بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
في ظل الظروف العربية الراهنة، لا يمكن الرهان على إمكانية تحقيق سلام عادل في المنطقة يقوم على استعادة الشعب العربي الفلسطيني لكامل حقوقه الوطنية وهي إقامة الدولة الوطنية المستقلة كاملة السيادة على أراضي الضفة والقطاع وعاصمتها القدس، وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم وممتلكاتهم التي طردوا منها عام 1948، وانسحاب إسرائيل من بقية الأراضي العربية المحتلة (الجولان ومزارع شبعا).
والأسباب التي تحول دون تحقيق عملية السلام العادل وفق هذه الشروط هي كالتالي:
رفض إسرائيل الكامل لهذه الشروط مستندة إلى عناصر القوة التي تمتلكها، وحالة الانقسام الفلسطيني القائمة، وضعف الواقع العربي وانقسامه واستسلامه للسياسات الأمريكية، ورهان إسرائيل على دعم الإدارة الأمريكية والدول الغربية لها، وتنامي قوى اليمين والعنصرية داخل المجتمع الإسرائيلي وأجياله الشابة وفق استمرار تربية هذه الأجيال على سياسة العداء والكره للعرب داخل دولة إسرائيل، والعرب عموماً.
عدم وجود إستراتيجية عربية موحدة وقوية لمواجهة قوى الاحتلال الصهيوني.
خضوع سياسة النظام الرسمي العربي ـ بشكل عام ـ لسياسة الإدارة الأمريكية في المنطقة العربية سواء تجاه الاحتلال الصهيوني لفلسطين، أو الاحتلال الأمريكي للعراق. وقد رأينا بوضوح النتائج التي أدت إليها مثل هذه السياسات العربية، حين تواطأت معظم الأنظمة العربية مع العدوان الأمريكي على العراق، وفتحت أراضيها ومياهها وسماواتها لينطلق منها العدوان الأمريكي لتدمير العراق كقوة عربية رئيسية كانت هي القوة العربية الوحيدة التي تخشاها إسرائيل نظراً لما تملكه من قدرات وإمكانيات عسكرية واقتصادية وعلمية، وما تحمله من مشروع نهضوي قومي عربي. كما كانت هي أيضاً السد المنيع الذي يحمي الأمة من امتداد النفوذ الإيراني، ومخاطره التي باتت تهدد الأمة العربية بمزيد من الانقسامات والصراعات المذهبية والطائفية.
كما وضحت صورة الضعف العربي وعجزه أثناء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في شهر يناير الماضي. حين لم يتجاوز الموقف العربي حدود الخطاب السياسي والإعلامي الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.
وإذا كانت السياسة العربية تعتمد ما تسميه مبادرة السلام العربية كاستراتيجيه عربية لعملية السلام، أو لحل قضية الصراع العربي الصهيوني. فإن الإستراتيجية لا تقوم فقط على مجرد إعلان موقف أو رؤية لمعالجة قضية الصراع والاحتلال، بل إن الإستراتيجية يجب أن تستند إلى آلية وخطة عمل لتنفيذها، وإلى حشد القدرات والإمكانيات العربية، واستخدامها في تنفيذ الإستراتيجية.
وبغض النظر عن نقاط الضعف التي تحتويها مبادرة السلام العربية، خاصة فيما يتعلق بحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إذ لم تتحدث عن حق اللاجئين في العودة إلى أراضيهم وممتلكاتهم الأصلية التي هجروا منها عام 1948، وإنما تحدثت عن "حل" عادل ومتفق عليه (أي أنها أبقت هذا الحق في إطار المساومة عليه أو مقايضته بحقوق أخرى)…. إلا أنه قد مضى على هذه المبادرة أكثر من سبع سنوات دون أن يقدم العرب على اتخاذ أي خطوة للعمل على تنفيذ هذه المبادرة.
