في حديث مثير مع زميل صحفي سوداني حول الأمثال في السودان ذكر لي حكاية مثيرة من عنوانها وهي "البغلة في الإبريق" .. فشدني شوقا لمعرفة قصة كيف دخلت البغلة في الإبريق الضيق.. وسألته في الحال .. وما حكاية البغلة في الإبريق؟ فأطرق برأسه مستغربا من جهة ومهدئا من جهة أخرى.. وطلب إليّ التريث وعدم العجلة..وأردف أن هذا هو المقطع الأول من المثل.. فعاجلته إذًا ما هو الشطر الثاني؟ فقال زميلي المثل كاملا يقول: من يقول البغلة في الإبريق يدخل البيمارستان.. فقلت له وما هو البيمارستان هذا؟ فهذا لفظ غريب وعجيب يمكن ان اضيفه إلى خزانة معلوماتي من المصطلحات التراثية. فأوضح لي ان البيمارستان معناه (مستشفى المجانين) باللغة التركية وقد ساد هذا المصطلح في زمن الحكم التركي لمصر والسودان في القرن الماضي.. صحيح أن الأتراك تركونا لكنهم خلفوا وراءهم مصطلحاتهم تسودنت وأصبحت مفهومة وحلت محل المفهوم العربي.
وقد ذكرني هذا المصطلح بمصطلح كان يتردد بين البحرينيين أيام زمان هو (إسبيتار) ويعني (مستشفى) وهو محرف عن كلمة (هوسبيتال) باللغة الإنجليزية ولاسيما ان مستشفى الإرسالية الأمريكية كان أول المستشفيات في البحرين فتأثر الناس بهذه الكلمة. المهم فلنعد إلى بداية الحكاية التي اشتق منها المثل السوداني (البغلة في الإبريق).. تقول الحكاية وحسبما سردها لي زميلي بالإضافة إلى اني قرأتها على الإنترنت في مواقع سودانية وعربية: ان مواطنا سودانيا تزوج امراة وأحبها حبا جما وشغف بها ليلا ونهارا فأصبحت جزءا من كيانه.. لا يقوى على فراقها.. والسبب أنها كانت على قدر كبير من الحسن والقوام والجمال الحنطاوي.. ومن شدة حبه ووله بها تشبث بها في كل الأحوال وحرص على أن تبقى رفيقة دربه حتى الأبد. إلا ان هذه الامنية لم تدم وما كل ما يتمنى المرء يدركه.. فحصل الخلاف بينه وبين زوجته.. فأين يتجهان؟ فذهبا إلى القاضي.. وهنا تبدأ الإثارة في الحكاية، فلما رأى القاضي زوجة هذا الرجل وهي بهذا القدر من الحسن والجمال واقفة أمامه استحوذ عليه الشيطان ونسي عهد الشرف والحيادية والعدل بين الناس. فقال لزوجها: انك قد ظلمت زوجتك والحكم في هذه الحالة هو (الطلاق) أي الفراق بين الحبيب والحبيبة.. وكلنا يعرف ان من أصعب لحظات العمر هو فقد الحبيب أو الحبيبة. فصعق هذا الرجل وتسمر في مكانه.. وقف مشدوها بكلام القاضي بين مصدق ومكذب وحسم أمره بقبول حكم القاضي إذ لا مناص منه لكن قلبه الرقيق المنهار تحول في لحظة إلى جلمود صخر في الحقد على هذا القاضي مما دفعه للتعبير بالسب والغضب من هذا الشعور في أي مكان تطأ فيه قدماه من دون خوف ومن دون اعتبار لمكانة هذا القاضي (هاوي النساوين) فيما انبرى البعض من الناس يلوم هذا الرجل ويطلبون إليه التريث وعدم شتم هذا القاضي الذي قام بتطليق زوجته منه برغبة جنسية مخفية تحوم في خلده لكنهم لا يعلمون بها وحقيقة السبب في حكم الطلاق.. ولاسيما ان هذا قاض له سمعته ومكانته في المجتمع ليس السوداني فحسب بل في كل المجتمعات لان القاضي يمثل السلطة التي تطبق القانون من دون أن يعرفوا حقيقة هذا القاضي (هاوي النسوان).
