أن يوقع نوري المالكي وبرلمانه المسخ على اتفاقية العار وان يعتبروها نصرا وبداية لانهاء الاحتلال، فهذا ليس بالامر المستغرب. فلقد سبق لهؤلاء ان سموا الاحتلال تحريرا واعتبروا دخول القوات المحتلة بغداد عيدا وطنيا، في حين اكدت الاتفاقية وكل بنودها، من ألفها الى يائها، على انها سرقة وطن بأكمله وجعله ولاية امريكية جديدة، بحيث لم تنفع كل المحاولات التي قام بها بوش للتستر عليها، سواء عبر افتعال الخلافات حولها او الادعاء باجراء تعديلات عليها. لو كان لدى بوش مزيدا من الوقت لاستمر في محاولاته البائسة تلك فترة اطول، اذ لم يبق على رحيله حينها سوى اكثر من شهرين. وهذا ما يفسر اصدار امره السلطاني الى المالكي للتوقيع عليها وتهديده برفع الحماية عنه وعن جوقته ان لم يفعل ذلك على وجه السرعة. وقد اكد هذه الحقيقة رئيس اللجنة القضائية في ما يسمى بالبرلمان العراقي، النائب بهاء الاعرجي يوم الاثنين المصادف 24 من الشهر الماضي من قناة الجزيرة. ولمنع اي التباس لا يصح التخيل بان هؤلاء وقعوا على الاتفاقية تحت طائلة التهديد، وانما كانوا يبحثون عن مزيد من الوقت عساهم ان يجدوا مخرجا لرد تهمة الخيانة الوطنية عنهم.
وفق هذه الحقيقة الدامغة، فالملاحاظات الواردة في هذه المقالة لا تخص الاتفاقية ذاتها ولا تخص ايضا حكومة الاحتلال وبرلمانها المفبرك عموما، وانما تخص على وجه التحديد مجموعة الموقعين على اتفاقية العار، التي صدعت رؤوسنا بادعاءاتها الوطنية والحرص على العراق ووحدته وعروبته وتمكنت من خداع اوساط عراقية واستمالت اليها بعض القوى الوطنية الهشة لحسابات تخدم اجندتها ومصالحها الفئوية الضيقة، الامر الذي اطال من عمرها قبل ان تتمكن القوى والاحزاب الوطنية المناهضة للاحتلال من عزلها نهائيا عن الصف الوطني. والمقصود هنا، جبهة التوافق والحزب الاسلامي والجبهة العراقية للحوار الوطني.
لقد كان اكثر ما يثير الاشمئزاز في اساليب الخداع، تلك التي ينطبق عليها المثل القائل، عذر اقبح من ذنب، حيث ادعوا بان مشاركتهم في مستنقع العملية السياسية كان بهدف احداث توازن في معادلة المحاصصة الطائفية في الحكومة والبرلمان لزعمهم انهم يمثلون الطائفة السنية التي ظلمت في حصتها، وهذا يعني اعتراف علني بقبول قانون المحاصصة الطائفية البغيض، الذي سنه السفير الامريكي الاول في العراق بول بريمر، بهدف نزع الهوية الوطنية للعراق، بوصفها هوية تزخر بالتعددية والتنوع والتعايش بين مكونات الشعب العراقي القومية والدينية والمذهبية، لتحل محلها الانعزالية الطائفية التي تغذي نزعات الاختلاف والاحتراب التي تنسف احترام السيادة الوطنية وتقدم عليها الانتماء المذهبي الطائفي لتؤدي في نهاية المطاف الى تقسيم البلاد والعباد. كما ينطبق المثل القائل، اذا لم تستح افعل ما شئت، على عذرهم الاخر، حيث ادعوا بان فعلتهم المشينة تدخل في خانة المقاومة السلمية ووصفوا انفسهم بانهم هم المقاومة وما عداهم إرهابيين وقتلة وتكفيريين.
