اذا بحثنا في السجل الواقعي لاي من التجارب الثورية في الوطن العربي والعالم الثالث لمعرفة وتحديد اي تجربة منها اتسمت بتنفيذ برنامجها الستراتيجي بمفرداته الاساسية لوجدنا ان ثورة 17 تموز عام 1968 في العراق كانت التجربة الرائدة في مجال تنفيذ الوعود والاهداف الكبرى، وان التجارب الاخرى تراوحت بين اجهاضها قبل تنفيذ برنامجها الاساسي، كتجربة المرحوم جمال عبدالناصر في مصر، او الفشل والتحول الى حالة تقليدية من الطلاق بين الشعارات والتطبيق، او انها تقدمت الى منتصف الطريق ثم طوقت ومنعت من اكمال مسيرتها الاصلية كالثورة الكوبية.
كيف نستطيع اثبات ذلك؟ ان المعيار الوحيد المقبول لاثبات ان ثورة 17 تموز قد تميزت عن غيرها بكونها التجربة الرائدة، ان لم تكن الوحيدة، التي نفذت المرحلة الاولى من برنامجها النهضوي القومي (مرحلة اقامة قاعدة محررة ومتطورة) باقتدار عال ودقة بارزة سجلتها منظمات عديدة غير حكومية اضافة للامم المتحدة، فلقد تمت عملية اعادة تشكيل وبناء العراق وتحريره من النفوذ الاجنبي الاقتصادي والسياسي، خصوصا بناء الانسان الجديد بصفته الثروة الاساسية الدائمة، واقامة بنية تحتية تعد الشرط المسبق للنهوض واطلاق الطاقات الابداعية، وانشاء صناعة ثقيلة، واحياء الزراعة…الخ. ولئن كانت ثورة 14 تموز عام 1958 قد اجهضت، نتيجة استفراد الطغمة الشعوبية (الديكتاتور قاسم والحزب الشيوعي) بالسلطة واشعالها المتعمد صراعا دمويا قاسيا ومدمرا لطاقات البناء والتنمية، فان ثورة 17 تموز قد قامت، بان واحد، بانجاز مهام الثورتين في اطار البرنامج الوطني والتحرري والديمقراطي.
التحرر الاقتصادي
من بين اهم السلبيات التي ترتبت على الصراع العراقي–العراقي، الذي فجره عبد الكريم قاسم والحزب الشيوعي، بقاء النفط العراقي بيد القوى الغربية الاستعمارية، رغم ان ثورة 14 تموز عام 1958 كانت تضع هدف تحرير الثروة النفطية في مقدمة اهدافها، فالصراع الداخلي العنيف استهلك الطاقات الوطنية الكفاحية وجعل خوض صراع مع الاستعمار من اجل تحرير الثروة الوطنية الرئيسية، وهي النفط، هدف صعب التحقيق، او لان النظام القاسمي كان في الواقع، لا يريد تاميم النفط اصلا، بل تحسين وزيادة حصة العراق فقط، كما جري في الواقع.
لذلك حينما قامت ثورة 17 تموز عام 1968، كانت تدرك، بحكم التجربة والوعي السياسي، ان لا قيمة فعلية للتحرر السياسي من الاستعمار اذا لم يستند اساسا على التحرر الاقتصادي، فما دامت الثروة النفطية بيد الشركات الاجنبية، فان الحكم الوطني، ومهما كانت جديته، لن يستطيع الامساك بالدولة والمجتمع بقوة ولا حل مشاكلهما التقليدية، وابرزهما الفقر وامية اغلبية الناس.
كان العراق، رغم ثروتة النفطية الكبيرة، يعاني من فقر وامية بنسبة حوالي80% من عدد سكانه، كما كانت الامراض المزمنة تضرب هذة النسبة ايضأ، ولهذا عد العراق من بين الدول المتخلفة والفقيرة رغم ثراءه الكبير! والسبب هو غياب الحكم الوطني ذوالبرنامج الثوري والتحرري، واستلام الحكومة العراقية نسبة ضئيلة من موارد النفط وبقاء الحصة الاكبر للشركات الغربية، وكان هذا هو الحل في ظل الملكية وفي ظل نظام قاسم، الذي اكتفى بأصدار قانون رقم (80) الذي حدد مناطق استثمار الشركات الاجنبية دون تاميم النفط.
