أعادت الحوادث الدامية التي شهدها المسرح الإيراني، خلال الثلاثة أسابيع المنصرمة، إلى الذاكرة صورة الأحداث التي أخذت مكانها في هذا البلد قبل إزاحة شاه إيران عن سدة الحكم بعدة شهور. لقد وجد بعض الكتاب تشابها كبيرا بين اللحظتين: لحظة ما قبل سقوط الشاه، واللحظة التي أعقبت الإعلان عن فوز الرئيس نجاد بدورة رئاسية ثانية. وقال البعض إنها "ثورة في الثورة"، وقالت كاتبة أنها "غضب شعبي عارم"، ووصفها كاتب عربي معروف "بأنها وضعت إيران فوق بركان". كيف نقرأ تلك الأحداث؟، وأين نضعها في خارطة المتغيرات التي حدثت في المشهد، بعد ما يقرب من ثلاثة عقود على قيام الثورة؟ وبالتالي ما هو مستقبلها ومديات تأثيرها على استقرار الأوضاع السياسية في إيران بشكل خاص، والخليج العربي بشكل عام؟ أسئلة سنكرس، حديثنا هذا للإجابة عليها، وربما استدعى ذلك استكمال مناقشتها، في أحاديث أخرى.
قبل الولوج مباشرة في الإجابة على هذه الأسئلة، يقتضي التنويه إلى عراقة الحركة السياسية الإيرانية، وإلى دورها المعروف، والمتجه نحو حماية المصالح الوطنية، والتي كانت حركة الدكتور مصدق في أوائل الخمسينيات، من القرن المنصرم، وما أقدمت عليه من تأميم للصناعة النفطية، أحد أبرز تجلياته. كما يجدر التنبيه إلى أن إيران، شأنها في ذلك شأن العراق، بلد رخو، كان من حسن طالعا، أنها مثلت منطقة جيوسياسية، لا يسمح عمالقة القوة بالعبث بها، كونها تشكل منقطة كبيرة عازلة بين الدب القطبي ومياه الخليج الدافئة. وكان بقاؤها مستقرة ولا تزال، مطلبا دوليا، وأمريكيا بامتياز، كون ذلك يشكل ضمانة رئيسية تحول دون التسلل الروسي إلى الجنوب. ورغم هذه الميزة، التي حظيت بها إيران، خلال حكم الأسرة القاجارية والبهلوية، ثم خلال حكم الملالي، فإن إيران، بتشكلها الجغرافي الحديث، مرشحة دائما لقلاقل دينية وإثنية، كونها تشكل مخزونا بشريا يضم في أحشائه وفي جنباته، تشكيلات إثنية، ودينية ومذهبية تمثل نسبة لا يستهان بها من تعداد سكانه.
إن اللوحة الفسيفسائية الإيرانية، تجعل وضع البلاد رخوا، وتتيح للقوى الخارجية استثمار الحلقات النافرة، لتهديد وحدته. فإلى الجنوب الشرقي من إيران هناك منطقة بلوشستان. ومعظم سكانها من البلوش، وهم يمثلون قوة إثنية وطائفية مختلفة، كونهم من أهل السنة. والعمق الثقافي والديني لهؤلاء يمتد واسعا إلى منطقة الخليج العربي، وتتصل شرقا بباكستان، حيث ترتبط بمجموعات عرقية مماثلة بعلاقات تاريخية قديمة.
وفي الجنوب الغربي من إيران، تقع منطقة الأحواز التي يطلق عليها الإيرانيون بخوزستان. وتضم مدن عربية عريقة، كالأحواز والمحمرة وعبدان والحويزة. وكانت هذه المنطقة تشكل إمارة عربية موحدة، آخر أمرائها هو الشيخ خزغل الكعبي. وقد تم احتلالها من قبل الفرس عام 1925م، أثناء حكم رضا خان، والد شاه إيران الذي أطاحت به الثورة. ورغم محاولة الحكومات الإيرانية المختلفة تفريس هذه المنطقة، من خلال حرمان أهلها من تعلم لغتهم، وتشجيع الاستيطان الفارسي من داخل إيران إلى المحمرة، فقد تمسك أهلها بهويتهم العربية، وظلوا يطالبون بحقوقهم الثقافية والقومية.
في الشمال الغربي، تقطن الأقلية الكردية ويقدر تعداد سكانها بما يزيد عن السبعة ملايين نسمة، ويشكلون امتدادا تاريخيا وثقافيا لنظرائهم في شمال العراق وجنوب شرقي تركيا. ويتعرضون لذات الاضطهاد القومي الذي يتعرض له العرب. وهناك أيضا التركمان، ويشكلون أقلية قومية لا يستهان بها، ولهم علاقات ثقافية وتاريخية بمركز لغتهم، تركيا. وجميع هؤلاء يحملون صبوات في الانعتاق الذاتي والتحرر الثقافي، والتعبير عن كينونتهم.
