ما كان يمكن للمرشح الجمهوري السابق جون ماكين أن يتجنب الخسارة الفادحة أمام منافسه الديمقراطي، الرئيس الحالي، باراك أوباما في انتخابات الرئاسة حتى لو استعار برنامجه الاقتصادي وبلاغته الخطابية اللذين إليهما يعزو كثيرون أسباب فوز أوباما. فمرشح الجمهوريين كان مثقلاً وحزبه بمواريث جورج بوش وفتوحاته التاريخية في إيصال أمريكا إلى الهاوية. وقد صدق من قال إن منافس جون ماكين وغريمه الفعلي في المنافسة الانتخابية لم يكن أوباما وإنما جورج بوش، فقد ظل طيف الرئيس الفاشل يطارده في الحل والترحال، طيلة حملته الانتخابية، ويحكم على طموحه السياسي بالمستحيل، وظل يضغط بكلكله كاللعنة على مصير الجمهوريين، ومع أن ماكين ما أخفى انزعاجه من ربط اسمه بعهد بوش وسياساته، وجرب مراراً أن ينأى بنفسه عن هذا العهد وأن ينتقده، إلا أن ذلك ما أفاده كثيراً في اقناع الناخبين باختلافه، وهو قطعاً ما كان ليفيد أي مرشح آخر من "الحزب الجمهوري" حتى لو كان جيمس بيكر أو كولن باول "قبل تأييده لأوباما" فلقد دفع الحزب برمته ثمن حقبة بوش العجفاء.
ولقد يصح أن يعزى انتصار باراك أوباما التاريخي المقرون بانتصار تاريخي رديف لمرشحي الحزب الديمقراطي، لمجلسي الكونجرس إلى النجاح الكبير في تخطيط المعركة الانتخابية وإدارتها وإلى حسن أداء أوباما فيها، وإلى قدرة البرنامج الاقتصادي على مخاطبة مصالح الطبقات والفئات الأوسع من المجتمع الأمريكي، وإلى اندفاعة الشباب الجامحة والأقليات إلى الاقتراع لمصلحته، وإلى الارتفاع غير المسبوق لنسبة المشاركة الذي صب في مصلحته.. الخ، وليس لأحد أن يشك في أن اجتماع هذه الأسباب جميعها وغيرها أنتج ذلك الانتصار التاريخي، لكن المناخ السياسي والنفسي كان قد تهيأ سلفاً كي تفعل تلك الأسباب فعلها، بل كي تتكون تلك الأسباب وتغدو إمكاناً.
ما أحد دفع تلك الجحافل من المواطنين الأمريكيين إلى الخروج من حال عزوفهم ولا مبالاتهم السياسيين والمرابطة منذ باكر الصباح في الطوابير أمام مراكز الاقتراع، وما أحد حفز ملايين الشباب على تدشين حقبة رشدهم بالمشاركة في صنع مصيرهم السياسي من طريق التصويت لأوباما، ودفع مليوناً منهم للتجند الطوعي في حملته الانتخابية، سوى الرغبة العميقة في الانتقام من حقبة سياسية هي الأسوأ في تاريخ بلدهم منذ قيامه لقد كان التصويت لأوباما من دون جدال، لكنه أتى محمولاً على إرادة التصويت ضد جورج بوش وعهده وسياساته ورجال إدارته، وكان على حزبه وجمهور حزبه أن يتلقى العقاب أيضاً. وهذه حقيقة أدركها الحزب الجمهوري منذ عامين، منذ نتائج الانتخابات النصفية للكونجرس التي عاقبه فيها الناخب الأمريكي على سياسات بوش، حتى ان المرء يستطيع أن يقول إنه لولا الحق الدستوري لهذا الحزب في تقديم مرشح للرئاسة، لكان يسع أي إنسان أن يتساءل عما إذا كان في خوض مرشح الحزب للمنافسة الانتخابية بعد عصر جورج بوش جرأة زائدة تصل إلى حد المغامرة إلى حد ممارسة مازوشية سياسية.
في أية انتخابات رئاسية تجري في الديمقراطيات الغربية تكون المنافسة الانتخابية طقساً سياسياً عادياً، وتكون نتائج الاقتراع شأناً في حكم التفاصيل التي تجري بها أحكام العادة حتى وإن أسفرت- كما يقع في أوروبا- عن هزيمة اليمين وصعود اليسار أو العكس، لكن هذه الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة مختلفة المعنى والنكهة. إنها في مقام ثورة بالنتائج التي انتهت إليها، ليس لأنها أوصلت رئيساً من أصل إفريقي إلى أعلى منصب سياسي في العالم: على أهمية ذلك واستثنائيته في تاريخ أمريكا والغرب، وليس لأنها أسفرت عن هزيمة الجمهوريين وفوز الديمقراطيين: فهؤلاء تبادلوا الفوز والهزيمة منذ أجيال وعقود، وإنما لأنها ثورة تصحيحية داخل النظام الأمريكي وليس ضده، لم تسقط هذه الثورة ذلك النظام، ولكنها أسقطت ما كاد يسقطه. حررت نظاماً سياسياً وبلداً ومجتمعاً من لحظة تاريخية فتكت بكل عناصر القوة فيه، وكادت تأخذ إلى المجهول، إن الفضيلة الوحيدة لحقبة جورج بوش والمحافظين الجدد أنها أيقظت الوعي القومي الأمريكي ونبهته إلى الأخطار التي تحدق بمصير أمريكا حين تحكمها نخبة عقائدية متطرفة، لا عقلانية ولا واقعية ولا عقيدة لديها سوى القوة العمياء، وحين يقول باراك أوباما في خطاب النصر ان عظمة أمريكا ليست في قوتها وإنما في قيمها، يسدد ضربة لتلك العقيدة التي أنهكت أمريكا في الخارج وأضعفتها في الداخل وأفسدت صورتها في الكرة الأرضية.
ثار الأمريكيون، بزعامة أوباما، ضد الثورة المضادة في بلدهم، فصححوا مساراً انحرف وأعادوا بعث أمل في مستقبل أفضل. وشاطرتهم البشرية جمعاء فرحهم بالانتصار على تلك الحقبة السوداء التي كانوا- كسائر البشر على هذه الأرض- في غنى عنها وعن كوارثها، لكنهم سيصطدمون، وأولهم الرئيس أوباما وإدارته والأكثرية الديمقراطية في مجلسي الكونجرس، بذلك الميراث السياسي والاقتصادي بالغ السوء الذي خلفه جورج بوش والمحافظون الجدد: الورطة العسكرية القاتلة في العراق وأفغانستان، الأزمة المالية العاصفة التي تهز المصارف والاقتصاد وتوازن النظام الرأسمالي العالمي، حالة العداء العالمية للنظام الأمريكي المتسعة نطاقاً من آسيا الوسطى حتى أمريكا اللاتينية، العملاق الصيني المستفيد حتى آخر قطرة من انغماس الإدارة الأمريكية السابقة في الحروب، التمرد الروسي والكوري الشمالي والفنزويلي والإيراني على إرادة واشنطن، الكساد الاقتصادي والمديونية الفيدرالية المرتفعين.. الخ فأي سلطة مفلسة، إذن، سيستلم؟ وهل كان ذلك سبباً في إشارته- في خطاب النصر- إلى أن مشاكل أمريكا لن تحل في ولاية واحدة؟ تمهيد مشروع.