لا يوجد من الان فصاعدا سببا واحدا يمنعنا من اطلاق وصف الخيانة الوطنية على قوم لوط، فهم باعوا الوطن والعرض والكرامة لينعموا بهبات المحتل وصدقاته، شانهم شان جوقة الاحتلال التي قدمت خلف الدبابات الامريكية بعد احتلالها للعراق. بمعنى ادق فانه لم يعد هناك فرقا على الاطلاق بين جبهة التوافق وحزب الحكيم او الحزب الاسلامي وحزب الدعوة والجبهة العراقية للحوار الوطني وحزب الفضيلة وطارق الهاشمي وعادل عبد المهدي وجلال الطالباني ومسعود البرزاني كلهم في سلة واحدة. لقد ارتكب هؤلاء هذه الجريمة عن تعمد وسابق اصرار كونهم في الاصل جزء لا يتجزا من مشروع الاحتلال، وليس كما ادعى البعض بان دخول هؤلاء النصابون في مستنقع الاحتلال الاسن، جاء نتيجة اجتهادات سياسية خاطئة او وجهة نظر قاصرة يمكن تجاوزها.
ترى هل يحق بعد هذا لاي كان التعامل او الاتصال مع هؤلاء او المراهنة على عودتهم للصف الوطني؟، ام ان المطلوب من جميع القوى والاحزاب المناهضة للاحتلال، تحريم الاتصال بهذه المجموعات واعتبارها خارج الصف الوطني، بل واعتبارها في دائرة الاستهداف من قبل المقاومة والقوى الوطنية، شانهم شان احزاب السلطة ومليشياتها المسلحة؟. اما اصرار البعض على دعوة هذه المجاميع بالعودة للصف الوطني كونهم، كما يقولون، لم يساهموا في مشاريع الاحتلال والتحقوا بالعملية السياسية بدوافع وهمية،. فان ذلك يعد تسترا على الخيانة بصرف النظر عن غاياتهم ومراميهم.
حين نؤكد على هذه الحقائق والمطالب في نفس الوقت، فانما نسعى من وراء ذلك الى تثبيت نهج واضح وسياسة حاسمة ضد اي محاولة من هذا النوع او حتى اقل شانا منها، فالصراع مع المحتل ليس نزهة او يحتمل المجاملات او التغاضي وفق مقولة عفى الله عما سلف. خاصة واننا سنواجه في المسقبل القريب نصابون ومنافقون جدد، فالمحتل يدرك تماما بان لكل مرحلة مخططاتها وسياساتها واليات عملها ورجالها ايضا. وبالتالي فانه من السذاجة السياسية ان لا نتوقع خلق بديل لهؤلاء بما يتلائم مع مرحلة ما بعد التوقيع على الاتفاقية، ومعلوم ان للمحتل سجل حافل في هذا الميدان على الاقل فيما يخص العراق، فهو استغنى في السابق عن خدمات احمد الجلبي ليحل محله اياد علاوي ثم ابراهيم الجعفري وربما يأتي دور نوري المالكي بعد انتهاء مهمته بالتوقيع على الاتفاقية المشؤومة. ان المحتل سينتقي القادمين الجدد من قوى وشخصيات يمكن لها استكمال دور تلك القوى الساقطة وبقدرات اكبر وخطورة اشد.حيث سيتم اختيارهم من القوى والشخصيات التي لم تشارك في المؤسسات التي صنعها الاحتلال والتي تلوذ بالقوى المناهضة للاحتلال وتتحدث بلغتها وتلعن الاحتلال ليل نهار، الامر الذي سيمنحها القدرة على التضليل والخداع اكثر من اسلافهم.
ولكن هذا ليس كل شيء، فقوم لوط الجدد سيكونوا اوفر حظا من اسلافهم. فاذا كان العمل مع بوش لا يقبله الناس لما ارتكبه من جرائم بحق العراق واهله، فان عمل هؤلاء مع بديله باراك اوباما سيكون مقبولا الى درجة ما. فموجة التفاؤل قد عمت عموم الخلق ليس لسواد بشرة اوباما وخلفيته الاسلامية وكونه افريقيا فحسب، وانما ما طرحه من شعارات التغيير التي عنون بها حملته الانتخابية وخاصة تصريحاته حول نيته بسحب القوات الامريكية من العراق في مدة اقصاها 16 شهرا، وبصرف النظر عن صدق نواياه او عدمها، فان قوم لوط الجدد سيجدون في ذلك فرصة للتحرك بهذا الاتجاه وسيعملون بجد على دغدغة عواطف الناس لكسب مزيد من الاتباع لما لكلمة الانسحاب من تأثير سحري على كل الشعوب التي تسعى الى تحرير بلدانها من نير الاحتلال. ولا نستبعد من دخول اوباما هذه اللعبة، سواء قرر الانسحاب ام تراجع عنه كما اشارت بعض تصريحاته في الاونة الاخيرة. فليس غريبا ان نلاحظ من الان ظهور بوادر لمثل هذه التحرك من قبل هذا البديل المتوقع، وربما سنأتي على معالجة هذه المسالة في مقال لاحق او اذا اقتضت الضرورة ذلك. ولكي لا نطيل في وصف قوم لوط بالجدد سوى القول بانهم سيكونوا نسخة منقحة ومحسنة من تلك التي سقطت سقوطا مريعا في امتحان التوقيع على اتفاقية بوش – المالكي الأمنية.
