حفلت الأسابيع القليلة المنصرمة بأحداث تحمل دلالات واضحة بقرب انتهاء حقبة الأحادية القطبية، وعودة مراكز الإستقطاب في العلاقات الدولية. ولعل أهم هذه الأحداث الموقف الروسي من نشر منظومة أمريكية للدفاع، مضادة للصواريخ الباليستية بعيدة المدى، على أراضي بولندا. ففي هذا السياق، هدد نائب رئيس هيئة الأركان الروسية، الجنرال أناتولي توغوفيتسين أن نشر هذه المنظومة سوف يعرض العلاقات الروسية الأمريكية للخطر، وأنها تعرض بولندا لخطر الهجوم الروسي عليها بالسلاح النووي. "بنسبة 100 في المائة".
وكانت تقارير نشرت في الرابع عشر من يوليو/ تموز الماضي عن توجه روسي هو الأول من نوعه منذ انتهاء الحرب الباردة بين الشرق والغرب، يتمثل في خطط لتوجيه صواريخ نووية نحو أوروبا، وفق ما نقل تقرير بريطاني عن مصادر دفاعية في الكرملين. وإن أسباب هذا التوجه هو شعور الإدارة الروسية بأن اقتراب عناصر من الترسانة الإستراتيجية الأمريكية من الأراضي الروسية.. قد يستخدم في إضعاف قدراتها الرادعة، بما يحتم عليها اللجوء لاتخاذ تدابير مناسبة لمواجهة التهديدات ضد أمنها القومي.. ونقلت صحيفة "التايمز" البريطانية أن الخطة، التي يعكف الكرملين على دراستها، يحتمل أن تتضمن نشر صواريخ باليسيتية في "كالينينغراد" – مقاطعة روسية تقع بين "ليتوانيا" و"بولندا. وكانت "كالينينغراد" قد أعلنت منطقة خالية من السلاح النووي إثر إتفاق موسكو وواشنطن على خفض ترسانتهما النووية مع إنتهاء حقبة الحرب الباردة.
أما الحدث الآخر، فهو التدخل العسكري الروسي في جورجيا، وتدمير عدد من مؤسساتها وبنيتها التحتية، والرعاية، من جانب واحد، لمشروع استقلال أوستينيا وأبخازيا عن الدولة الجورجية، والموقف التركي المناصر للتحرك الروسي.
إن فهم الأحداث الأخيرة بالسياسة الروسية، يستدعي قراءة متأنية للتطورات التي حدثت في روسيا والمناطق المحيطة، وتأثيراتها في السياسة الدولية.
فقد تمكن الرئيس الروسي الأسبق، بوتين خلال الفترة الأخيرة من رئاسته من إعادة الحضور الروسي على الساحة الدولية، بعد فراغه من لملمة جروحه، وترتيب بيته. أعاد تشغيل الماكنة الصناعية والعسكرية. وقام بتصنيع أحدث طائرة مقاتلة في العالم، ثم أعلن عن تصنيع صاروخ عابر للقارات، بقوة دفع ذاتي قادر على حمل رؤوس نووية. وتحدى الإدارة الأمريكية فزود خصمها اللدود، الرئيس الفنزويلي، شافيز بأحدث صفقات السلاح، وطائرات وأسلحة باليستية لسوريا. واستمر بالتعاون مع طهران في استكمال برنامجها النووي بمفاعل بوشهر.
وعلى الصعيد العالمي، عارض صدور قرار بفرض المزيد من العقوبات على إيران، كما أعلن تحفظه إبان صدور قرار أممي عن مجلس الأمن الدولي بتشكيل محكمة دولية لقتلة رئيس الوزراء اللبناني الراحل، رفيق الحريري. واعترض أيضا على صدور قرار آخر عن مجلس الأمن بإقفال ملف أسلحة الدمار الشامل العراقية. وخرج عن صمته في قضية كوسوفو، وعارض بشدة السياسة الأمريكية فيها. ووقف بصلابة ضد مشروع الدرع الصاروخي الأوروبي الذي أعلن عنه الرئيس الأمريكي جورج بوش، وهدد بعودة الحرب الباردة، ووقف مباحثات نزع السلاح وأيضاً وقف التعاون فيما يتعلق بقضايا محاربة الإرهاب. كما طرد أربعة من الدبلوماسيين البريطانيين، ومنع منح تأشيرات للمسؤولين البريطانيين لدخول روسيا، وأوقف التعاون مع بريطانيا أيضاً في مجال الحرب على الإرهاب، ورفض تسليم متهم روسي بالقتل لأجهزة الأمن البريطانية، والتعلل بأن الدستور الروسي لا يجيز تسليم مواطنين روس لدولة أخرى. كما أنه استخدم حق النقض في إدانة الرئيس الزمبابوي. وكانت كل المؤشرات التي تجري قريبا من الكرملين توضح بشكل لا لبس فيه عودة مناخات الحرب الباردة من جديد، بصيغ أكثر براجماتية وموضوعية، وبعيدا عن بريق النزاعات العقائدية.
