عند قراءة المشهد السياسي العربي سوف تصدمنا من دون شك الصورة القاتمة لهذا المشهد، التي تعكس حالة التصدع والتمزق التي يعانيها الوضع العربي عموماً، إضافة إلى الفشل والاخفاق اللذين يميزان السياسة العربية على المستويين الرسمي والشعبي في مواجهة التحديات الخطيرة المفروضة على أمتنا العربية، وإذا ما قمنا باستعراض أو تقليب صورة الواقع العربي الراهن فسوف نجد أن جزءا من هذه الصورة القاتمة تتمثل في الانماط الشاذة والغريبة في التفكير والسلوك اللذين أفرزهما هذا الواقع في النظرة إلى العروبة والقومية العربية وتمادي البعض – من موقع البغض والتشفي – في سياسة الطعن والإساءة إلى الفكر القومي وإلى القوى والتنظيمات التي تؤمن بهذا الفكر، وسوف نلاحظ ايضاً أن هناك حملة إعلامية وايديولوجية وسياسية ظالمة ومنظمة ضد الفكر القومي العربي الوحدوي، وأن هذه الحملة العدوانية تتقاطع وتتناغم بشكل كامل مع أهداف ومصالح القوى الكبرى وبعض الدول الاقليمية التي وضعت على رأس أجندتها وأولوياتها ضرب الفكر القومي وتصفية كل ما له علاقة بالعمل القومي العربي، وهي أولويات تعكس أهداف تلك الدول والقوى في تمزيق الروابط القومية للأقطار العربية وإشاعة الفوضى المذهبية والانقسام الطائفي والعرقي في هذه الأقطار وصولاً إلى تحقيق الهدف الأكبر والأساسي في إعادة رسم المنطقة جغرافياً وسياسياً وبالشكل الذي يؤمن لها السيطرة على هذه الدويلات الضعيفة والممزقة سياسياً واقتصادياً وثقافياً. وبالرغم من قسوة ومرارة هذا الواقع فإنه علينا كقوى وعناصر وطنية وقومية عدم الركون أو الخضوع لهذا الواقع وكأنه قدر لا فكاك منه، وهذا يستدعي منا تصليب مواقفنا وتحصين مواقعنا والثبات عليها، ويستدعي منا أيضاً تعميق إيماننا بمشروعية وصدقية أهدافنا ومبادئنا الوطنية والقومية مهما كانت التحديات ومهما اشتدت معها ضراوة الحملات «المشبوهة« ضد الفكر القومي، ومهما كان حجم أو كثرة «الناعقين« على فكرنا القومي، كما يجب علينا ألا نترك اليأس أو الاحباط يتسرب إلى نفوسنا وعقولنا من أجل افشال مشاريع ومساعي هذه القوى المعادية وافشال أهدافها الحقيقية من حملاتها الشعواء والضارية ضد الفكر القومي. في ضوء هذه النظرة المؤمنة بصواب الفكر القومي تتأكد حقيقة يدركها القوميون المؤمنون بهذا الفكر قبل غيرهم وهي أن أهداف الفكر القومي ليست أهدافاً طارئة أو وافدة على الواقع العربي، بل هي أهداف أصيلة معبرة عن هذا الواقع وعن تطلعات جماهير هذه الأمة لبلوغ واقع عربي موحد تسود فيه الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية وتتجاوز واقع التجزئة والتخلف والتبعية والطائفية التي يراد من خلالها طمس هوية الأمة واخراجها من التاريخ، فالتيار القومي الوحدوي يرى أن مواقع التحدي في الحياة العربية قد كثرت، وأن مصادر التحدي في الواقع العربي قد تعددت وتنوعت، الأمر الذي يضع التيار القومي أمام مسؤوليته التاريخية تجاه هذه الأمة في تجديد نضالها وعودتها إلى حقائقها الوحدوية، فقد برهنت الأحداث والمخاطر التي تتعرض لها الأمة أن في الوحدة العربية يتجلى مستقبل العرب، فهي خط دفاعهم الأول والأخير، وهي قاطرتهم إلى القوة والإبداع والتقدم، فالوحدة هي الرد العملي على فكر وممارسات التجزئة وكل نزعات التشرذم والانقسام، فالإيمان بهذه الحقائق هو ما يفرض علينا التمسك بأهدافنا ومواصلة دعوتنا إلى النهوض القومي والعودة إلى الذات وتبني خط مقاومة المحتلين والغزاة والتصدي لظواهر التخلف والتمسك بقيم العدل والمساواة التي تحقق انسانية الانسان العربي في كل الأقطار العربية واسترجاع ذاته المغيبة بفعل التخلف والاستبداد. هذه هي رؤيتنا وهذه هي أهدافنا، لذلك تتلاقى المشاريع على اختلاف توجهاتها ومصادرها في إشهار العداء لكل ما هو قومي وحدوي، فهناك المشروع الأمريكي الصهيوني، وهناك المشروع الطائفي التكفيري الذي يتخندق خلف أفكار وسلوكات اجرامية، وهناك المشروع الإيراني «القومي التوسعي« الطائفي الذي يتخفى وراء الدين والمذهب، وأخيراً هناك مشاريع بعض الدول والانظمة العربية التي رهنت وجودها ومستقبلها بالحماية الأمريكية وقبلت أن تكون أداة طيعة لتنفيذ مخططاتها في المنطقة.. هي المشاريع ذاتها التي تنهش في جسد الأمة لتمزيقه وتفتيته إلى طوائف تتصارع، وأعراق تتقاتل، وهي نفسها المشاريع التي التقت على أرض العراق واتفقت على احتلاله وتدمير دولته الوطنية والقومية، وتخريب وحدته ومصادرة سيادته، وهي التي عملت على صياغة فكر وسلوك «اجتثاث« العروبة والقومية في هذا البلد وتسعى اليوم جاهدة إلى تعميم هذه التجربة الإجرامية على كل أقطار الأمة العربية.