وإذا كان العرب يراهنون على سياسة الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة الرئيس باراك أوباما التي أبدى من خلالها انفتاحه على العالم الإسلامي، واهتمامه بعملية السلام، وحل الصراع العربي الإسرائيلي على قاعدة حل الدولتين وإيقاف الاستيطان وفق خارطة الطريق، فإن هذه الأفكار قد تكون معبرة عن رؤية شخصية للرئيس أوباما نتيجة انتمائه الأصولي الأفريقي، وتربيته الثقافية. ولن يكون سهلاً عليه تنفيذها أمام مؤسسات أمريكية قامت على رؤية أمريكية مخالفة لهذه الرؤية، واستمرت هي المتحكمة في السياسات الأمريكية الخارجية، ولن يكون سهلاً على أوباما تغيير هذه المفاهيم الأمريكية، وإعادة بناء فكر المجتمع الأمريكي وفق رؤيته الجديدة خلال وقت قصير. وبالتالي على العرب ألا يبنوا آمالا كبيرة على تغيير السياسات الأمريكية تجاه الأمة العربية وتجاه الموقف الأمريكي المنحاز لإسرائيل.
كذلك قد يكون منطلق السياسة الأمريكية الجديدة هو فشل السياسات الأمريكية الخارجية، وتصاعد حالة العداء العربي والإسلامي والعالمي ضد الولايات المتحدة نتيجة مواقفها العدوانية والإجرامية تجاه العرب والمسلمين، وبالتالي تحاول الإدارة الأمريكية الجديدة بخطابها السياسي الجديد تحسين صورتها العالمية وتخفيف حالة العداء المتصاعدة ضدها.
كما أن من بين أسباب هذه الرؤية الأمريكية الجديدة، هو حالة الانهيار الاقتصادي والتراجع التنموي الذي أصاب الاقتصاد الأمريكي، نتيجة السياسة العدوانية الأمريكية التي كلفتها ما يقارب ثلاثة تريليون دولار ـ كما تقول التقارير الاقتصادية عن حربي العراق وأفغانستان ـ. وبالتالي فإن الإدارة الجديدة تحاول عبر هذه السياسة التي أطلقتها أن تستفيد من علاقاتها مع العالمين العربي والإسلامي لتعويض هذه الخسائر وتحسين وضعها الاقتصادي. وهذه فرصة يجب أن يستغلها العرب ـ وهم أصحاب إمكانيات هائلة ـ لتقوية مواقفهم، وتعزيز شروطهم ومطالبهم ضد الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، والاحتلال الأمريكي في العراق.
وإذا كان العرب يعتقدون أن السياسة الأمريكية الجديدة سيكون موقفها إيجابياً من مبادرة السلام العربية، وقد تأخذها بالاعتبار وهي تبحث عن عملية للسلام في المنطقة، فهم سيقعون في خديعة كبرى، ذلك أن إسرائيل بحكومتها اليمنية المتطرفة ستستمر في رفض هذه المبادرة كالحكومات السابقة، وستحاول فرض شروط وتعديلات على هذه المبادرة. وهو ما بدت مؤشراته تظهر في الأفق. ذلك أن المعلومات تقول إن ما يجري بحثه بين الإدارة الأمريكية وبعض الأطراف العربية حول عملية السلام يقوم على إجراء تعديلات على مبادرة السلام العربية لتشجيع إسرائيل على القبول للدخول في مفاوضات حول عملية السلام. وهذه التعديلات تتناول. نقطتين هامتين. أولاهما إلغاء أي إشارة لحق اللاجئين في العودة. وثانيتهما هي عدم ربط عملية تطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية بانسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، بل البدء مقدماً في اتخاذ إجراءات عربية تطبيعية مع إسرائيل لتشجيعها على البدء في عملية التفاوض.
ومن المؤسف أن بعض المعلومات تشير إلى وجود تجاوب عربي رسمي مع هذه التعديلات الأمريكية نتيجة تحكم الإدارة الأمريكية الجديدة والقديمة، وهيمنتها على سياسات النظام الرسمي العربي.