وبالمناسبة فلدينا في البحرين مثل هذا النوع من القضاة وما نشر في "اخبار الخليج" مؤخرا حول أحد القضاة يدفع 100 دينار إلى امرأة هدية العيد المسبقة تصب في هذا المجرى، بالإضافة إلى أني أعرف قصة حقيقية من هذا النوع لقاض آخر عن المعاكسة والتحرش الجنسي نشرت في الجريدة بالإضافة إلى قضية أخرى تسترت عليها لوجود شك في الموضوع اكتشفته من قبل المرأة التي حضرت لمبنى الجريدة في اللقاء الثاني معها، لذا فإني أتطلع ألا يزعل القضاة من هذه القصة لكون الموضوع غير موجه إلى احد وإنما استرسلت فيه ضمن صيغة الكتابة فتذكرت وكتبت من دون تحديد قاض معين ومن دون الإساءة إلى شخص معين والقاضي هو إنسان يظل يملك الشعور والحس ويمكن ان يتأثر بذلك.. ولا أرى في ذلك غرابة فظيعة أو جريمة كبرى. وواصل صاحبي الحديث بالقول: ان من قاموا بلوم هذا الرجل ذكروا له لا تلعن القاضي لان اللعنة هي على إبليس كما جاء ذلك في آيات قرآنية عديدة.. فرد عليهم بلهجته الخشنة: ولماذا ألعن إبليس.. هل قام بتطليق زوجتي مني كما فعل هذا القاضي؟ وتمضي الحكاية فلما استمر في لعن القاضي ولم يلعن إبليس جاءه إبليس في المنام وقال له: لقد عرفت أنك الوحيد من البشر الذي لا يلعنني وجئت لأكافئك على هذا الموقف الشجاع.. وسأل إبليس الرجل الذي طلقت منه زوجته : ماذا تريد مني ان اعمل بهذا القاضي؟ أنت بس قل وأنا أنفذ ما يدور بخلدك وما يريحك.. بس أنت قل لي وخل الموضوع علي أنا انفذه. فقال الرجل لإبليس أريد ان يصير هذا القاضي مجنونا، فيعفى من العمل في المحكمة ولا يستطيع أن يفرق بين الأحبة من جديد.. فرد عليه إبليس طلبك هذا بسيط امنحني فقط جزءا من الوقت وسترى بنفسك أحلامك تتحقق على أرض الواقع. وتقول الحكاية انه لما كان القاضي هاما في التوجه للصلاة، طلب إلى أحد خدمه أن يحضر له الإبريق ليتوضأ للصلاة، فقام الخادم بإحضار الإبريق وحينها قام القاضي بغسل اليدين والوجه والذراعين ولما خلص من الوضوء.. وضع الإبريق جانبا وفي اللحظة نفسها تحركت بغلته من مكانها ومربطها وأخذت تجري وما هي إلا لحظات حتى تحولت إلى ثعبان ودخلت الإبريق.. فدهش القاضي في الحال واخذ يصرخ (انظروا .. انظروا.. بغلتي دخلت الإبريق).. فحضر الناس ولم يروا شيئا في الإبريق بل كان فارغا إلا ان القاضي استمر في خياله وصياحه بأنه يرى أذن البغلة ورقبتها وعينيها فأيقن الناس بأن القاضي اصبح مجنونا فأخذوه على الفور إلى مستشفى المجانين. وهل انتهت الحكاية الطريفة عند هذا الحد؟ لا طبعا.. فالفصل الأخير من الحكاية يختتم بالقول: ان إبليس ذهب إلى الرجل المنكوب في حبيبته التي طلقها القاضي منه.. وقال له: هأنذا وفيت بوعدي وحولت لك القاضي إلى مجنون، فهل تشعر بالراحة الآن؟ فماذا تتوقعون رد الرجل المنكوب في حبيبته لإبليس؟ قال له: إني عاجز عن تقديم الشكر والوفاء لك وسأبقى على سابق عهدي ألعن القاضي ليل نهار حتى نهاية حياتي. وعلى هذا الأساس يحذر الناس في السودان من ظلم الناس أو عدم الحكم بينهم بالحق .. فبقدر أن الحكم بالعدل لا يبقي للقاضي صديقا.. فالقاضي الظالم أيضا ليس بعيدا عن متناول ولسان وغضب الناس.. وعلى هذا الأساس يردد الإخوة في السودان المثل القائل "من يقول البغلة في الإبريق تكون نهايته البيمارستان" أي من سكنة مستشفى المجانين وبالبحريني دار المجانين.. فدعونا لا نردد ذلك وإلا تكون نهايتنا دار المجانين التابعة لمستشفى السلمانية.
© جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia.