كان الرئيس الشهيد صدام حسين رحمه الله الذي ستحل علينا الذكرى الثانية لاغتياله في الحادي والثلاثين من ديسمبر الجاري، كان يقول في سياق خطاباته وكلماته الموجهة للرئيس الأمريكي جورج بوش وأركان إدارته: "إنه سوف يأتي اليوم الذي ينكسر فيه حاجز الخوف عند الناس وسوف تفقدون هيبتكم واحترامكم إذا ما بقيتم تتعاملون مع العالم بالقوة والغطرسة وبهذا الكم المروع من الأحقاد والعنصرية التي تملأ قلوبكم ونفوسكم وتوجه سيادتكم ومواقفكم نحونا نحن العراقيين والعرب".
وإذا ما استرجعنا الفعل التاريخي الذي قام به الصحفي العراقي منتظر الزيدي بقذف وجه الرئيس الأمريكي جورج بوش بالحذاء ووضعنا هذا الفعل في سياقه أو إطاره الصحيح من حيث التوقيت والمكان فسنجد من دون أدنى شك أن الفعل يمثل لحظة تاريخية مشحونة بالكثير من الدلالات والمعاني الرمزية، سقطت معها كل حواجز الخوف وسدود الرهبة والارهاب أمام عزيمة منتظر الذي يمثل هنا شجاعة وبسالة كل العراقيين خير تمثيل ويعبر عن غضب كل العرب
خير تعبير، وتقابلها لحظة سقوط هيبة وكرامة أمريكا متجسدة في انحناء بوش مذعوراً أمام حذاء منتظر وهو يمثل هنا امبراطورية الشر الأمريكية الآفل نجمها.
إن هذا الحدث التاريخي بقدر ما يحمل من دلالات الغضب وكراهية للعدو والرغبة في الثأر منه، فانه يحمل في ذات الوقت قيم الشجاعة والتضحية ونكران الذات من أجل الوطن، لأن "منتظر" كان يدرك مصيرية هذه اللحظة بالنسبة إليه وبالنسبة إلى بلده العراق، كما أنه يدرك المصير الذي ينتظره جراء إقدامه على هذا الفعل وهو وحيد أعزل ومحاط بمجموعة من القتلة والمجرمين وأنه لا سبيل أمامه للنجاة منهم، فهو بالتالي يدرك النتائج المتوقعة ويعرف حجم ما سيلحق به من أذى جسدي ونفسي فما كان يهمه ويخطط له هو تحقير وإهانة بوش، هذا الرئيس الأحمق الذي جاء إلى بغداد متخفياً من أجل الاحتفال بنصره المزعوم، ويشارك عملاءه من خونة العراق والأمة لحظات توديعه والاحتفال بتوقيع اتفاقية الإذعان وتكريس احتلال العراق الذي يتم على جثث العراقيين وعلى دمار وخراب بلدهم وسرقة ثرواته.
