعتراف بوطنية البعثي، وبإخلاص تطلعاته، ما كان يمكنه إلا أن يستجلب الشيء الذي ظل ناقصا: اعتراف البعثي بوطنية الآخرين وبإخلاص تطلعاتهم.
وكلهم وطنيون، ولكن كلهم، "يا وحدنا"، و.. "يا لا أحد غيرنا".
وإن تخطئ، لا يُقال لك باحترام لوطنيتك إن هذا "خطأ" في حدود مكانه وجزئيته، بل كان يُنظر اليك بشمولية التحزب الأعمى بوصفك خصما وعدوا. كلك على بعضك "مو صحيح". أما أنا فـ"كلي على بعضي حلو".
وكانت تلك وصفة للغطرسة.
أعطني حزبا وطنيا لم يخطئ في سياسة أو خيار، وسأعطيك حجرا. وسأذهب معك اليوم، حتى وحزب البعث يبذل أحرارا ودموعا ودما، لنعارضه من جديد، ولنرفع ضده سلاح النقد والتنديد.
كان من حُسن الوطنية، ذات يوم، أن يقف المرء ليقول لحزب البعث انك حزب سلطة متجبر أو متفرد. لكن كم كان ينقص تلك الوطنية أن ترى ذلك الوجه الآخر الذي راكم البعث فيه منجزات ومعجزات في بناء دولة صارت، رغما عن كل المحيط، قوة إقليمية عظمى، ومشروعا علميا خلاقا، ومجتمعا يرفل بالأمن والتآخي ويتم صهره في معترك التحدي من اجل عراق عظيم.
كنا نرى وجها. ونعمي أبصارنا عن آخر، فعمينا معا.
ولكن ها أن لدينا اليوم حزب جهاد عنيد، يستجلي معدنه، ويعود الى جذره التحرري. فإذا وثقت به، فهو خير من ينقد ويستدرك.
وها أنه اليوم حزب شهداء وقفوا أمام الموت ليجتازوا أبديته وهم يهتفون باسم العراق وفلسطين.
وليس بعد الشهادة من كلام.
نختلف؟
طبعا نختلف. ولكن عندما تبلغ الحد الأخير. فلن يبقى للاختلاف أي معنى. يدخل الشهيد في رحاب الخلود ويسرق الشعلة منك، فيكون صمتك هو كل ما بقي من كلام.
تستطيع أن تعلك طواحين الكلام كلها عن الخطأ والصواب، عما كان، وعما يجب أن يكون، ولكن ليس بعد حبل المشنقة، وليس بعد أن تتضرج بدم الحرية.
كن مُنصفا، واحسب، وسترى أن لدينا حزبا قدم من الشهداء والضحايا ما لم يقدمه حزبٌ آخر في العراق. وكلُ واحد منهم كان يُزيل بمقاومته تحفظا ويُطهر بدمه نقدا، ليوقد مكانهما شمعة حرية.
ربما لم يكن كل بعثي وطنيا في ماضي الأيام حيال وطنيين آخرين، ولكن اليوم فما من وطني إلا ويجب أن يؤازره ويقف في صفه، ويُنصف أحراره ومناضليه.
ويحتاج المرء أن يكون بطلا يضع دمه على كفه لمجرد الجرأة على القول انه بعثي، حيثما تلاحقه كل آلة الوحشية والجريمة والخيانة.
ويحتاج الوطنيون العراقيون في المقابل، أن يتحلوا بالشجاعة، للقول انهم يحبون كل مَنْ يكرهه الغزاةُ وعملاؤهم، ويكرهون كل مَنْ يحبونه.
هذا هو الموقف الوطني المستقيم.
يدفع بعثيو العراق من دمهم اليوم، ومن دموع أمهاتهم وعذابات أبنائهم، ثمن وطنيةٍ صارت تاجا على رؤوسهم، وافقتهم في السياسة أم لم توافق.
نختلف؟
ليست مشكلة. ولكن إذا كنت وطنيا، فهذا أخوك. دمه دمك. ودموع أطفاله إنما تخرج من عينيك.
فأعطف، وأنصف.