نشطت المنظمات الدولية ومؤسسات تقييم الأداء الاقتصادي المختلفة في تصميم وابتداع مؤشرات ومقاييس للتنمية والاقتصاد والإفصاح والشفافية والفساد وغيرها من المؤشرات التي تعتمد المتوسطات الحسابية ومعايير أخرى. ولعل أكثر المؤشرات تضليلا في اعتقادي هو مؤشر معدل نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، فهو مؤشّر مضلّل للإنجاز التنموّي بامتياز، إذ لا يكشف عن نمط توزيع الدخل، كما لا يعكس حقيقة تأثيره على نوعية الحياة للبشر، إضافة إلى حقيقة نتغافل عنها كثيرا وهي أن الناتج المحلي الإجمالي في دول الخليج بشكل خاص والذي يشكل النفط الجزء الأكبر منه، هو مؤشر مضلل لأن أرقامه لا تعكس إنتاجا حقيقيا أو إضافة نوعية للبنية الاقتصادية لكونه استنزافا للنفط الثروة الناضبة غير المتجددة.
ومناسبة هذا الحديث ما أعلنت عنه الصحف في الأيام الماضية أن البحرين جاءت في المرتبة الرابعة عربيا في متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، نقلا عن تقرير صادر عن مجلس الوحدة الاقتصادية العربية، وقد عالجت الصحف الموضوع بمانشيتات أن ''البحرين الرابعة عربيا في دخل الفرد'' إن استخدام المؤشر بهذا الشكل إما أن يكون بسبب الجهل أو بهدف التضليل، فاستخدام مؤشر حصة الفرد من الدخل الوطني (أو الناتج المحلي الإجمالي للفرد) للتعبير عن وسطي مستوى المعيشة في المجتمع، هو مؤشر مضلل غير ذي معنى لقياس مستوى المعيشة في المجتمع، كما أنه لا يصلح لقياس التطور الاقتصادي-الاجتماعي نظراً لكونه يخفي التشوه الحاصل في توزيع الدخل بين طبقات المجتمع لتبدو جميع شرائح المجتمع متساوية من حيث الدخل والثروة.
إذا أردنا أن نرصد مستوى المعيشة فلا بد أن نتبع مؤشرا مركبا وذلك بأن نربط ذلك بمؤشر الأسعار، مع التأكيد على ضرورة إنجاز دراسات موضوعية وعلمية حول الحد الأدنى لمستوى المعيشة الذي ينبغي تأمينه لجميع شرائح المجتمع، ويقصد بالحد الأدنى لمستوى المعيشة، سلة السلع والخدمات الضرورية لحياة عادية، وتشمل هذه السلة وفقا للتحديد العلمي المتبع السلع الغذائية الضرورية لتأمين السعرات الحرارية الكافية لبقاء الفرد واستمراره، إضافةً إلى مجموعة من السلع الأخرى غير الغذائية والخدمات اللازمة للحياة العادية (سكن، مواصلات، لباس، تعليم، صحة، كهرباء، مياه) وبالتالي تحديد خط الفقر، وإذا اعتمدنا على الدراسات غير الرسمية التي تشير إلى أن خط الفقر للأسرة البحرينية العام 1995 كان في حدود 309 دنانير، واحتسبنا ما طرأ على أسعار السلع الأساسية من ارتفاعات جنونية فقد نجد أن رغم ما يقال عن الزيادات في الأجور إلا أن الأسر البحرينية بأغلبها الأعم تعاني الأمرين في توفير مستلزمات المعيشة اليومية لأبنائها.
للدلالة على ذلك ومن خلال النظر في بعض الأرقام والإحصاءات، تشير تقارير التأمينات الاجتماعية أن 66% من البحرينيين المؤمن عليهم لديها تقل رواتبهم عن 250 دينارا وان 83% من إجمالي العاملين المؤمن عليهم تقل رواتبهم عن 250 دينارا، كما تشير دراسة أخرى إلى أن متوسط أجور البحرينيين قد تقلص من 420 دينارا العام 1990 إلى 325 دينارا العام .2000 وللأمانة فقد حقق ذلك المعدل بعض الارتفاع في السنوات الأخيرة إلا أنه لا زال الأجور تعاني من تدن واضح، رغم الجهود المبذولة على أكثر من صعيد لتغيير هذه المعادلة، وفي هذا الإطار نلحظ أن فلسفة إنشاء صندوق العمل تقوم على أساس أن المشكلة التي ينبغي مواجهتها هي إشكالية تدني مستوى المعيشة واتساع طبقة ذوي الدخل المحدود والناتجة أساساً من ضعف الأجور، كما أن صندوق العمل يقوم بدوره على أساس أن ''مؤشر جودة الحياة ومستوى المعيشة للفرد في البحرين متدنًّ نسبياً مقارنة بالاقتصاديات الأخرى الإقليمية والعالمية وعليه فإن رفع مستوى معيشة الفرد البحريني هو الهدف الاستراتيجي لصندوق العمل''
إن كل تلك الأرقام تعني أن الطبقة الوسطى في المجتمع البحريني تتآكل لحساب زيادة الفئات محدودة الدخل، وبالتالي فإن الإعلان عن أن البحرين الرابعة عربيا في متوسط دخل الفرد لا تعني للمواطن شيئا، حيث لم تنعكس على حياته ولم ترتق به إلى الرفاه المنشود، فما معنى أن يسمع المواطن أن دخل الفرد في البحرين الرابع عربيا بينما هو يعيش حياة بسيطة وتطحنه الأسعار ومتطلبات الحياة، كما إن التّنمية الاقتصادية لا تعني نموّا في الناتج القومي الإجمالي، بل تتضمن جوانب وتغييرات تقنية ومؤسّسية ملموسة في جانبي الإنتاج والتوزيع، وعملاً لائقاً كريماً يستهدف زيادة الرفاهية المادية للأفراد.
© جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia.