الذي قلبه على هذه الأمة لا يستطيع التعاطف مع اية جهة منغمسة الآن في مسرحية الابتذال الطائفي السني – الشيعي المجنون التي يجري تمثيلها على المسرح العربي – الايراني منذ بضعة اسابيع. وليس اضر من الانخراط في هذا العبث وتأجيج نار هذا الفرن او ذاك. من هنا فاننا سنهدف الى محاولة ابراز بعض جوانب هذه الظاهرة التي تفجرت ثم تلوثت بقصد او بغير قصد.
اولا: ان طرح موضوع باسم حقل معين، وذلك من قبل شخص لا ينتمي في الاساس لذلك الحقل وانما لحقل آخر، لا يمكن الا ان يؤدي الى اختلاط وتشابك الحقلين: حقل الموضوع وحقل طارح الموضوع. فموضوع استعمال المذهب الشيعي، نشرا او تجييشا، لاغراض سياسية يجعله موضوعا ينتمي للحقل السياسي بامتياز. ولو طرحه ناشط سياسي ضمن اعتراض مبدئي على اي استعمال للمذاهب والاديان والايديولوجيات للاغراض السياسية لبقي الموضوع في اطاره السياسي. ذلك ان مثل هذه الاعتراضات مطروحة يوميا في وطننا العربي وفي عالمنا الاسلامي، بل وفي العالم كله، دون ان تثير البراكين والزوابع.
فهناك مثلا من يعترض على استعمال هذا المذهب السني او تلك المدرسة الفقهية السنية من قبل بعض الدول لترسيخ نفوذها السياسي والاقتصادي. وهناك من يثير استعمال الدين اليهودي من قبل الصهيونية العالمية للضغط والابتزاز. وهناك اثارة موسمية لموضوع استعمال الدين البوذي لأغراض سياسية في الصراع من اجل سلخ اقليم التبت عن الصين. وفي الماضي القريب استعمل الاتحاد السوفييتي الايديولوجية الشيوعية، واستعملت بعض الانظمة العربية الايديولوجية القومية، وذلك لاغراض واستراتيجيات سياسية بحتة.
فلماذا اذن ادى الاعتراض على استعمال مذهب ديني في الصراعات الاقليمية، في هذه المرة، الى اثارة هذه الضجة؟ والجواب في اعتقادي يكمن في عدم انتباه مختلف الفقهاء، منذ البداية وحتى يومنا هذا، الى استحالة فصل حقل اي موضوع مثار عن حقل، ومن ثم شخصية، من يثيره. فاذا كان الكثيرون يصرون على ان الموضوع ينتمي الى الصراعات في الحقل السياسي، وليس الى حقل الاختلافات الفقهية المذهبية، فان طرحه من قبل فقيه، ثم تلقفه من قبل فقهاء، جعل السياسي يختلط بالفقهي المذهبي بالرغم من الجميع، مما قلب الموضوع برمته الى موضوع طائفي عبثي.
هل يعني هذا اننا ننادي بعدم اشتغال الفقهاء في السياسة؟ ليس الامر كذلك ابدا. فالفقهاء مواطنون ولهم كل حقوق المواطنة وعلى رأسها الاهتمام بالشأن العام. الذي نطالبهم به هو ان يكون خطابهم غير مبهم ومختلط. فلو ان الذين اثاروا هذا الموضوع الحساس المعقد بينوا منذ البداية انهم لا يعارضون على الاطلاق حرية كل المذاهب الاسلامية في نشر تعاليم فقهها، وبالتالي فانهم لا يطرحون الموضوع كفقهاء وانما يطرحونه كمواطنين معنيين بالشأن السياسي وفقط معترضين على استعمال المذاهب لاغراض سياسية بحتة، لنوقش الطرح كموضوع سياسي. دخول دنيا السياسة من باب السياسة وتحت عمامة السياسة لن يثير مشكلة، لكن دخولها من باب الفقه وتحت قبعة الفقه سيؤدي الى الخلط والتشابك، وهذا ما حصل.
ثانيا: حتى النقاش الفقهي البحت بين المذاهب لا يجوز ان يسمح له بأن يصل الى مراحل الاعتصاب والتخندق والغمز واللمز خصوصا في هذه المرحلة البالغة التعقيد والخطورة في حياة العرب والمسلمين. وسواء رضينا ام ابينا فإن ما جرى سيصب في صالح الهجمة الامريكية – الصهيونية والاستبداد الداخلي. توقيت المناقشات الفقهية ومدى اتساعها ومن سيقوم بقيادتها وتحت اية مظلة ستتم لا تقل اهمية عن موضوع المناقشات نفسه.
ثالثا: الكاتب 'سويفت' كتب مرة: 'لدينا ما يكفي من الدين ليجعلنا نمارس الكراهية، ولكن ليس لدينا ما يكفي لان نمارس حب بعضنا'. فهل وصل المسلمون الى المرحلة التي لديهم ما يكفي من الفقه لممارسة الكراهية وليس لديهم من الدين ما يكفي لحب بعضهم البعض؟ هذا سؤال نطرحه على فقهائنا الاجلاء وعلى مجانين طوائف هذه الأمة.