نحن نواجه اليوم عدوا شرسا لازال مستعدا للقتال بكل الوسائل من اجل الحفاظ على المكتسبات التي حققها واكثرها شأنا تلك الاتفاقية المشؤومة، وليس كما يعتقد البعض بانه على ابواب الرحيل او يستعد للهروب في جنح الظلام، ولا نجازف اذا قلنا بان المحتل واعوانه يعدون العدة ليتخذ الصراع شكلا اكثر عنفا ودموية، وسنشهد على المدى القريب قيام المحتل بهجمات واسعة ضد معاقل المقاومة العراقية لانها الوحيدة التي تتصدى له بشكل مؤثر وفعال. ومن يدعي مناهضة الاحتلال وحرصه على استعادة استقلال العراق وسيادته الوطنية ووحدته وعروبته، عليه الانضواء تحت خيمة المقاومة واعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب العراقي، خاصة وان الصراع بعد توقيع الاتفاقية اصبح الان اكثر وضوحا وتحديدا، بين معسكر المحتل وأتباعه ومعسكر شعب العراق ومقاومته الباسلة وقواه الوطنية المناهضة للاحتلال، الامر الذي لا يسمح بوجود جهات او معسكرات بينهما، وانما يضع كل القوى الوطنية دون استثناء امام خيارين لا ثالث لهما، فاما الالتحاق بمعسكر المقاومة او الالتحاق بمعكسر المحتل.
ان معركة من هذا الوزن بين مقاومة عملاقة ومحتل يعد اكبر قوة عسكرية في العالم، لا تحتمل التهاون او المجاملة على حساب الوطن وعملية تحرير العراق، وان السماح لتسويق مثل هذه المشاريع يعد خطا جسيما وينبغي ان يواجه ليس بالنقد او لفت الانتباه او تقديم النصائح، وانما ينبغي التصدي لها بكل قوة وحزم وان نكشف امام الملا نوايا هؤلاء ونعري اهدافهم ونكشف اتصالاتهم مع الجهات التي لها اجندات خاصة وتريد تسويقها على حساب دماء العراقيين ودماء شهداء المقاومة العراقية، هذه الدعوة ليست ترفا فكريا، وانما هي من مقومات ادارة الصراع مع العدو المحتل واعوانه واتباعه ومريديه، ناهيك عن تحضير انفسنا لما يعده المحتل من مخططات ومؤامرات قد تكون اكثر شدة وعمقا مما جرى لحد الان.
ان بلدا مثل العراق وشعبا عظيما مثل شعبه، من المفترض ان تكون المقاومة العراقية التي خرجت من بين ثناياه جديرة بتحمل هذه المسؤولية العظيمة، خاصة وان البديل الجديد وقادته لهم القدرة على التزلف والانكار وسوق التبريرات والحجج التي تنطوي احيانا على قدر من الاقناع لبعض الاوساط العراقية.
اليوم هو يوم الامتحان الاخير، فاما ان يكرم المرء او يهان، والتاريخ لا يرحم المتخاذلين والمترددين خاصة حينما تتعرض الاوطان للخطر.ولقد اثبتت الوقائع ومسيرة الصراع الدائر بين المقاومة العراقية وقوات الاحتلال، بان العراق لا يتحرر الا بالمقاومة لان احتلاله تم بالقوة، واي شخص يتصور بامكانية تحرير العراق بطرق سلمية، عليه ان يتذكر ما قاله الشاعر المصري احمد شوقي، وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا.
موقع التجديد العربي