بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
عرفت مرحلة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي بداية لتضامن عربي كانت الأنظمة التقدمية فيه تشكل الخط الضامن لتجميع العرب في منظومة رسمية وشعبية تدور في فلك التقارب والتنسيق كخطوة أولى على مسار الوحدة خطوة خطوة.
في حينها لم ينجز العرب تلك الخطوات من دون عوائق ومؤامرات، وتأتي مؤامرة التحالف الاستعماري – الصهيوني في المقدمة منه. لكنها على الرغم من قصورها كانت متقدمة جداً، وبما لا يقاس، عما أصاب العرب في هذه المرحلة من تفكك وتصارع وذل وهوان.
كما أنه على الرغم من ارتباط بعض الأنظمة الرسمية العربية بعجلة المشروع المعادي، فقد أنجزت الكثير من خطوات التلاقي والتقاطع التي نندبها اليوم، ونضرع إلى الله أن تعود. ولأننا اليوم في أسوأ حال، وعلى سبيل المقارنة بين الأمس واليوم، لا بدَّ من التساؤل:
– إذا كانت رياح التغيير تسير في خط متصاعد، فلماذا تنحدر رياح العرب اليوم بخط هابط؟
– ولماذا تبدو المرحلة في خط تراجع مستمر وصل إلى النقطة ما دون الصفر؟
– وما هي الأسباب التي جعلت العالم كله، بما فيه الإقليم المجاور للوطن العربي، هم الوحيدون الذين يقررون مصائرنا ويضعون الحلول لمشاكلنا؟
– ولماذا نحن ننتظر على قارعة التاريخ نتائج ما سترسمه لنا طاولات المفاوضات التي يجلس إليها كل من هو ليس عربياً.
على الرغم من كل الثغرات التي رافقت تجربة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، إلاَّ أنها زرعت القلق في أوساط التحالف الاستعماري – الصهيوني، فخطط للقضاء عليها وإحباط مفاعيلها واستباق تراكمها، وكانت حرب حزيران من العام 1967 أكثر مظاهر المخطط بروزاً. وراح يستكمل خططه وازداد إصراراً على تنفيذها، سيما وأن الأنظمة ذاتها قد اتخذت لمرة واحدة، في أعقاب حرب تشرين الأول من العام 1973، قرار إقفال أنابيب النفط ومنع تصديره إلى كل دولة تؤيد الكيان الصهيوني.
لم يكن وضع الأنظمة العربية الرسمية، سابقاً ولاحقاً، يسمح بتحقيق إنجازات تثير مخاوف التحالف المذكور، وكل من يدور في فلكه، إلاَّ لوجود مجموعة من الأسباب، لعلَّ أهمها كان التالي:
– كانت الحركة القومية العربية تمر في العقدين السالفيْ الذكر بمرحلة حيوية لافتة للنظر، خاصة وأن قيادتها كانت معقودة اللواء لكل من حزب البعث العربي الاشتراكي والحركة الناصرية. وكانت مدعومة شعبياً من جهة، كما كانت تفرض احترامها، ولو على مضض، على النظام الرسمي العربي من جهة أخرى.
– وكان العالم محكوماً بقطبيتين عالميتين متناقضتين: الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي. وتوازن الرعب بينهما كان يحد من سرعة تنفيذ المشروع الأمبريالي – الصهيوني.
– وكانت بينهما دول منظومة الحياد الإيجابي تبني مواقعها وتفرض وجودها على القرار الدولي.
وبمراجعة نتائج تلك المرحلة على المستويات كلها نجد أن تلك العوامل كانت من العوامل الأساسية التي أجَّلت إلى حين تنفيذ مخطط التحالف الاستعماري – الصهيوني، ولكنها لم تمنعه. واستمر المخطط انتظاراً لحصول ثغرة ما، وقد حصلت تلك الثغرة، وكان أشدها إيلاماً غياب الحيوية عن أقطاب الحركة القومية العربية بغياب الناصرية وحضور الساداتية من جهة، واستفراد التحالف بنظام حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق، والذي كان من الملحِّ إسقاطه من جهة أخرى.
هذه النتيجة أصابت الحركة القومية السياسية بنقص من المناعة، وغاب تأثيرها على الأنظمة الرسمية العربية، كما خفتت فعاليتها على الجماهير الشعبية وفقدت عوامل استقطابها، مما دفع بالأنظمة للاستسلام الكامل فارتمت في أحضان محركيْ التحالف الاستعماري – الصهيوني، ودخلت في مرحلة السبات لتنفذ كل الأوامر والإملاءات التي ينقلها المندوبون والمبعوثون من قصور أباطرة الاستعمار.