ولذلك كان من بين اهم اهداف ثورة 17 تموز هدف تحقيق التحرر الاقتصادي الكامل عبر تاميم النفط، ثم الشروع بتطبيق برنامج تنمية اقتصادية شاملة، وأبتدأت معركة التاميم في عام 1971 وانتصر العراق فيها في عام 1972، وبسرعة انشأت قيادة الثورة صناعة نفطية متكاملة عراقية مئة بالمئة، من الاستخراج حتى التصدير، وطردت الشركات الاجنبية، وقد ادى ذلك الى بروز (تراكم بدائي) سريع جدا من موارد النفط التي صارت كلها للعراق.
التنمية الاقتصادية
بتوفر موارد مالية ضخمة من التأميم وضعت خطط تنفيذية لاهداف جوهرية يضمن انجازها تحقيق تنمية اقتصادية كبرى. وكان الشكل الاولي لهذه التنمية هواستيرادالخبرة الفنية المطلوبة مع استيراد ادوات التنمية الاقتصادية، اي المصانع والمعدات الحديثة. وبعكس التنمية الاقتصادية – التكنلوجية في الغرب، والتي حدثت ببط وانتقلت من البسيط الى المعقد، فان مثيلتها في العراق ابتدأت باستيراد الاجهزة والادوات التي تحقق التقدم الاقتصادي والتكنولوجي. وفي هذا الاطار كان ضروريأ جدا تأسيس بنية تحتية حديثة، كالطرق والجسور والمواصلات والاتصالات والخدمات الفنية…الخ، لان التنمية الحقيقية لا تقوم بلا بنية تحتية حديثة ومتطورة.
هذا الشكل من التنمية الاقتصادية القائم على الاستيراد كان مبعثة حرص قيادة الثورة على تحقيق ما اطلق علية في السبعينيات (التنمية الانفجارية)، وهي عكس التنمية البطيئة الطبيعية التي تقوم على تحقيق تراكم بدائي في رأس المال يحدد درجة وسرعة التنمية. ولكن في التجربة العراقية كان توفر التراكم الرأسمالي السريع من موارد النفط، قد سمح بتنمية انفجارية اصطناعية تمثلت في استيراد المعامل والالة والخبرة.
صحيح ان هذا النمط من التنمية ينطوي على تبذير مالي و اخطاء في التخطيط قد تصل احيانأ الى التناقض والعفوية، الا ان المطلوب كان تعويض الشعب العراقي عن قرون الفقر والحرمان بتحسين اوضاعه المعاشية بسرعة ودون انتظار تحقيق تنمية اقتصادية طبيعية. كما ان التنمية الانفجارية تعد، وكما اثبتت التجربة الواقعية، مدرسة كبرى لتعليم العراقيين كيفية استخدام العلم والتكنولوجيا وادخال تطويرات عليها. بتعبير اخر ان التنمية الانفجارية كانت في ان واحد وسيلة ارتقاء بمستوى المعيشة وورشة كبرى لتدريب واعداد كوادر عراقية.
وجنبا الى جنب مع التنمية الانفجارية كان هناك نوع اخر من التنمية يجري، وهو التنمية الاقتصادية المخططة البعيدة المدى، القائمة على استثمار الموارد الوطنية في مجالات انتاجية وليس استهلاكية فقط، من اجل تحقيق نوع من الاعتماد على الذات، وهذا النوع هو الذي اخذ يطغي ويمتص ويقلص النوع الاستثنائي، اي التنمية الانفجارية. وما ان اقترب العراق من عقد الثمانينيات حتى برز بوضوح ان التنمية الاقتصادية قد اصبحت تقوم على برنامج ناضج ومتبلور عبر عن نفسه في البدء بانتاج العديد من السلع الاستهلاكية والانتاجية عراقيا وتقليص الاستيراد تدريجيا، من اجل بناء صناعة وطنية متقدمة. كما ان مكننة الزراعة اخذت تتطور بسرعة، من منطلق ستراتيجي مهم جسده شعار : (الزراعة نفط لا ينضب)، فاذا كان للنفط عمر محدود، مهما طال، فان الزراعة ابدية، لانها قابلة للتجديد وبما ان الاستقلال الاقتصادي لا يتحقق فقط بالسيطرة على الموارد الرئيسية بل ايضا بتامين السلع والاحتياجات الحيوية، كالغذاء، لمنع الابتزاز الخارجي، فان تنمية وتطوير الزراعة قد نظر اليه كقاعدة اساسية للاستقلال الاقتصادي.