هذا الواقع بكل ما يحمله من قسوة وعمق الجراح يفرض على القوى القومية الوحدوية صياغة شكل العلاقة مع القوى السياسية الأخرى ورسم أبعادها وحدودها، خاصة الضالعة منها بشكل أو بآخر في الحملة الظالمة على الفكر القومي وأصحابه، وهذه مسألة تتحكم فيها كل أطراف المعادلة السياسية، ويحدد مداها ميزان القوة القائم في الساحة السياسية. أما سير وجهة هذه العلاقة فتحكمها من دون الشك النيات المعلنة والخفية لكل أطراف هذه المعادلة، فنحن في التيار القومي الوحدوي لدينا رؤية عقلانية ونتحلى بنظرة واقعية – رغم كل ما يحمله الواقع من مرارة كما قلنا – فنحن لا نريد اخضاع علاقتنا مع هذا الطرف السياسي أو ذاك إلى ضغوط الواقع الراهن أو ثقل الماضي وحمولته السيئة، ولا نريد بالتالي إدخال هذه العلاقة في ساحة الصراع والمنافسة الحادة المنفلتة من عقالها، منطلقين من حقيقة في العمل السياسي تقول ان القوى أو الأحزاب المتصارعة أو المتنافسة في قضية محددة قد تلتقي في قضية أخرى، كما أن العمل السياسي يخضع باستمرار لتسويات وتعديلات في المواقف قد تقود إلى تخفيف حدة الخلافات وربما تؤدي في وقت لاحق إلى مواقف مشتركة حول قضايا محددة، إذا ما توصلت هذه القوى إلى قناعة بضرورة الأخذ بعين الاعتبار مصالح ومواقف ورؤية الطرف الآخر. كما أننا في التيار القومي لدينا قدرة على قراءة الواقع وتحليله بشكل عاقل، كما لدينا ثقة ورؤية استشراقية للمستقبل، غير خاضعة لرواسب الماضي وسلوكنا السياسي العملي مسنود بفكر حضاري وديمقراطي، أولى سماته احترام الآخر والاستعداد للدخول معه في حوار حول كل القضايا، من دون عقد أو شعوراً بالنقص مهما كانت الاختلافات السياسية عميقة، فالحوار أو التسويات السياسية الناتجة عنه لا يرميان إلى إزالة الخلافات، فهذا أمر غير ممكن – لأنه يعتمد على سير الأحداث وتطورات الزمن وتفاعلاته – لكن من المؤكد أن وجود بعض السمات الأخلاقية والحضارية في سلوك وفكر القوى السياسية وكوادرها كفيل بإبقاء حد أدنى من الاحترام والمجاملة في العمل السياسي. وهي سمات انسانية واجتماعية، تعزز مبدأ تحريم القطيعة بين الأحزاب والقوى السياسية وتعزز أيضاً مبدأ التسامح كاستراتيجية وطنية هي الأساس العملي في العلاقة الديمقراطية بين هذه القوى السياسية، من دون الاخلال أو الخلط بين الموقف السياسي التكتيكي والموقف الاستراتيجي، تجاه القضايا المصيرية للوطن والأمة، ومن دون أن يمنعنا ذلك من انتقاد أو رفض مواقف هذه القوى السياسية من هذه القضية أو تلك. فنحن نصر على التمسك بالثوابت الوطنية والقومية، والتمسك بالاستقلالية التامة في اتخاذ المواقف ورسم السياسات المعبرة عن رؤيتنا الاستراتيجية ولا نرى في ذلك أي تعارض أو تناقض مع العمل السياسي وتفاصيله اليومية وما يتطلبه من خطوات تكتيكية تجاه بعض المسائل، فالنظرة إلى الشجرة يجب ألا تحجب عنا رؤية الغابة بصورتها الكاملة، كما هو حاصل عند بعض القوى والتنظيمات المأخوذة اليوم ببعض الأوهام السياسية والغارقة في نشوة القوة العددية «والانتصارات الزائفة« في هذه البقعة أو تلك، وهي نظرة تحكمها حسابات انية قاصرة، طالما باعدت بينها وبين الحدود الوطنية ووضعتها عند حدود الطائفية والمذهب، وافقدتها بوصلة الانتماء الحقيقي وقراءة المستقبل بشكل سليم، وجعلت منها خصماً ليس مع القوى الوطنية والقومية بل مع الوطن والأمة،