كما أدى غياب الحركة القومية العربية بالحركات الدينية السياسية إلى إملاء الفراغ الذي تركه القوميون، وربما بتشجيع واحتضان من قبل التحالف المذكور، الذي إن استطاع أن يحقق أهدافه في اجتثاث الفكر القومي، جملة وتفصيلاً، فإنه لن يخشى من تلك الحركات لأنها تشكل بديلاً تتوافق مشاريعها السياسية التفتيتية على قواعد دينية ومذهبية مع مضامين مشروع الشرق الأوسط الجديد.
كان لا بدَّ من نبش خبايا التاريخ أمام مشهد حركة المصالحات العربية النشطة التي كانت استجابة للمبادرة السعودية في الكويت، تلك المبادرة التي أنعشت حركة عدد من الأنظمة. وهنا لا بدَّ من معرفة أين تصب هذه الحركة في مجرى حركة الصراع التاريخية التي تخوضها الأمة العربية مع الاستعمار والصهيونية، وهنا يقفز إلى الذهن عدد من التساؤلات:
لماذا المصالحة، وأين تصب نتائجها في مصلحة الأمة؟
ولماذا المصالحة الآن؟
وما هي شروط الحد الأدنى لتكون مقبولة؟
قبل كل شيء لا بدَّ من تأكيد أهمية لقاء أفراد الأسرة الواحدة، التي يجمعها رباط المصير الواحد. والمصالحات الجارية، وإن كانت لا تبشِّر بالخير الكثير لأسباب سنتابع الإضاءة عليها في تحليلنا، لا بدَّ من أن نضعها في دائرة المصالحة الضرورة كخطوة لا بدَّ من القيام بها كتمهيد للجمع بديلاً للتفرقة والتمزق واستمرار الفراغ على شتى المستويات القومية.
ربما كانت دوافع المصالحة إحدى أهم إفرازات فشل مشروع أمركة العالم، ومن أهم نتائجه سيكون الفراغ الذي سيتركه بعد الانسحاب من العراق، والذي ستملأه دول الإقليم الجغرافي، وأكثرها تصميماً المشروع الإيراني. فهو المشروع الذي يحسب، واهماً، أنه سيكون البديل للاحتلال الأميركي.
فالخطورة التي تنتظر الوضع العربي تبدو في أفق ما بعد الانسحاب الأميركي من العراق وهي الخروج من مأزق عربي إلى مأزق عربي آخر. وإذا كان بعض العرب قد راهن في مرحلة الإعداد للعدوان على العراق واحتلاله على حماية تبسطها الولايات المتحدة الأميركية على تلك الأنظمة، إلاَّ أن نتائج الاحتلال، بالنسبة إليهم، لم يكن بفشل المشروع الأميركي فحسب وإنما قد فتح بوابة الوطن العربي عبر العراق وجعلها مشرَّعة للأطماع الإيرانية. البوابة التي من أجل إبقائها محمية ساعد بعض العرب العراق في حرب الثماني سنوات على إفشال مشروع تصدير ثورة الخميني. تلك التجربة كانت واعدة بإبقاء الحد الأدنى من التضامن العربي ضمن مدار الحد الأدنى لحماية الأمن القومي العربي لو استمرت. ولكنها لم تستمر لأن بعض الأنظمة العربية وقعت في أفخاخ الخداع الأميركي سواءٌ أكان الخداع في شن العدوان الثلاثيني على العراق في العام 1991، أم في الحصار الذي فُرض عليه طوال ثلاثة عشر عاماً، أم في احتلال العراق في العام 2003.
تجربة الاستجابة للخداع الأميركي كانت أكثر من مُرَّة حتى على الأنظمة المتواطئة على العراق والمشاركة في احتلاله، وهي تشكل اليوم لها أزمة كبرى في مواجهة تداعيات فشل احتلال العراق. تلك التداعيات التي دفعت تلك الأنظمة إلى القيام بقفزات مفاجئة على صعيد تحويل مسارات الخصومات وسلوك مسار المصالحات. وهي المرحلة التي نعيش فصولها الآن ونتابع تسلسل خطواتها وتسارعها.
حسناً فعلت تلك الأنظمة، والوجه الحسن فيها هو أنها حتى ولو أتت متأخرة فهذا خير من أن لا تأتي أبداً. ولكي تكون تلك الخطوة أقل سوءاً مما لو ظل التناحر سائداً، فلا يجوز أن تقع الأنظمة في خداع آخر وحسابات خاطئة.
ولكي تصب هذه الخطوة مرحلياً في مصلحة العرب، فعلى الأنظمة ذات الثقل السياسي أن تضع في حساباتها أن هناك احتمالاً تعد له الإدارة الأميركية يقضي بتسوية الخلافات المرحلية مع دول الإقليم الجغرافي للوطن العربي، بخاصة مع إيران. وإذا ما حصلت تلك التسوية فسيعود العرب للدوران في فلك الاتفاق بينهما الذي لن يكون أقل من تواطؤ جديد سيدفع الوطن العربي بأكمله ثمناً له.