ان عراق الثمانينيات تميز بتحقيق قفزات هائلة في التنمية الاقتصادية دفعته ليقترب من دول الدرجتين الاولى والثانية في مجالات معينة، وقد اكدت تقارير الامم المتحدة في نهاية السبعينيات ان خطط التنمية المنفذة في العراق، اذا استمرت، فسوف تنقل العراق الى مصاف الدول المتقدمة في نهاية القرن العشرين. وكانت ابرز مظاهر التقدم التنموي ازالة الامية بين الفئات العمرية دون الخمسين عاما، نتيجة انجاز حملة وطنية شاملة لمحو الامية استمرت حوالي عشر سنوات، ولادراك اهمية هذه الخطوة لابد من التذكير بان نسبة الامية كانت اكثر من 80% من مجموع السكان. اضافة لذلك قضت الثورة على الفقر تماما، والذي كانت نسبته توازي نسبة الامية، ولم تعد هناك عائلة فقيرة، خصوصا بتوفير العمل لجميع الخريجين بصورة الزامية من قبل الدولة. ونجحت الدولة في القضاء على الامراض المزمنة وتوفير طب مجاني للجميع مثلما وفر تعليم مجاني للجميع شمل كافة مراحل الدراسة بما في ذلك الدكتوراه. وامنت الدولة خدمات شبه مجانية في مجالات كالنقل والاتصالات، ودعم السلع الاستهلاكية واسعار الملابس والاجهزة الكهربائية المنزلية، وتوفير ماء وكهرباء باسعار رمزية…الخ، كل ذلك وغيره جعل الحياة في العراق هي الاسهل والافضل والارخص مقارنة بحالة دول الجوار واغلب دول العالم، وكانت الدولة تدفع الفرق والذي كان يصل احيانا الى حوالي 50%، فمثلا كانت اسعار البدلات الايطالية والفرنسية في العراق ارخص من مثيلتها في دول المنشأ.
لقد حصل انقلاب جذري اقتصادي –اجتماعي في العراق حول الشعب العراقي من شعب فقير تقتله الامراض المزمنة والجهل الى شعب مرفه ومتعلم ومتحرر من الامراض المزمنة ولا يخشى الغد نظرا لتمتعه بالطب والتعليم المجانيين وخدمات شبه مجانية.
التنمية البشرية
ان من اعظم انجازات ثورة 17 تموز، ان لم يكن اعظمها اطلاقا، مأثرة اعادة بناء الانسان العراقي، والتي تجلت اعظم ما تجلت في بناء (جيش العلماء والمهندسين). عقب العدوان الامريكي –البريطاني الذي اطلق عليه اسم (عملية ثعلب الصحراء)، والذي نفذته ادارة الرئيس الامريكي بيل كلنتون ضد العراق، بحجة تدمير اسلحة الدمار الشامل، وذلك في عام 1998، سئل ديفيد كي، ضابط المخابرات الامريكية ورئيس فريق التفتيش النووي التابع للامم المتحدة، هل تعتقد ان العراق يملك قنبلة نووية او اي سلاح دمار شامل؟ فاجاب : العراق لايملك قنبلة ذرية لكنه يملك سلاح دمار شامل اخطر من القنبلة الذرية وهو(جيش العلماء والمهندسين). لم يكن ديفيد كي مخطئا ابدا، بل كان يتذكر بوضوح، ويشير بوضوح اكبر، الى احد اهم (المحرمات) التي فرضها الغرب الاستعماري على العرب منذ بداية القرن العشرين، وهو تحريم حصول العرب على (جوهر) العلم والتكنولوجيا الحديثتين، وهو كيفية استخدامهما لانتاج السلع الانتاجية وليس الاستهلاكية فقط، فمن المفروض ان تقتصر استفادة العرب من هذين المجالين على الاستهلاك الطفيلي لهما وترك الفتات لهم، مثل الصناعات التي اصبحت متخلفة،لان السماح لهم بالمشاركة في الابداع والتطوير العلمي والتكنولوجي سيؤدي الى نسف المشروع الصهيوني، من جهة، وانحسار النهب الغربي للعرب، من جهة ثانية، واستثمار العرب لثرواتهم لخدمة اهدافهم القومية، والذي يعني تحديدا، بروزهم كقوة عظمى اقليميا وفيما بعد كقوة عظمى دوليا، وفي هذا كارثة محققة للاستعمار والصهيونية، من جهة ثالثة.
