لا توجد رأسمالية واحدة، بل رأسماليات في صور مختلفة بالنسبة إلى ممارساتها وايديولوجياتها. ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية برزت على الساحة الدولية ممارستان أساسيتان للرأسمالية، إحداهما في الولايات المتحدة الأمريكية والأخرى في العديد من الدول الأوروبية الغربية. الرأسمالية الأمريكية نحت دوماً نحو رأسمالية السوق الحرة غير المقيدة وغير المنضبطة وغير الحاملة لمسؤوليات اجتماعية. بينما الرأسمالية الأوروبية نحت نحو رأسمالية السوق الاجتماعية المنضبطة إلى حد ما والحاملة لالتزامات نحو مجتمعاتها. وهكذا ولدت في أوروبا دولة الرعاية الاجتماعية التي التزمت تجاه شعوبها بتوفير مستويات معقولة مجانية من التعليم والصحة والإسكان وبتوفير فرص العمل والمساعدات للعاطلين عن العمل وللمهمشين بسبب العجز أو كبر السن. بينما نأت الدولة الأمريكية بنفسها عن تلك الالتزامات وتركت إلى حد كبير المسؤوليات الاجتماعية لديناميكية وتذبذبات القطاع الخاص غير المستقرة وغير المنضبطة. ومنذ حكم مارجريت تاتشر في بريطانيا ورونالد ريجان في أمريكا اندفعت رأسمالية السوق الحرة بقوة وبدأت تحتل المكانة الأبرز في العالم بينما تراجعت رأسمالية الالتزامات الاجتماعية الأوروبية كثيرا، بل يظهر أنها في طريقها للزوال في المستقبل المنظور. لكن الأزمة المالية الحادة الحالية في أمريكا، التي ولدتها الرأسمالية المنفلتة المتوحشة التي ترفض أي ضوابط من قبل الدولة، والتي أوصلتها الأيديولوجيا الليبرالية الجديدة إلى أعلى قمم الهمجية وغرائز الطمع والأنانية، هذه الأزمة عادت وطرحت الأسئلة الكبيرة حول النظام الرأسمالي برمته. ما يهمنا نحن العرب، وعلى الأخص في دول النفط الغنية، هو ألا تمر علينا هذه الأزمة الأمريكية، وإلى حد ما العالمية، ونحن نتفرج عليها بعقل كسول لا مبال. ذلك أن التوجهات الاقتصادية عندنا، وخصوصاً أثناء العقد الأخير، نحت بقوة ومفاخرة نحو نسخ التجربة الأمريكية الرأسمالية برمتها. وقد رأينا الخطوات الحثيثة نحو تخصيص كل الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية ونحو تخلي الدولة التدريجي عن مسؤولياتها الاجتماعية عن التعليم والصحة والسكن والعمل وعن مهماتها في ضبط وتيرة الحياة الاقتصادية من الشطط والجنون اللذين تصاب بهما الأسواق بين الحين والآخر. وبمعنى آخر فإن دولة النفط العربية التي تبنت سابقاً أنموذج الدولة الرأسمالية الأوروبية، دولة الرعاية الاجتماعية لشعوبها، تخلت عن ذلك التبني وأحلت محله النسخ الأعمى للأنموذج الأمريكي، فكراً وممارسة وتخطيطاً لإيصاله بالكامل إلى التجذر في حياة مجتمعاتنا. ومن هنا شاهدنا في دول النفط أزمات البورصات وأزمات العقارات والاستقطاب الأهوج في توزيع الثروة مما زاد الأغنياء غنى وزاد الفقراء فقراً وأضعف الطبقة الوسطى. ومن هنا أيضاً بناء مجمعات ومدن الرفاهية التي لا دخل لها بحاجات السكان وإنما تتوجه إلى حاجات الاستثمار للأغراب. ومن هنا أيضاً توجه بعض حكومات تلك الدول لتصبح شركات لايهمها إلا التوسع وإلا الربح وإلا زيادة أعداد الزبائن. أما وأن الأنموذج الأمريكي يتخبط في جحيم جنونه ويضعه العالم على محك التساؤل والشك، فهل ستملك أنظمتنا السياسية الشجاعة لتعيد النظر في كل توجهاتها وممارساتها الاقتصادية والاجتماعية التي سارت عليها مؤخراً وذلك قبل أن تؤدي بها وبمجتمعاتها إلى مشاكل بالغة الخطورة وإلى أوضاع مجتمعية بالغة التفجر؟ لنتذكر جيدا ضعف الدولة الروسية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي الذي كاد أن يؤدي بها إلى الإفلاس، لنتذكر الاضطرابات المالية التي فاجأت دول نمور آسيا والتي لم تتخلص من آثارها حتى اليوم، لنتذكر الحراك المجتمعي الأوروبي ضد الرأسمالية العولمية الانتهازية بعد أن فقد مواطنوه أغلب امتيازات دولة الرعاية، لنتذكر تذبذب أسعار النفط وخضوعه لجنون الأسواق ووصوله إلى ستة دولارات للبرميل الواحد منذ بضع سنوات. لنتذكر كل ذلك لندرك أننا لن نكون في منأى عن العواصف وأننا يجب أن نعود إلى علم العلماء وإلى حكمة العقلاء وإلى ضمير الملتزمين ليطرحوا الأسئلة الصعبة قبل أن يقودنا المغامرون والمبهورون والجهلاء من كل أنواع المسؤولين إلى مشارف أودية سقوط الأمم والمجتمعات.