إن خطورة ما تحيكه إدارة أوباما، الرئيس الأميركي الجديد، في فتح حوار مع إيران، كأسلوب حوار لا نرفضه، هو أن استفرادهما بطاولة المفاوضات سيؤدي إلى إبقاء جزء من العراق قابعاً تحت هيمنة النظام في إيران للاستفادة من خدماته كموطئ قدم للمشروع الطائفي السياسي لنظام «ولاية الفقيه». خاصة أن تفتيت الوطن العربي إلى كيانات طائفية يأتي في صلب مشروع الشرق الأوسط الجديد.
وفي حركة المصالحات النشطة حد أدنى من استعادة الاهتمام العربي المباشر بالقضايا العربية الساخنة، وفيه بداية لإضعاف التأثير الخارجي الذي طالما وظَّفها وفصَّلها على مقاييس مصالحه. وإذا كانت قضية لبنان وفلسطين تقع في دائرة السخونة، فإن القضية العراقية هي من أهم مراحلها الآن. وطريقة معالجتها ستنعكس سلباً أو إيجاباً على مجمل وسائل المعالجات الرسمية العربية لكل القضايا الأخرى.
إنه وبقدر ارتياحنا لحركة المصالحات العربية الجارية على قدم وساق، كانت زيارة عمرو موسى، أمين عام جامعة الدول العربية، إلى العراق مزعجة ومخيفة. أما أنها مزعجة فلأنها تدل على اعتراف بالأمر الواقع الذي فرضه الاحتلال. وهذا في حال استمراره لا يبشر بالخير وتدل معاني الزيارة على أن الأنظمة العربية لم تتعلَّم ولم تدرك خطورة ما سيترتب على مثل هذا السلوك. فإذا كانت الولايات المتحدة الأميركية قد اعترفت بهزيمة الاحتلال، وهذا يعني هزيمة إفرازاته، فهل من المنطقي والمقبول أن لا تفهم الأنظمة الرسمية رسالة الإدارة الأميركية على حقيقتها؟
وهنا لا بدَّ من التساؤل: ما الفرق بين أن يكون الاحتلال مباشراً، أو أن يكون بالواسطة؟
وما الفرق بين الاحتلال كعدوان صريح على القانون الدولي والتشريعات الإنسانية، وبين من خان وطنه وتعاون مع الاحتلال على تدمير بلده؟
وإذا قال قائل يمكن العمل على إنجاز مصالحة بين العراقيين، كمثل ما تروِّج له حكومة الاحتلال. وهل يمكن أن تتم المصالحة من دون أن تكون المقاومة طرفاً فيها؟ وهل تتصور الأنظمة التي كلفت عمرو موسى بزيارة العراق أن المقاومة التي هزمت المحتل ستتصالح مع إفرازاته؟
فلتقلع الأنظمة عن رهان خاسر لأنها ستلعب دور الاحتلال ولكن بعباءة عربية. وهي ستقع في دوامة أخرى لن تجديها نفعاً، ولن تنجز حلاً للقضية العراقية، بينما عليها أن تعمل على كسب وقت ثمين لا أن تضيع الفرصة في أوهام أخرى طالما عجزت إدارة جورج بوش عن تحقيقها. فعليها أن تدخل إلى القضية العراقية من بوابتها المسؤولة. ومفاتيح البوابة هي بيد المقاومة الوطنية العراقية، وأقسم مناضلوها أنهم لن يسلموها إلى أحد أياً كان هذا الأحد، حتى ولو كان معتمراً كوفية عربية. وهذا يعني فيما يعنيه أن الأنظمة لا تزال غارقة في بؤرة الخداع: لا ترى ولا تسمع ولا تتكلم.
ولقد أعلنت المقاومة العراقية، منذ التاسع من أيلول من العام 2003، عبر المنهج السياسي الاستراتيجي، أنها ستحرق أصابع الإقليم الجغرافي للعراق، عرباً وغير عرب، وتعمِّق مآزقهم إذا لم ينظروا للعراق من منظار وطني وقومي، على أن يكون عراقاً عربياً موحداً، وأن يكون وطناً لكل أبنائه، وأن يكون عضواً فاعلاً في الوطن العربي غير منقوص السيادة.
فهل تعي الأنظمة التي انخرطت في ورشة المصالحات العربية، التي نؤيدها، أن عليها يقع عبء استعادة القرار العربي، القرار الوحيد الذي لن يُسمح لهم بدخول أعتاب العراق من دون إشهاره بوضوح تام لا لبس فيه ولا غموض؟
في 27/3/2009