لذلك كان مسموحا للعرب تبذير ملياراتهم في مجال استهلاكي صرف كانشاء مدن احدث من نيويورك ولندن وباريس واستيراد اخر موديلات الاجهزة والسيارات، بل وجعلهم يستوردون حتى زيهم الوطني من الصين وبريطانيا وغيرهما، كالدشداشة (الجلابية) والغترة والعقال! اما محاولة التفاعل الايجابي مع التكنولوجيا والعلم وبناء المدن الحديثة بانفسهم وبكوادرهم وانتاج السلع بعقول عربية والوصول الى مستوى العالم المتقدم فانه محرم عليهم
ان اكبر (جرائم) ثورة 17 تموز، من وجهة نظر غربية– صهيونية، كانت دوس هذه المحرمات بالاقدام وتجاوزها، حينما ارسلت عشرات الالاف من خريجي الجامعات العراقية، من الفروع العلمية، الى اوربا وامريكا والاتحاد السوفيتي وغير ذلك، للحصول على تخصصات عالية في علوم الذرة والفيزياء والكيمياء والرياضيات والطب والحواسيب وغيرها، وبعد سنوات عادوا وهم يحملون شهادات الماجستير والدكتوراه في تلك المجالات الحيوية، والتي تعد مفاتيح العصر الحديث، وقد كان ذلك ممكنا بفضل تسخير الوفرة المالية التي تحققت نتيجة لتاميم النفط لانجاز هذا الهدف الحيوي.وتلك الالاف من العلماء والمهندسين شكلت ما اسماه ديفيد كي، وبحق (جيش العلماء والمهندسين)، والذي عده، وبحق ا يضا، اخطر من السلاح الذري، لان اكثر من 40 الف عالم وخبير ومهندس وفني صنعوا عوامل الحياة المتجددة حينما توزعوا على مختلف المنشأت الانتاجية والمختبرات العلمية وشرعوا ببناء عراق جديد مبدع ومنتج ومطور للعلم والتكنولوجيا، وليس مستهلكا لهما فقط.
لقد بدات في النصف الثاني من السبعينيات عمليات بناء نوايات المصانع الانتاجية، كمعمل القوالب الصناعية، وهو اصل واساس الصناعة الثقيلة. وحينماوقعت الحرب العراقية– الايرانية اضطر العراق لخوض تجربة التصنيع العسكري نتيجة تعرضه لمقاطعة عسكرية دولية شملت حتى الاتحاد السوفيتي، فكان عليه ان يوجد بدائل من صنع عراقي، كالعتاد وقطع الغيار وصيانة الطائرات والدبابات، ثم انتقل الى تصنيع الاسلحة الثقيلة كالدبابات والمدفعية والرشاشات الثقيلة…الخ. وحينما انتهت الحرب خرج العراق بخبرات عملية اضيفت الى التخصص العلمي (لجيش العلماء والمهندسين)، فاصبح يمتلك القدرة على ولوج مجالات كانت حكرا على الغرب الاستعماري والاتحاد السوفيتي، فنجح في تصنيع ادوات دقيقة وبالغة التعقيد كالصمامات وما سمي ب(القداحات النووية)، وكان العدوان الثلاثيني وفرض الحصار الشامل محفزا ضخما لتحقيق نوع من الاعتماد على الذات، ولم يعرف العالم نتائج هذه السياسة الا بعد ان اكتشفت فرق التفتيش انجازات العراق العلمية والتكنولوجية، والتي صدمت الغرب والصهيونية وادهشت الاطراف الدولية الاخرى، ولعل من بين اهم ما كشف النقاب عنه هو نجاح علماء العراق في اختراع طريقة ثالثة لتخصيب اليورانيوم لتضاف الى طريقتين فقط كانتا موجودتان في العالم.
وبعكس ما كان يروجه الاعلام الغربي، من ان صواريخ العراق كانت صواريخ سكود السوفيتية، اكتشفت فرق التفتيش ان الصواريخ العراقية كانت انتاجا عراقيا وان الاستفادة من خبرة الاخرين تشابه استفادة امريكا والاتحاد السوفيتي من المانيا النازية وعلمائها في مجال تكنولوجيا الصواريخ، وهكذا فان صواريخ (العباس) و (الحسين) و(ابابيل) وغيرها، والتي تراوحت مدياتها بين 500-1500 كم، كانت ابداع عراقي انتجه (جيش العلماء والمهندسين).
وكانت تجربة اعادة اعمار ما خربه الاشرار اثناء العدوان الثلاثيني مذهلة ومثيرة لقلق الغرب والصهيونية، اذ نجح العراق في اعادة اوضاعه الى حالتها شبه الطبيعية بعد اسابيع من وقف اطلاق النار، والى الحالة الطبيعية بعد اقل من عام، رغم ان البنية التحتية قد دمرت بالكامل! وكان الاشد صدما للغرب هو ان تكلفة الاعمار، بالاعتماد على كوادر عراقية، لم يكلف اكثر من مليار دولار امريكي، وبضعة مليارات من الدنانير العراقية، في حين ان (دراسات الجدوى)، التي اجرتها شركات غربية (اوربية وامريكية) واخرى يابانية قبل شن العدوان، قدرت تكلفة اعادة اعمار العراق بافضل تكنولوجية عالمية بحوالي 60 مليار دولار، وبزمن لا يقل عن خمس سنوات!
