الحقيقة التي لا تخفى على عاقل أو يَشك فيها أي إنسان يعرف نيات وأهداف النظام الأمريكي في المنطقة العربية، يدرك جيداً أن هذه الاتهامات هي ترجمة حقيقية للنيات الأمريكية المبيتة ضد السودان، أرضاً وشعباً ورئيساً، وبالرغم من أن هيئة الأمم المتحدة ودوائرها السياسية قد عبرت مراراً وتكراراً عن رضاها بتعاون الحكومة السودانية والرئيس السوداني بتوفير الأمن في دارفور وتعاونهما الدائم مع اللجان الدولية والإقليمية (الإفريقية) في حل أزمة دارفور بالحوار (مع صعوبة فرض السيطرة الحكومية على الميليشيات المتحاربة)، ورغم كل المعطيات الإيجابية التي قدمتها الخرطوم في هذا الاتجاه، فإن ذلك لم يتوافق مع المخططات الأمريكية تجاه السودان وشعبها ورئيسها. وإذا كانت الولايات المتحدة التي قادت هذا الهجوم السياسي المستهدف نحو السودان كما قادت العدوان السياسي والاقتصادي والعسكري ضد العراق تبتغي (كما تدعي) تحقيق العدالة وتطبيق مبادئ حقوق
الإنسان، فلماذا رفضت توقيع اتفاقية روما بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية؟ ولماذا تُجيز استخدامها ضد الدول بينما تبعد مواطنيها الأمريكيين الغارقين في دماء أبرياء فلسطين والعراق ولبنان والصومال وكلُ أرض عربية وغير عربية تعرضت هي وشعبها وسيادتها للأذى الأمريكي وعدوانها المستمر؟ ولماذا يتم إعفاء قادة وجنرالات العدوين: الصهيوني والأمريكي من المثول أمام هذه المحكمة؟ وهل يجوز قانونيا وإجرائيا وسياسيا أن تستخدم واشنطن هذه المحكمة كأداة عقابية للدول وللرؤساء؟ وهل يجوز قانونيا وإجرائيا وسياسيا إعفاء الولايات المتحدة وبريطانيا والعدو الصهيوني وجنرالاتهم وقادتهم ورؤسائهم الذين آذوا شعوب الأرض ومارسوا أبشع أنواع القتل بحقهم؟ وإذا كان من لقوا حتفهم في هذا الإقليم لا يتعدى (المئات)، أليست الولايات المتحدة والدول الغربية والعدو الصهيوني هم من مَد هذه الميليشيات بالأسلحة والمعدات العسكرية ودربهم على استخدامها؟ وهل هذا العدد هو أقلُ أو أكثر من عدد القتلى في فلسطين منذُ ستين عاماً؟ أو قتلى العراق منذُ أكثر من خمس سنوات؟ أو قتلى شعب الأحواز منذُ عام 1925م؟ أو قتلى الشعب اللبناني؟ أم الذين لاحقوا حتفهم في إقليم دارفور هُم بشر، بينما أهل العراق وفلسطين والأحواز ولبنان غيرَ ذلك؟ لقد أعلن (أوكامبوا) المدعي العام في هذه القضية في المحكمة الجنائية الدولية وبمناسبة الذكرى العاشرة لتوقيع هذه الاتفاقية (17 يوليو) – (انه يمتلك معلومات عن هوية المسئولين عما جرى في إقليم دارفور)، مضيفاً (انه علينا الآن أن نقدم أدلة حول ما ارتكب من جرائم)، وقال في لاهاي – مقر المحكمة الجنائية – (انه يملك أدلة على ارتكاب الرئيس السوداني جرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب في دارفور)، وقال أيضاً (لا يمكن ابتزازي، ولا يمكن أن استسلم، والصمت لم يساعد يوماً الضحايا، بل على العكس، فقد ساعد المنفذين، ولا ينبغي للمدعي أن يصمت)، مضيفاً في قراره الاتهامي ضد الرئيس السوداني (دمّروا ضيعات، ومزارع، ونهبوا مخازن الحبوب أو أضرموا فيها النيران. كما أحرقوا تجمعات سكنية ومنشآت جماعية،
بما فيها المدارس والمساجد والمستشفيات. كما سمّموا مصادر المياه، بما فيها الآبار العمومية، ودمروا أنابيب المياه، وسرقوا المؤن)، و(السكان الذين فروا، كثيرا ما تمّ تعقّبهم ومهاجمتهم أو تركوا في العراء ليواجهوا مصيراً صعباً). ألا يعلم (أوكامبوا) أن هناك أدلة واضحة المعالم، واطلع عليها سكان العالم جميعاً تقريباً في الصحف والتلفزة وسمعوها عبر المذياع؟ أدلة جرائم (بوش الأول والثاني وكلينتون وبلير) بحق العراق وشعبه وثرواته وثقافته وحضارته؟ ألم يسمع أو يشاهد صحفاً أو في التلفزة جرائم العدو الصهيوني بحق أهلنا في فلسطين المحتلة؟ إلا أنه يعلم «يقيناً« بأن اتهامات واشنطن والغرب والصهيونية بحق رئيس السودان تثير تساؤلات عدة حول الأهداف والمؤامرات التي تُحاك ضد السودان، وذلك من أجل إثارة المزيد من الفوضى والجرائم في دارفور وبالتالي زعزعة استقرار السودان وتعقيد قضية دارفور، ومن ثم العمل على تقسيم السودان إلى أربع دول (واحدة في الشمال، الثانية في الجنوب، الثالثة دارفور، الرابعة في مناطق البجا بشرق السودان) مخطط لها منذُ وقتٍ ليس بقصير، مثلما يُفعل بالعراق حالياً. وما يتضح ويعلم (أوكامبوا) بذلك أن المحكمة هذه تعمل وفق أجندة وتحت لواء واشنطن ولا تخفي رغبتها في تمزيق أواصر السودان مثلما فعلت في العراق، من أجل رسم خريطة سودانية ضعيفة ومن أجل السيطرة على مقدرات السودان النفطية وضرب المصالح العربية فيه، خاصة بعد أن توجه بعض الحكومات العربية للاستثمار الاقتصادي في المجال الزراعي في السودان بعد تفاقم أزمة الغذاء العالمي، وبالتالي العمل على تغيير نظام الحُكم في السودان – مثلما حدث في العراق – والإيتاء بحكومة احتلال أمريكية كشكل حكومة الاحتلال في العراق. كما أنه يعلم أن التغاضي عن جرائم الإبادة الجماعية التي يرتكبها العدو الصهيوني وإدارة واشنطن في العراق وأفغانستان وبحق الشعب الفلسطيني كل ذلك يُشير إلى الازدواجية والانتقائية غير المقبولتين البتة في عمل هذه المحكمة التي تحمل أجندة سياسية تخدم أهداف ومصالح الدول الاستعمارية. وإذا كانت هذه المحكمة تريد أن تقاضي الرئيس السوداني فعليها أولاً وقبل كل شيء أن تقاضي محور الشر العالمي (بوش، تشيني، أولمرت، رامسفيلد، بلير، الموساد) على جرائمهم في العراق وفلسطين ولبنان والصومال وأفغانستان والأحواز. إن التلويح الأمريكي بتدخل عسكري في السودان ليس وليد اليوم والساعة، وإنما بدأ عندما تبين أن السودان يمتلك موقعا استراتيجيا يربط شرق افريقيا بغربها، ويحتفظ بثروة نفطية غزيرة في باطن أرضه، بالإضافة إلى أرضه الخصبة الصالحة لزراعة الكثير من المحاصيل الزراعية. هذا التطلع الأمريكي جعل من أزمة دارفور باباً للتدخل العسكري. وهذا الأمر تقرره واشنطن لكل رئيس دولة يرفض الانصياع للرغبة أو التطلع الأمريكي.
إذاً، فالسودان بات في دائرة الخطر بدءًا من عزله ورفع الغطاء عنه ومن ثم احتلاله وتغيير نظامه (كما فُعل بالعراق)، إزاء هذا الخطر.. ماذا ستفعل الأنظمة العربية؟ فالممانعة العربية جد ضعيفة أمام الرغبة الأمريكية الجامحة، فبالأمس تمت محاكمة وقتل الرئيس الشهيد صدام حسين بإدانة أمريكية وإيرانية وصهيونية، واليوم الرئيس عمر حسن البشير، ويا ترى غداً من سيكون التالي بعدهما؟ فالاتهامات الأمريكية معدة وجاهزة، والموساد والبيت الأبيض جاهزان لوضع كل من يعصي الأوامر الأمريكية – الصهيونية في قفص الاتهام، ومن ثم محاكمته باسم القانون الدولي والديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان. وبهذا النهج الأمريكي العدواني سيكون السودان الدولة الثالثة بعد فلسطين والعراق، ناهيك عن إقليم الأحواز والجزر العربية الثلاث ولواء الإسكندرون والجولان، وكما حدث للعراق، فبعد احتلال السودان -لا قدر الله – سيتم تفتيته وإضعافه أمنيا، وإلغاء دوره الوطني والإقليمي، وإغراقه في مستنقع عدم الاستقرار، للحيلولة دون نهوضه ونفض غبار الحروب عنه. وهذا هو صلب المشروع الأمريكي والمخطط له. مرةً أخرى، ماذا ستفعل الأنظمة العربية حيال أمر السودان؟ هل سينال السودان ذات الموقف العربي من فلسطين والعراق؟ وكلنا نعلم أن ما حدث لفلسطين وللعراق حدث بسبب مشاركات الأنظمة العربية، وأعتقد أن هذه الأنظمة لن تمانع ما سيحدثُ للسودان من أمر، فنحن نعيش في عصر قرأنا فيه «سورة الفاتحة« على الكلمة العربية الواحدة، ونعيش في وضع عربيٍ رديء، لا يعي ما حدث ويحدث في العراق، ولا تشغله مذابح فلسطين، ولا حصار غزة حتى الموت جوعاً، ولا الاعتداءات المتكررة على لبنان وسوريا، ولا المشانق التي ينصبها النظام الإيراني لأحرار الأحواز، هذه الأنظمة إن لم تقف على ضفة التشجيع والمباركة فإنها ستقف على ضفة السكوت. وكلمة التضامن مع السودان التي أطلقها مؤتمر وزراء الخارجية العرب لا تكفي، فقد تضامنوا سابقاً مع العراق ومع لبنان.