يضاف إلى هذا الحضور المتعدد الألوان، التعدد الديني، فهناك أقليات من اليهود والمسيحيين والزرادشتيين، والصابئة والبهائيين. وكل يطمح في الاعتراف به، وبحقوقه الدينية، فضلا عما أشرنا له من وجود مسلمين سنة، ضمن جميع الأقليات القومية، آنفة الذكر: بلوشا وعربا وأكرادا وتركمانا.
وكان النفاق الدولي، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وحتى يومنا هذا قد تجاهل تماما حقوق الأقليات القومية والدينية والمذهبية في إيران، بينما ركز عليها في العراق، حيث عمل المستعمرون، دون كلل على بعث الهويات ما قبل التاريخية. وكان الهدف ولا يزال تفتيت هذا الجزء من الوطن العربي، وتقسيمه إلى حصص، على أسس مذهبية وإثنية.
نحن إذا، إزاء لوحة فسيفسائية، معقدة، من شأنها أن تجعل الخارطة المجتمعية لإيران رجراجة ورخوة، كونها تفتقر إلى وحدة اللغة والتاريخ والثقافة، وتم نسجها بقوة الأمر الواقع.
وحين انطلقت دعوة الخميني لتغيير النظام، التحقت جميع هذه القوى: أقليات قومية ودينية ومذهبية بركبه، على أمل أن يكون في التغيير القادم تمكينا لها من نيل شيء من حقوقها المهدورة. وليكون إسنادها للثورة تأكيدا لحضور غير منازع على الساحة الإيرانية.
كانت الثورة الإيرانية، من جهة تعبيرا عن حالة احتقان وغضب شملت طبقة البازار، كما شملت الطبقة المتوسطة، وكان عمادها المعممون والاكليرجيون, تركزت طبقة البازار والطبقة المتوسطة في المدن الرئيسية، وفي المقدمة طهران وأصفهان وشيراز، بينما تركز حضور رجال الدين في مدينة قم ومشهد. وبينما ناصرت الأحزاب السياسية المدنية، وتحالفت مع البازار فإن قوة رجال الدين، قد كمنت، كما هي العادة في الأرياف، وفي الأماكن التي تنعدم فيها سبل العلم والمعرفة، حيث الطابع القدري هو السائد.
لقد توجت اللحظة التاريخية، الإمام الخميني، قائدا لهذه الثورة، ومنحته مشروعيتها. وفي ظل ظروف بالغة التعقيد، حيث يتواجد، آنذاك، إلى الشرق من إيران نظام مدعوم من الشيوعية، في أفغانستان، وحيث برز القرار الأمريكي، بنقل مركز جاذبية الصراع في المنطقة من حوض البحر الأبيض المتوسط إلى منطقة الخليج العربي، وأيضا بسبب خروج الشاه محمد رضا بهلوي على الخطوط الحمراء، وتبنيه لمواقف استقلالية، فيما يتعلق بسياسات بلاده النفطية، وأيضا في بروز إيران كقوة عسكرية ضاربة، يمكن أن تكون مصدر تهديد حقيقي مستقبلي للمصالح الغربية، وكان لا بد من إيجاد ظروف مواتية لنزعها أو تدميرها، وأيضا الرغبة الغربية الأكيدة، لتحقيق صياغة جديدة لخارطة المنطقة، على أساس من تحفيز النزعات الطائفية والإثنية، وتفتيت الأمة العربية إلى كانتوت ومتسوطنات، يكون المركز فيها هو الكيان الصهيوني الغاصب، كل تلك الأسباب تظافرت مجتمعة، لتجعل الموقف الأمريكي براغماتيا، لتصل العلاقة بين الثاثرين بقيادة أية الله الخميني ومكتب الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الأمريكية، بقيادة ديفيد ساج حد التنسيق والتكامل، قبل الانتقال من باريس إلى طهران، وقبل تحديد موعد ليوم الحسم.
وخلالها كان الركنان الأساسيان في التغيير هما رجال البازار ورجال الدين، ليتحقق بعدها تكامل وتنسيق، وقسمة لأهم المراكز السياسية في البلاد، ولتحقق نوع من السلم الاجتماعي الداخلي، ما لبت بعد فترة وجيزة أن تحول إلى أعاصير وبراكين، عصفت بالمنطقة، وزجت بها في أطول حرب في المنطقة بالتاريخ الحديث.
خلال الثلاثين عاما المنصرمة، تغيرت حقائق، وتبدلت موازين، كان لها تأثيرها المباشر على الأحداث التي عصفت بإيران في الثلاثة أسابيع المنصرمة. ما هي تلك الحقائق؟ وما هي علاقتها بالتطورات الدرامية الجارية في إيران الآن؟ هذه الأسئلة وأخرى ذات علاقة ستكون موضوع حديثنا في الأسبوع القادم بإذن الله.