إن التطورات الأخيرة، دون شك ستمثل حقبة جديدة في تاريخ العلاقات الدولية، وسوف تنهي حقبة طارئة في التاريخ الإنساني، حقبة تفرد اليانكي الأمريكي في صناعة القرار الأممي والضرب بعرض الحائط بكل المواثيق والأعراف الدولية. وهذا الانتقال يعيد إلى الإعتبار، دون شك جملة من الحقائق التي حكمت مسيرة البشرية منذ تلمس خطواتها الأولى على طريق العمران والمدنية والنهضة.
أولى هذه الحقائق، أنه في العلاقات الدولية، ليست هناك صداقات دائمة، بل علاقات تحكمها المصالح، وأن النزاعات بين الحكومات والدول ليست لها علاقة بسوء الفهم لموقف الآخر، ولا بحوار أو صراع الحضارات، ولكنها محكومة بصراع الإرادات.
الحقيقة الثانية، أن مفهوم الشراكة هو تعبير فضفاض، وأن هذه المقولة محكومة في النهاية بتوازن القوى. بمعنى أن أرجحية المصالح فيها هي دائما لصالح الأقوى.
الحقيقة الأخرى، أنه في التاريخ الإنساني، ومنذ بروز الإمبراطوريات القديمة، مصرية ورومانية وبيزنطية وفارسية، وحتى يومنا هذا، فإن قانون العلاقات الدولية هو قانون القوة، وأن الذي يحكمها هو الصراع، وليس التجانس. وكان وجود التعددية القطبية، وحدة التنافس قد خلق جملة من المناخات التي أسهمت في ترصين السياسة الدولية، وبروز مواثيق ومعاهدات واتفاقيات عززت من نزعات الاستقلال والرغبة في الإنعتاق وحق تقرير المصير في العالم المقهور. وكان من بين نتائج تلك المناخات إعلان حقوق الإنسان، وشيوع شعارات الحرية والمساواة والعدل الإجتماعي، وتأسيس عصبة الأمم، وهيئة الأمم المتحدة، وبروز منظمات غير حكومية، تقف إلى جانب الشعوب والأمم التي تعاني من العسف والجور.
لقد مثلت الأحادية القطبية – بعد انتهاء الحرب الباردة – حقبة مظلمة ومقيتة في التاريخ الإنساني، وكان من نتائجها بروز "مكارثية جديدة" متوحشة، غير معهودة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لعل أبرز معالمها التضييق على حرية الفكر، ومحاصرة الحريات الفردية واحتلال أفغانستان والعراق وصنع كانتونات بقياسات طائفية وإثنية، وخلق هويات أصولية، وإشعال فتيل الحرب الأهلية في العراق والجزائر والصومال واليمن ولبنان. وتهيئة المناخات لتفتيت النسيج الاجتماعي في عدد آخر من البلدان العربية تمهيداً لخلق حالة من التشظي والتفتيت فيها. وفرض الحصار وحالة الطوارئ على المدن والبلدات الفلسطينية، وبناء المعابر والعوازل.
وإذا كان احتلال أفغانستان والعراق، هو التعبير الحقيقي عن تجليات نهاية الحرب الباردة، وسيادة الآحادية القطبية، فإن أحداث جورجيا، والموقف الروسي من الدرع الصاروخي المزمع وضعه في أوروبا الشرقية ربما يمثل حقبة جديدة في العلاقات الدولية… حقبة تعيد الاعتبار للمواثيق والمعاهدات والإتفاقيات، وعدد آخر من المنجزات التي حققتها البشرية في نضالها الطويل، واعادة الثقة بالقانون الدولي وبميثاق الأمم المتحدة. وسيكون من نتائج هذه الحقبة إعادة صياغة خارطة التحالفات على مستوى العالم، وتمكين عدد من البلدان من الإفلات من قبضة العقب الحديدية.
ما هي معالم الحقبة الجديدة، وما تأثيراتها على واقعنا العربي، وكيف ينبغي استثمار هذه التغيرات من قبلنا نحن العرب، وقضايا أخرى ذات علاقة، ستكون موضوعا للمناقشة في الحديث القادم بإذن الله.