من هنا فإن مشهد (القصف بالأحذية) الذي دخل التاريخ من أوسع أبوابه وما رافقه من ردود أفعال وتعليقات وتحليلات مختلفة وما حظي به منتظر من تعاطف ومساندة داخل العراق وعلى مستوى الوطن العربي والعالم – كان هذا بمثابة استفتاء عالمي غير مسبوق على حجم ما يكنه الناس من كراهية للولايات المتحدة الأمريكية ولرئيسها المتعجرف (بوش)، كما يكشف عما يعتمل داخل صدورهم من غضب على سياساته الإجرامية الظالمة في حق العراق والأمة.وهكذا تحول المؤتمر الصحفي الذي كان مخططا له أن ينقل مشهد الاحتفال ولحظات التوديع الدعائية – تحول إلى منصة عرض أزاحت الستار عن نهاية مزرية لحقبة سوداء مخزية لا تحمل ذاكرة المشاهدين عنها سوى مشاهد القتل والدمار والإرهاب الذي زرعه هذا المجرم ووزعه على العديد من بلدان المنطقة والعالم، وبدافع أحقاده المريضة تجاه العراق وشعبه وقيادته الوطنية القومية كان نصيب هذا البلد المظلوم من كوارث ومصائب هذا "السفاح" فوق كل ما يمكن أن يتصوره أو يتحمله البشر، هذا البلد الزاخر بالحضارة والتاريخ والسائر على طريق النهوض والتقدم، تعرض على يد "بوش" و"عصابة المحافظين الصهيونية" لمؤامرة إجرامية حيكت خيوطها باحكام بمشاركة وتواطؤ العديد من الأطراف الدولية والإقليمية والعربية، توجت بغزو واحتلال همجيين راح ضحيتهما الملايين من خيرة أبناء العراق من رجال ونساء وشباب توزعوا بين شهيد وجريح ومشرد، وجرى تدمير كل أسس ومقومات الحياة فيه، وإطلاق العنان لكل شياطين الغلو الطائفي والمذهبي لتعيث في البلد فساداً وخراباً، وتعرضت ثرواته وخيراته لسرقة منظمة وجرى توزيعها حصصاً على اللصوص من العملاء والمأجورين داخل العراق وخارجه، وصار العراق الزاهر العامر خرائب واطلالا لا تسمع فيها سوى انات الثكالى وآهات اليتامى والأرامل.
كان منتظر الزيدي الصحفي والانسان يعيش ويتجرع مع اشقائه وأهله كل صنوف هذه العذابات والجراح، وكان يشهد أحزان وآلام شعبه تتفاقم يوماً بعد آخر، ويرى بلده ينهار أمام جحافل الغزو والعدوان ويسير نحو أفق مظلم لا نهاية له، بعد أن جرى تسليمه إلى عصابات وميليشيات طائفية وعنصرية تتلاعب به وتتسابق على اضعافه وتمزيقه.
كل هذه المآسي والفواجع كان لابد أن يختزنها منتظر في عقله ووجدانه، وكان لابد له أن يستدعيها وهو يقدم على فعله البطولي ليقدم الجواب المناسب عن الملايين من الأسئلة الحائرة والمستنكرة التي تجول في خاطر وعقل العراقيين والعرب وكل أحرار العالم حول الطريقة المناسبة التي يمكن أن يرد بها على حفل وداع بوش "الاستفزازي" وهو على أرض العراق الذي انزل به كل هذين الدمار والخراب، والشيء الأكيد أن منتظر الزيدي وهو يخطط وينفذ فعله التاريخي هذا قد استحضر كل شجاعة وبسالة العراقيين المعهودة والمعروفة عنهم، وتجلى في بطولته حد نكران الذات والذوبان في قضية بلده وشعبه، وتقديم المثل الرائع في الوفاء وحمل الأمانة التي حملها اياه شعبه وقام بتوصيلها على خير ما يجب وكان صوته جهوراً وصادقاً وهو يخاطب "بوش" ببعض العبارات التي تليق به، وكان موقفه حازماً وواثقاً وهو يطلق "قذائفه الحذائية" باتجاه الهدف، وكانت وسيلته وأداته متواضعة وبسيطة ولكنها قادرة "برمزيتها" على بلوغ هدفها وهو "إهانة" الرئيس الأمريكي والنيل من كبريائه وغروره وافساد لحظات نشوته العنصرية وهو يقطف ثمار جرائمه في العراق، محدثاً بذلك الصدمة المروعة والمطلوبة للأمريكان ولعملائهم على حد سواء، وجالباً عليهم فضيحة سياسية واخلاقية لن تستطيع كل الماكنة الإعلامية والأمريكية وكل الأبواب الدعائية اخفاءها أو التقليل من آثارها واضرارها على سمعة وهيبة الولايات المتحدة الأمريكية، فالمشهد البطولي قد حدث وتناقلته وسائل الإعلام بسرعة البرق وشاهدته الملايين من البشر في لحظة تاريخية قلما يجود بمثلها الزمن، وتفاعلت معه الناس في كل أركان المعمورة كأنها هي المعنية بالحدث، وتحول منتظر الزيدي إلى رمز للبطولة والكرامة، أما كل ما يحصل بعد ذلك فانه لن يغير من الحقيقة والواقع شيئا فللتاريخ سطوته ومكره كما يقال.
