أمام صيحات العالم وضغوط بعض مراكز القرار الدولية والخوف من حدوث كارثة إنسانية قد تؤثر في صورتها الإعلامية قرّرت السلطات الصهيونية في فلسطين المحتلّة فتح معبر يتيم واحد من معابر غزّة المحاصرة. هذا بينما يظل المعبر اليتيم الآخر بين غزّة وأرض العرب محكم الإغلاق ومحكم الحراسة المشدّدة في وجه الجائعين والمرضى والتلاميذ والمختنقين في سجن العرب الكبير. السلطات الصهيونية استجابت للأسباب السياسية الخاصة بها وألبست تلك الاستجابة ثوب الأخلاق والعفّة. أمّا السلطات العربية المتحكّمة في الفضاء الممتدّ من جنوب السجن الكبير إلى حدود البحار والمحيطات فان أسبابها السياسية تحتّم عليها أن تفتح عيناّ على مسرح رام الله وأن تغمض عيناً عن مسرح غزّة. والنتيجة هي هذا السكون المذهل تجاه عذابات الأبرياء والمنهكين في غزّة وذلك من أجل أن يبقى رأس القائد الفلسطيني الغريق طافياً فوق مياه بحر الدبلوماسية الدولي. لكن دعنا من موجبات وألاعيب السياسة ولنتكلم بصراحة تامة عن موجبات القيم والأخلاق. فإذا كانت السياسة هي فن الممكن فانّ الأخلاق هي فن الواجب. وإذا كانت السياسة لا تستطيع إسعاف ذلك المتحكم في اتخاذ القرار بشأن الوضع المأساوي المتقيّح لأطفال ونساء وشيوخ ومرضى ذلك السّجن العار فهلا التفت القساة العابثون، إلى موجبات الأخلاق لتسعفهم؟ من هنا دعنا لا نوجه الكلام إلى أبواق صوت سيّدها التي تهدّد بكسر سيقان من سيحاولون القفز من الجحيم الذي يعيشون فيه إلى حيث يأملون في الحصول على كسرة خبز أو حبة دواء، ولنتوجه إلى السيد نفسه. دعنا نذكّره ببعض حقائق الحياة الإنسانية، لا حقائق السياسة. أولاً – هل تنفي المصلحة الذاتية لنظام الحكم، التي لا ينكر أحد أهميتها، الاهتمام بمصلحة الآخرين؟ ذلك أن أحد الأسئلة الفلسفية الأساسية التي طرحت عبر قرون هو سؤال: إلى أيّ مدى أنا حارس لأخي في الإنسانية؟ والجواب هو: أحرس الآخرين بمقدار ما أحرس نفسي. فعندما تنقلب المصلحة الذاتية إلى عدم مبالاة أو إلى تحجّر القلب أو إغماض العين عما يجري من حولنا فإننا نساهم في تدمير ماكنة المثل التي يجب أن تحكم حياة البشر. وهذا ما تفعله الآن تجاه اخوان لك في غزّة سواء أقصدت ذلك أم لم تقصده. ثانيا: بعد وصف رائع مؤثّر من قبل الكاتب القصصي الأمريكي جون ستاينبك قي قصّة «عنا قيد الغضب« لضحايا الجوع ينتهي إلى القول «بأن الشركات الكبيرة لم تعلم بأن الخط الفاصل بين الجوع وبين الغضب هو خط ضعيف للغاية« ونحن نشعر بضرورة تذكيرك بذاك. فالتهديدات والتعزيزات الأمنية وغيرها لن تجدي نفعاً أمام الغضب الذي يفجرّه الجوع. ثالثاً: إن كاسيو، بطل رواية أوثلّو «لشكسبير صرخ مرة: آه، لقد فقدت سمعتي لقد خسرت الجزء الخالد من نفسي، ولم يبق فيّ إلا الحيوانية«. وقديماً قيل إن السمعة يكسبها الإنسان من خلال إنجازه للكثير من الأعمال ولكنه يخسرها من خلال فشله في إنجاز عمل واحد. واليوم فإن الفشل في التعامل الصحيح مع عار العرب والآخرين في غزّة سيدمّر سمعة بلادك في القيادة الحكيمة وفي مواقفها التاريخية تجاه كل قضايا المستغيثين من أبناء أمتها. أما أنت فسنترك لك الخيار بين أن تكون «كاسيو« أو تكون عمر بن الخطاب الذي لا يذوق النوم والآخرون جياع. رابعاً – نصدقكم النّصح بألا توصلوا بلدكم ونظامكم إلى المرحلة التي فيها ينطبق عليكم قول الإمام علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه، وهو يخاطب المتخاذلين: «ما عزّت دعوة من دعاكم، ولا استراح قلب من قاساكم (دعاكم لنصرته). أصبحت والله لا أصدّق قولكم، ولا أطمع في نصركم، ولا أوعد العدوّ بكم.. أقولاً بغير عمل، وغفلة من غير ورع، وطمعاً في غير حق؟ قضية غزة ياسيدي ليست كابوساً سيختفي بالصّحو من النوم، إنه قضية أخلاقية بامتياز، والتعامل معها يجب أن يكون بامتياز