وكان من بين اعظم الانجازات العلمية والتكنولوجية العراقية الاخرى، عثور لجان التفتيش على اطنان من الدراسات العلمية والتصاميم والمخططات التكنولوجية الاصيلة او المطورة، والخاصة بالصناعات المدنية والعسكرية التقليدية وغير التقليدية، والتي لا تستطيع وضعها الا دول متقدمة جدا
هذه الوقائع هي التي دفعت ديفيد كي الى الصراخ مذعورا (ان جيش العلماء والمهندسين في العراق اخطر من القنابل الذرية)، لانه قادر على اعادة بناء ما يدمر، وتصنيع وبناء ما يستطيعه الياباني والامريكي والاوربي، وبتكلفة اقل بكثير وبزمن اقصر بكثير ايضا. ويكفي ثورة 17 تموز فخرا انها حققت لاول مرة في التاريخ العربي الحديث ما لم يحققه اي نظام عربي، وهو بناء هذا الجيش المبدع والخلاق من العلماء، والذي نقل العراق الى مصاف الدول الحية المتقدمة، وحتى لو لم تنجز اي هدف اخر مهم فان هذا الانجاز التاريخي العظيم وحده قد ادخل الثورة في نادي الثورات العظيمة التي غيرت مجرى التاريخ الانساني بصورة ايجابية، ورسمت له دربا مضيئا.
لكن هذا الانجاز العلمي – التكنولوجي كان الوليد الشرعي لثورة قدمت انجازات اخرى عظيمة مثل مجانية التعليم والزاميته، فبعكس الوضع الذي سبق قيامها قامت الثورة بجعل التعليم بكافة مراحله، بما في ذلك الدكتوراه، مجانيا، والزمت كل مواطن بانهاء التعليم الثانوي على الاقل، فنشأ مناخ تقدمي وعصري في العراق كانت ثمرته العظيمة هي نشوء مجتمع حديث ومتقدم يشجع على تفتح طاقات الانسان الابداعية في كافة المجالات، وبذلك نجحت الثورة في تحقيق تنمية بشرية رفيعة المستوى. واذا اضيف الطب المجاني، خصوصا الطب الوقائي، والخدمات شبه المجانية، كالكهرباء والماء الصحي والنقل والاتصالات، والسلع المدعومة من قبل الدولة كالطعام والملابس والاجهزة الكهربائية المنزلية والاثاث، والتي كان سعرها لا يتعدى نصف تكلفها الحقيقية، اذا اضفنا ذلك يمكن بسهولة الاستنتاج بان الثورة قد اقامت مجتمع الرفاهية المتوازنة وهو مجتمع يطلق قدرات الانسان وينميها. وهذه التجربة اصبحت عامل جذب وريادة بالنسبة للعرب وللعالم الثالث، وقد تجلى ذلك في وجود اكثر من خمسة ملايين عامل ومقيم عربي في العراق ، عاشوا مع اشقائهم العراقيين وقاسموهم الخير بلا اي تمييز ضدهم، بل كان العربي في العراق يتمتع بامتيازات اكثر من العراقي، لانه كان يحصل على كل امتيازات العراقي لكنه معفي من الخدمة العسكرية الا اذا اراد الجنسية العراقية، وهو امر كان سهلا لان العربي في العراق لم يكن يعد اجنبيا بل شقيقا، ولذلك اصبحت هذه التجربة عامل تشجيع قوي على العمل من اجل الوحدة العربية، المحرمة من قبل الغرب والصهيونية، وهنا يكمن عامل اخر حرضهما على تدمير هذا الانموذج الجذاب لكل التطلعات الوحدوية العربية.
