المتتبع لتاريخ الباكستان منذ انفصالها عن الهند عام 1947 بزعامة محمد علي جناح يلاحظ بوضوح أن هذه البلاد تعيش على نار ملتهبة وبتعبير آخر على صفيح ساخن كما يقولون.. والحديث هنا يطول خاصة في تاريخ القيادات السياسية والرؤساء الذين تعاقبوا على حكم الباكستان فمنهم من وضع في السجن ومنهم من لقي حتفه ومنهم من استبعد عن الوطن ومنهم من تمت تصفيته برصاص غادر. ولقد اعتقد برويز مشرف أنه سيكون الشخصية القيادية التي جاءت لتنقذ الباكستان من الفساد الإداري والمالي وعلى إثرها قام بمحاولة انقلابية ضد خصمه نواز شريف رئيس الوزراء حينها وذلك عام .1999 ونسي أنه يفتقد الشرعية القانونية لمواصلة حكمه للباكستان وما جرى له من ضغوط مؤخرا دفعته غصبا عنه لتقديم استقالته في 17 أغسطس الجاري يؤكد بوضوح ان نهج اغتصاب السلطة والتربع على عرشها
وتصفية الخصوم السياسيين ليس بالنهج الصحيح. ولقد طالعتنا الصحف خلال الأسبوعين الماضيين بأن مشرف أقال نفسه قبل ان يقال.. وهذا التعبير ليس دقيقا في اعتقادي لكون الاستقالة هي الملاذ الوحيد الذي يبعد مشرف عن «الجرجرة« إلى القضاء وأروقة المحاكم.. ثانيا: ان تقديم الاستقالة من قبل مشرف جاء نتيجة لصفقة واضحة المعالم وبمن شارك فيها ورتبها.. وهم أناس في السلطة بل في قمة الهرم التنفيذي والتشريعي بالإضافة إلى قادة حزبي المعارضة (حزب الشعب والرابطة الإسلامية) لم يكونا بعيدين عما جرى من تسويات. وجاء طرح مغادرته للسلطة قبل أن يؤخذ قرار قانوني من قبل المحكمة لربما اشرف إلى سجله غير المُشرف.. ولما عرف مُشرف أن (الساعة آتية) والصعقة قاتلة والضربة قاضية قبل بتقديم استقالته ليضمن بأنه لن يلاحق قضائيا بعدها.. ولكني أشك في أن يترك سدى أو على هواه لينعم بلعب وممارسة رياضة الجولف والتنس الأرضي وغيرهما من الهوايات التي عشقها وشغف بها مثلما عشق السلطة وحلم بالوصول إليها ومهما كانت الوسيلة.. وتحقق له ذلك ولكن.. والاسئلة التي تلوح في أفق استقالة رئيس وزراء الباكستان برويز مشرف كثيرة منها: هل كان مشرف السلطة قويا أم كان ضعيفا؟ ولماذا تنازل عن رئاسة الجيش في ديسمبر الماضي؟ أليست هذه الاستقالة أضعفت من وضعه أم أن اعتقال رئيس القضاة جودري كان القشة التي كسرت ظهره؟ وهل لمشرف صلة باغتيال بينظير بوتو والأحداث التي تفجرت بعدها؟ وللإجابة عن سؤال: هل كان مشرف الرجل القوي الذي حكم بلاده؟ هنا تختلف الآراء فهناك من يرى أن مشرف قوي لكونه رجلا عسكريا حكم البلاد بالقوة والنار ووصل إلى السلطة في انقلاب بقيادته ضد نواز شريف قبل 9 سنوات وظل ممسكا برئاسة الجيش إلى جانب رئاسة الجمهورية واستطاع عزل وإبعاد خصومه عن البلاد.. ولم يتخل عن عقيدته العسكرية إلا في ديسمبر الماضي ليضمن بالمقابل قبول ترشيحه للرئاسة 5 سنوات قادمة وكان له ما أراد حتى انقلب الوضع عليه في أغسطس الجاري، أي انه لم ينعم بالحكم أكثر من ستة أشهر فيما يرى محللون سياسيون آخرون أن مشرف كان ضعيفا ووضعه كان هشا بدليل أنه لم يخلع البزة العسكرية وظل حاملا عصاه تحت إبطه إلا في مدة أقل من سنة، كما أنه وثق تبعيته للحليف الأمريكي بحجة مكافحة الإرهاب ولا احد يعرف مصير مليارات