وهناك عامل آخر ستستغله الإدارتان الأمريكية والإسرائيلية، لفرض شروطهما على العرب في حل عملية الصراع العربي الإسرائيلي. وهذا العامل هو التخوف العربي من البرنامج النووي الإيراني، ومن تزايد القوة الإيرانية في المنطقة، وتمدد نفوذها الإقليمي، ونظراً لأن العرب ليس لديهم مشروعهم الخاص، ولا برنامجهم الموحد لمواجهة هذا الموضوع ومعالجته، فإن اعتمادهم مازال قائماً على الحماية الأمريكية، وهذا ما سيقودهم إلى دفع ثمن باهظ من حقوقهم ومصالحهم الوطنية.
وإذا ما استمر الواقع العربي على هذه الحال من الانقسام والضعف والاستسلام، وتغييب البعد القومي عن القضايا العربية والتعاطي معها من منظور قومي، نتيجة اهتمام الأنظمة العربية بقضاياها القطرية فقط، وتعزيز النظرة القطرية لدى الأجيال العربية الشابة….. فإن فرص العرب للحصول على سلام عادل يستعيد الحقوق العربية كاملة من قوى الاحتلال الإسرائيلي والأمريكي هي فرص ضعيفة أو شبه معدومة. خاصة وأن ارتباط العديد من الأنظمة العربية بالسياسة الأمريكية واعتمادها على الحماية الأمريكية لوجودها يجعلها أسيرة لهذه السياسة ومنفذة لها. بل إن بعض هذه الأنظمة الصغيرة تلعب دوراً، وبتكليف أمريكي، في تعزيز الانقسام العربي والفلسطيني لتبقي الوضع العربي تحت الهيمنة الأمريكية.
أمام هذا الإحساس الشعبي العربي بحجم المخاطر التي يمثلها الانقسام العربي على الأمة العربية وقضاياها، تحركت بعض الأطراف العربية وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، وجمهورية مصر العربية لإجراء مصالحة بين الأطراف العربية المختلفة أو المتصارعة، وجرت اتصالات ولقاءات بين قيادات رسمية عربية عده شهدت عناقاً بالأحضان والقبلات، لكن هذه المصالحات لم تتجاوز حتى الآن حدود هذه اللقاءات.
وبصراحة أقول : إن ما تتطلع إليه الجماهير العربية من مصالحة ومواقف عربية تعيد للأمة العربية مكانتها ودورها القومي الفاعل على المستوى العربي والإقليمي والدولي ليس مجرد لقاءات أو مصالحات شخصية. وإنما تتطلع وتطمح إلى إستراتيجية عربية موحدة تقوم على تغيير السياسات العربية الراهنة، وعلى استعادة الرؤية القومية لكل القضايا العربية وخاصة القضية الفلسطينية التي كانت يوماً هي القضية المركزية للأمة العربية، والنظر إلى الاحتلال الصهيوني لفلسطين على أنه خطر يهدد الأمة بأسرها وليس الشعب الفلسطيني وحده. ومواجهة الاحتلال الأمريكي للعراق على أنه خطر يهدد المنطقة العربية، خاصة وأنه فتح الأبواب أمام الانقسامات الطائفية والمذهبية التي باتت تهدد الوطن العربي. كما أن هذا الاحتلال أعطى فرصة كبيرة لإيران لمد نفوذها الإقليمي على حساب الأرض العربية.
كما أن إستراتيجية المصالحة العربية المطلوبة يجب ألا تقوم على قاعدة الاستناد للحماية الأمريكية من الخطر الإسرائيلي والخطر الإيراني. بل يحب أن تقوم على حشد الطاقات والقدرات العربية وإعادة بنائها سياسيا وعسكريا واقتصاديا. فهذا هو الطريق الوحيد لتمكين الأمة العربية من استعادة حقوقها كاملة، والتصدي لكل المخاطر التي تهدد الوطن العربي سواء كانت مخاطر أمريكية أو إسرائيلية أو إيرانية، أو مخاطر انقسامية داخلية.
ـ انتهى ـ