التنمية السياسية
رغم حدة وتجذر العداءات السياسية في العراق، نتيجة قيام الحزب الشيوعي وعبدالكريم قاسم بسرقة ثورة 14 تموز 1958 وحرفها عن مسارها الاصلي وشن حرب دموية على القوميين العرب، وبالاخص حزب البعث الذي كان وما زال الحزب القومي الاكبر، وبذلك سجل التاريخ ان قاسم والشيوعيين هم الذين بدأوا لغة الدم في العراق لان البعث لم يكن انذاك في السلطة، رغم ذلك فان ثورة 17 تموز اعلنت انها ثورة بيضاء وانها تريد تحقيق مصالحة وطنية توقف نزيف الدم العراقي، وان الاطار الامثل لذلك هو حل اهم مشكلتين كان العراق يواجههما وهما الاحتراب الحزبي باقامة جبهة وطنية، والمشكلة الكردية، باقرار الكم الذاتي للاكراد. وقد بذل البعث جهودا مضنية واظهر صبرا عظيما من اجل ان تقوم الجبهة الوطنية وان تحل المشكلة الكردية في العراق، وكانت قوى اجنبية اقليمية ودولية، في مقدمتها ايران واسرائيل والولايات المتحدة وبريطانيا لا تريد اي حل ناجح لهاتين المشكلتين، لان الاحتراب العراقي– العراقي كان شرطا مسبقا لتجميد قدرات العراق وتسهيل السيطرة عليه.
لكن جدية البعث وحرصه على اعادة بناء العراق بقدرات العراقيين جميعا جعلته لا ييأس فتكللت جهوده بالنجاح في اقامة (الجبهة الوطنية التقدمية)، والتي ضمت البعث والشيوعي والديمقراطي الكردي، كما نجح في اقامة حكم ذاتي للاكراد، وكان ذلك هو المطلب الاعلى المعلن للحركة الكردية، طبقا لاتفاقية 11 اذار، وهكذا ارتفعت الامال بتحقيق الاستقرار والتنمية المنشودتين. لكن النوايا المضمرة لدى الشيوعيين والزعامة الكردية حالت دون تحقيق العمل الجماعي الائتلافي، فالحزب الشيوعي خرق اتفاقية وقعها عند اقامة الجبهة التزم فيها بعدم اقامة تنظيم شيوعي في الجيش، فقدم من قاموا بذلك للمحاكم واعدموا، فانسحب الحزب الشيوعي من الجبهة، اما الزعامة الكردية فانها، ورغم منح الحكم الذاتي واقرار ان القومية الكردية هي القومية الثانية (2ملايين كردي في السبعينيات) في الدستور، وذلك مكسب لم يحصل عليه الاكراد في تركيا (يوجد 18 مليون كردي) وايران (يوجد 8 ملايين كردي)، والذين حرموا حتى من استخدام اللغة الكردية، فانها استانفت التمرد المسلح مستندة لحجج واهية ثبت الان انها كانت غطاء لمواصلة التمرد المسلح من اجل الانفصال عن العراق.
ولهذا اضطر البعث لمواصلة مسيرة بناء العراق بالاعتماد على الوطنيين من الاكراد والعرب، وبتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية المباشرة، واعتقد ان بدء عمليات البناء ستقنع الاخرين بالتخلي عن النزعات الانقسامية، واقام حكما ذاتيا بمؤسساته الرئيسية مثل المجلس التنفيذي (وزارة محلية) والمجلس التشريعي (البرلمان المحلي)، واقام جامعة تدرس باللغة الكردية في منطقة الحكم الذاتي، واعتمدت اللغة الكردية كلغة ثانية في العراق واولى في المنطقة الكردية، ونشأت مؤسسات ثقافية وتعليمية واعلامية تستخدم اللغة الكردية، مثل الاذاعة والتلفزيون والمدارس بمختلف مراحلها ودار نشر، ووضعت ميزانية تنمية خاصة للمنطقة الكردية فاقت مبالغها النسبة السكانية للاكراد…الخ، كل ذلك وغيره من الانجازات لم تقنع قيادات التمرد بالتعاون من اجل عراق واحد مزدهر يعيش فيه الجميع في ظل المساواة والرفاهية والعدالة. ان اكراد العراق فقط حصلوا على هذه الحقوق، والتي كانت مطالب الحد الاعلى للحركة الكردية المسلحة منذ ابتدأت تمردها، وهذا يعني من الناحية الرسمية والفعلية ان القضية الكردية في العراق قد حلت، لكن المشكلة الكردية ما زالت باقية لان زعامات كردية كانت تخفي هدف الانفصال عن العراق، ولذلك افشلت تجربة الحكم الذاتي لكي تواصل العمل السري من اجل الانفصال حينما ياتي الوقت المناسب، وكان غزو العراق هو الوقت الممتاز للقيام بذلك.