الدولارات التي دفعت لنظامه بينما بقي الجندي الباكستاني يقاتل ببزة عسكرية رثة. وخلال تصفحي للبعض من المصادر لفت انتباهي تحقيق جميل أجراه الصحفي محمود صادق ونشر في مجلة «الوطن العربي« في 5 ابريل عام 2002 وبعنوان مثير هو «الجنرال مشرف.. وداعا«.. واسمحوا لي أن أبرز منه مقطعا: «الغيب لا يعلمه إلا الله.. لكنها قراءة في سطور الأحداث وتفاعلاتها تنبئ بأن هذا الرجل يمشي على أرض ملتهبة.. والصورة داخل باكستان تنبئ بأن برويز مشرف يعيش أيامه الاخيرة لربما شهورا أو سنين لكنها حتما ستنتهي قسرا وربما عنفا.. فالأرض تغلي بمن فوقها من بشر قادرين على تعديل المسرح السياسي وتغيير اللاعبين الذين لم يراعوا مصالحهم ويحققوا أحلامهم«. أما حول الحالة التي قصمت ظهر مشرف هل هي تنازله عن رئاسة الجيش أم هي اعتقال قاضي القضاة أم حادث اغتيال بوتو؟ نلاحظ أيضا هنا التحليلات السياسية تختلف فيما بينها فمنهم من يعتبر ان قبول ابتعاده عن رئاسة الجيش وتسليم رئاسته إلى الجنرال إشفاق كياني ليضمن ترشحه للرئاسة وليلبي مطالب القوى السياسية أنه آن الأوان لخلع البذلة العسكرية المثقلة بالنياشين وأن يصبح رئيسا مدنيا (مهمشا) وليس عسكريا. تلا ذلك ان سمح مشرف بعودة قطبي المعارضة من الخارج (بوتو من الإمارات ولندن ونواز من السعودية) وسمح لنواز شريف الذي حكم عليه مشرف بالسجن مدى الحياة عام 2000 بالعودة إلى الباكستان ومنعه أولا من الدخول وأعيدت طائرته إلى المملكة العربية السعودية وبعدها بأيام قبل عودته مجددا مع عودة بينظير بوتو وذلك في نوفمبر وديسمبر من العام الماضي حيث بدأ كل منهما العمل والتهيئة للعملية الانتخابية في مارس .2008 كما يرى محللون أن الذي قصم ظهر مشرف هو دوره في مقتل بوتو على الرغم من إعلانه انه حذرها من القدوم إلى هذا المكان على خلاف الرأي الذي يقول إن الذي قصم ظهر مشرف وحجم من دوره وجعل منزلته تعد التنازل هو إقالة قاضي القضاة (افتخار جودري) موجها إليه تهما منها سوء استخدام السلطة والفساد وذلك في 5 مارس 2007 حيث أدخل البلاد في حالة من عدم الاستقرار بتجدد الاضطرابات والاعتصامات مطالبة بالإفراج عن جودري من جهة ومطالبة باستقالة مشرف من جهة اخرى. ومن خلال استعراضنا هذه الرؤى نقول مهما تعددت الرؤى نجد أن استقالة مشرف لم تكن «وليدة« أحداث ما قبل الاستقالة مباشرة بقدر أنها تراكمات منذ عام 1999 حين وصل إلى السلطة بالقوة العسكرية والتقلبات التي أدخل الباكستان فيها لتمشي على نار حارقة أفضت في نهايتها إلى حرقه وبطريقة حضارية وأرغمته على التخلي عن الرئاسة.. وإلا مصيره السجن. إن الرئيس الباكستاني المقال أشبه بمثل حال القائد العسكري التابع لجيش يزيد بن معاوية وهو(عمر بن سعد) حين طلب إليه التراجع وعدم المشاركة في قتل الإمام الحسين.. فحار في البداية لكنه فضل الدنيا على الآخرة.. فأنشد يقول: أأترك ملك الري.. والري منيتي.. أم أرجع مأثوما بقتل حسيني؟.. وهكذا دارت الدنيا على مشرف ولم ينفعه انقلابه ولا هفواته ولا طموحاته.. وأصبح محل الطرافة والتندر في التاريخ السياسي الحديث.
لعدد 11117 السبت 29 شعبان 1429 هـ 30 أغسطس 2008 م
أخبار الخليج البحرينية