وليخرج بعد ذلك كل من يريد من "جهابذة الإعلام" و"اساطين" الفلسفة وعلم النفس "ليفلسفوا" هذه الواقعة بما يشاءون من التنظير والتحليل وليقولوا ما يحلو لهم حول "انفعالية" منتظر وهمجية تصرفه وليحاولوا أن يبيعوا الناس أوهاماً حول مزاعم "الديمقراطية" و "الحرية" التي جلبها بوش للعراق وأنها هي التي مكنت "منتظر" من فعل ما فعله، وليتحدثوا عن "تسامح" بوش وعن عدم حمله أي مشاعر سلبية تجاه قذفه بالأحذية طالما أنه لم يصب بأذى جسدي.
ولتخرج أيضاً الحكومة العميلة في العراق على الناس برسائل "أسف واعتذار" منتظر عما فعله والادعاء بأنه طلب التماسا بالرأفة والرحمة بعد أن تكون قد أشبعته تعذيباً وهددته في حياته وحياة أسرته وشرفها، فما تعرض له منتظر من اعتداء وحشي من قبل جلاوزة المحتل والزمرة الحاكمة الفاسدة وفضحته شاشات التلفزة يكفي لتوقع أو تصور ما الذي يمكن أن يحصل وهو في قبضة هؤلاء المجرمين بعيداً عن الأنظار.
وليخرج علينا من يخرج من هذا "الجحر" أو ذاك "القبو" من "جرذان" الصحافة الصفراء ليستنكروا ويشجبوا تصرف منتظر ويتحدثوا عن "طيشه" و"عدم تحضره" وعن تجاوزه أصول وحدود مهنته الصحفية، فكل هذه الأراجيف والهلوسات الصحفية التي اعتاد أصحابها ممارسة فعل الخلط والتزييف ومخالفة روح وقيم الأمة واشاعة كل القيم الفاسدة والمنحطة التي تروج الخضوع والاستسلام للعدو والتواطؤ معه وتفرط في مصالح وحقوق الأوطان والأمة، نقول: كل هذه المحاولات لن تنال أو تغير من الحقيقة شيئا وهي أن "زوج حذاء منتظر" وهما ينطلقان باتجاه وجه بوش قد أجبرا هذا الأخير على الانحناء مذعوراً، أمام هذا الحذاء العراقي، وأن الحدث كما وصفه بعض وسائل الإعلام هو أشبه "بعملية إعدام رمزي" لهيبة وسمعة أمريكا وعملائها، وهو حقاً ذلك، فهو عمل رمزي عالياً في قيمته وبليغاً في تعبيره وتاريخياً في توقيته، ورائعاً في تحقيق غاياته.
ومن المؤكد أن "منتظر" يدرك جيداً أن الحذاء لا يمكن له أن يقتل أو يحدث جروحاً بليغة، فان كل ما قصده هو إهانة الرئيس بوش والنيل من هيبة الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا هدف لا يمكن لأحد أن ينكر حصوله، ثم لا أحد يعلم كيف كان يفكر منتظر في ذلك الظرف، فربما تعمد قصداً ألا تمس "قندرته" وجه بوش حماية لها مما يمكن أن يعلق بها من "دنس" أو يلحق بها "من عار" لو مستا وجهه.
وفي كل الأحوال سيبقى هذا المشهد عالقاً في ذاكرتنا وذاكرة كل الأجيال العربية والأمريكية، وكما انحنى بوش أمام حذاء منتظر، سنبقى نحن نخفض "الهامات" أمام هذا المنتظر وأمام الأم العراقية الماجدة التي انجبت وأرضعت هذا البطل الشهم.