التنمية القومية
بالتزامن مع كل انماط التنمية التي ذكرناها، شرعت ثورة 17 تموز بتنفيذ خطوات من برنامجها القومي خارج العراق، واول شعار قومي نفذته كان (نفط العرب للعرب)، فلقد قام العراق بتقديم منح مالية، وليس مساعدات، للعديد من الاقطار العربية الفقيرة، لان الثورة العراقية كانت تؤمن بان للعرب حق معلوم في ثروة العراق، وشمل ذلك اليمن والاردن وموريتانيا والسودان وغيرها من دول ما كان يسمى (دول المواجهة). كما ان جيش العلماء والمهندسين العراقي خرج للعمل وتقديم الخدمات للعرب المحتاجين لخدماته، فبنى المعامل والمدارس ومصافي النفط والمستشفيات والطرق والجسور ومحطات الاذاعة والتلفزيون والزراعة…الخ. وبالارتباط مع ذلك اعطى العراق الالاف من ابناء الدول العربية المنح الدراسية للدراسة في جامعاته ومدارسه، واستقبل الالاف في منشأته الطبية للعلاج مجانا، او باسعار تافهة، وارسل قواته المسلحة للقتال دفاعا عن المصالح العربية في فلسطين وغيرها، اضافة لتقديم الدعم العسكري الفني لمنع انفصال اجزاء من الوطن العربي
وحاول العراق تنفيذ مشاريع صناعية مشتركة مع اقطار عربية اخرى، مثل انشاء معامل لانتاج السيارات تتوزع في اقطار عربية مختلفة يتخصص كل منها بانتاج جزء من السيارة، لتحقيق التكامل الاقتصادي العربي والتمهيد لبناء الوحدة العربية باقامة مصالح مادية مشتركة بين الاقطار العربية. وهذه المحاولة كانت اطارا ديمقراطيا ومصلحيا لبناء الوحدة العربية تدريجيا لضمان عدم تنفير من يخشون على مصالحهم اذا قامت الوحدة، وكانت تجربة الوحدة الاوربية ماثلة في الذهن عند محاولة تنفيذ هذا المشروع العملاق.
وبخط مواز شرع العراق بمحاولة تفعيل الجامعة العربية وتحقيق خطوات وحدوية جزئية، فولد (مجلس التعاون العربي) ن الذي ضم مصر والعراق والاردن واليمن، وفي المغرب العربي قام (الاتحاد المغاربي)، فاصبح للعرب ثلاثة كتل وحدوية هي ما ذكر و(مجلس التعاون الخليجي )، وقد بعثت هذه الخطوات الامال بتحقيق الوحدة العربية تدريجيا وبالاعتماد مبدأ المحافظة على مصالح الاقطار العربية وعدم الحاق الضرر باحد. ولكن، وكما حصل لمحاولات العراق الداخلية، فان القوى الاجنبية تدخلت ولم تكتفي بتحطيم امل الوحدة العربية الشاملة بل اشعلت اخطر الازمات، والتي ادت الى تعزز القطرية وصعود نجمها!
واخيرا وليس اخرا برز العراق كمدافع ثابت وشجاع عن القضايا العربية، ففي فلسطين ثبت العراق على الموقف القومي المبدأي والاصيل، القائم على رفض المساومة على فلسطين، وقد تحمل الكثير بسبب ذلك، وكان غزوه عبارة عن خطة صهيونية نفذتها ادارة بوش الابن. اما في الجبهات الاخرى فكان للعراق شرف ليس فقط دعم السودان واليمن ضد المحاولات الانفصالية في جنوبيهما بل ايضا دافع جيش العراق عن وحدتهما عسكريا، فاضيفت لامجاد مشاركته العسكرية الرئيسية في القتال المباشر ضد العدو الصهيوني على اراضي مصر وسوريا والاردن، في تاكيد واضح ومتكرر على صدق التزام ثورة 17 تموز بواجباتها القومية.
التنمية العالمية
ولعبت ثورة 17 تموز دورا فعالا في السياسة الدولية، فلقد اختطت لنفسها طريقا مستقلا رغم صلاتها الستراتيجة بالاتحاد السوفيتي، وتمثل ذلك في تعزيز ودعم حركة عدم الانحياز، وقيام العراق بتقديم المساعدات المالية (المنح) والقروض الميسرة والقروض بلا فوائد والاسعار الخاصة (المخفضة جدا) للنفط لدول العالم الثالث كالهند ودول افريقية. وكان لذلك اثر عظيم في تعزيز علاقات العراق والعرب بالعالم الثالث وتقليص الوجود الاسرائيلي فيه. ونفذ العراق مخططا ستراتيجيا، حقق نجاحا ملموسا، وقام على تشجيع اوربا على البروز كقوة مستقلة عن امريكا وتلعب دورا فعالا على الساحة الدولية، وتضم جهودها لجهود الاتحاد السوفيتي والصين لاجل تعديل موازين القوى الدولية لصالح العالم الثالث، بشكل عام والعرب بشكل خاص. وكانت علاقات العراق بفرنسا انموذجا لعلاقات عربية—اوربية قوية ومتطورة، واستخدم العراق لتحقيق هذا الهدف النفط والتعامل التجاري والدعم السياسي كادوات فعالة، فمنحت فرنسا امتيازات نفطية (دون التاثير على استقلالية الصناعة النفطية). وكان لهذه الستراتيجية اثر فعال في تعزيز الميل الفرنسي الاستقلالي، وهو اتجاه شجع اوربيين اخرين على الابتعاد عن امريكا ودعم السوق الاوربية المشتركة ودفعها نحو الاتحاد.
الدلالات الجوهرية
ماهي المعاني والنتائج التي انطوت عليها عمليات التنمية المتعددة الجوانب التي نفذتها ثورة 17 تموز؟ ان اهم ما بلورته عمليات التنمية تلك هو افلات العراق من القيود والمحرمات التي فرضها الغرب والصهيونية على الامة العربية ونجاحه في التغلب على مصاعبها الاساسية، فلقد نجح العراق، اولا، بتحرير الثروة النفطية من قبضة الاستعمار الغربي، رغم انها كانت (مصلحته الاساسية) في الوطن العربي، ونجح، ثانيا، في تسخير ثروة النفط العراقي لصنع مجتمع عربي جديد ومختلف كليا عن عراق الامس ومجتمعات عرب اليوم تميز بالقضاء على الفقر والامية والامراض المزمنة وقيام رفاهية معقولة، ونجح، ثالثا، في صنع جيش من العلماء والمهندسين والخبراء كان قادرا على صنع مصادر الحياة الحرة الكريمة وانهاء الاعتماد الطفيلي على الغرب، فضربت مصالح تجارية غربية في الصميم، كما ان هذا الجيش المدني هدد بتقويض المشروع الاستيطاني الصهيوني، لانه قام اصلا على افتراض (ان العرب هم كم لا يفكر ولا يبدع بل يقتات طفيليا على عبقرية العقل الاسرائيلي)، ومن ثم فان التقدم في (الشرق الاوسط) هو صناعة اسرائيلية وليس عربية وهذه الصناعة الاحتكارية مجالها الحيوي هو نفس المجال الحيوي للعراق، بصفته يحمل مشروع نهضة قومية، لذلك فان بروز عراق صناعي متقدم ومنتج يجعل الصراع حول نفس المنطقة (بين الفرات والنيل) صراع وجود مع العراق، فاما ان يزول العراق القوي او تزول اسرائيل الكبرى وذلك يقود الى اضمحلال (اسرائيل الصغرى)، ونجح، رابعا، في تمتين اواصر العرب ووضع اسس وحدتهم الشاملة، وهي اسس عملية لا تضر بمصلحة اي نظام او جماعة فازال اكبر تحد كان يواجه الوحدة العربية، ونجح، خامسا، في تعميق الثغرة بين اوربا وامريكا وقوى اخرى.
من المتضرر الاساسي من هذه الانجازات؟ من الواضح ان ما قامت به ثورة 17 تموز كان عبارة عن تفكيك منظم وفعال للمصالح غير المشروعة للغرب الاستعماري والحركة الصهيونية العالمية، وتجاوز (فظ) على كل المحرمات التي وضعتها الصهيونية والغرب الاستعماري، لان مشروع النهضة العربية الحضاري لن يقوم الا اذا تجسدت منافعه المادية والمعنوية في انموذج عملي، وهذا الانموذج يحتاج لموارد، وهذه الموارد كانت تحت سيطرة الغرب فحرر العراق جزء خطيرا منها، لذلك لا مجال ابدا لتعايش المصالح الاستعمارية والصهيونية مع المصلحة العربية العليا، وكانت الحرب هي الخيارالوحيد الذي تبقى للغرب والصهيونية بعد فشل سياسات الاحتواء السلمي للعراق (المتمرد)، ان من يريد ان يفهم لم قامت الحرب العراقية الايرانية ولم قامت الكويت بشن حرب اقتصادية على العراق، ولم فرض الحصار على العراق، واخيرا لم دمر العراق واحتل عليه ان يعيد قراءة هذا المقال ويركز على ما حققه العراق من انجازات عظمى تكفي اي واحدة منها لدفع الغرب الاستعماري والصهيونية لتدميره!