وهذا ما أدركه بعض الشرفاء من ذوي الخلفية الإسلامية في العديد من الأقطار العربية الذين تخلوا عن عقد الماضي وغادروا أطرهم المتحجرة والمنغلقة وانفتحوا على الفكر القومي وتفاعلوا معه وتعاونوا بشكل مشترك في التصدي للهجمة الاستعمارية الصهيونية والشعوبية التوسعية. ما نريد أن نخلص إليه في نهاية هذه المقالة هو أن الواقع الراهن لا يعكس بالضرورة ضعف أو هشاشة الفكر القومي رغم الصورة القاتمة التي تحدثنا عنها في بداية المقالة، كما أن انحسار حضور التيار القومي في المعادلة السياسية لا تعني انحسار وجه الإيمان بالعروبة والانتماء القومي عند جماهير الأمة على امتداد الوطن العربي الكبير، فالقومية هي مستقبل هذا العالم، لذلك، فإن كل المحاولات الرامية لإيجاد تعارض أو تناقض بين الانتماء القومي والدين الإسلامي، والإصرار على إشعال الصراع واستمراره بين القوى الممثلة لهذه الاتجاهات في وقت تتعرض فيه الأمة بأكملها لتهديدات ومخاطر تطول حاضرها ومستقبلها ووجودها برمته، إن كل هذه المحاولات تكشف في الواقع عن غياب الوعي السياسي والوطني لدى الأطراف التي تصر على تحويل الخلافات السياسية إلى صراعات انقسامية وطائفية من خلال توظيف الانتماءات الطائفية بين أبناء الوطن الواحد لأهداف سياسية لا تمت للدين أو المذهب بصلة كما أن أي محاولة مقصودة للخلط بين الأفكار ذاتها وبين فشل أو اخفاق بعض التجارب في هذه الدولة أو تلك سيكون مصيرها في نهاية المطاف السقوط والفشل، فالتاريخ والواقع المعاصر يقدمان لنا أمثلة ساطعة على أن هناك الكثير من الأحزاب والقوى سواء كانت إسلامية أو ماركسية أو ليبرالية، قد أساءت – ولاتزال تسيء – بشكل فاضح للأفكار التي تنادي بها وللشعارات التي ترفعها، كما أنها مسؤولة في هذا القطر أو ذاك وعلى امتداد الوطن العربي والعالم الإسلامي عن الكثير من الكوارث والانتكاسات التي حلت بها، ولعل أسوأ وأخطر ما طرأ على سلوك وفكر بعض تلك القوى في عصرنا الراهن هو تعاونها مع الغزاة والمستعمرين ومهادنتهم وكذلك قبولها أو تعايشها مع سيطرة تلك القوى الاستعمارية على استقلالية وسيادة بعض أقطار الوطن العربي ونهب مقدراتها وثرواتها الوطنية، فهذه الأحزاب والحركات ليس في مواقفها في العراق على سبيل المثال ما هو مشرف فهي التي تعاونت مع المحتل وقدمت الغطاء لوجوده. إضافة إلى بروز العديد من قادة وكوادر تلك القوى والأحزاب أو بعض المحسوبين عليها في الواجهة لعمليات سياسية هدفها تبيض وجه العدوان والاحتلال والاهتمام بمصالحهم الشخصية والحزبية على حساب مصالح الناس والأوطان مما حولهم إلى «جوقة من المرتزقة والعملاء« بامتياز بعد أن غطسوا حتى العظم في خيانة أوطانهم فالأمة باتت اليوم مخترقة كما في الجانبين العسكري والسياسي كذلك في المجالات الثقافية والفكرية والإعلامية فلم يعد سراً أن هناك العديد من المثقفين والكتاب الذين يتوزعون على الصحف المحلية والعربية يتلقون «التعليمات« و«التوجيهات« من الأجهزة المخابراتية والإعلامية الأمريكية وغيرها من القوى الأجنبية. فالقبول بالاستعمار والسكوت على جرائمه والاستقواء بالقوى الأجنبية على الوطن ومحاولة تبرير هذه المواقف المتخاذلة بأعذار وحجج واهية لمجرد تحقيق أجندات سياسية أو طائفية يمثل في الواقع ضربة قاصمة لكل الشعارات المرفوعة التي تتلبس زوراً وكذباً بلباس الوطنية والدفاع عن الدين والمذهب، وهذا هو أولى علامات السقوط وانكشاف كل ما هو مستور. فغداً عندما تتبدل المصالح وتتغير اجندات وحسابات الأطراف الاقليمية والدولية (وقد بدأت تباشيرها تظهر في الأفق) سوف نرى الصورة غير الصورة والحال غير الحال وسنرى انفضاض الناس والمؤيدين، وسيظهر المشهد السياسي على حقيقته في الواقع من دون مساحيق أو «مكياج« ومن دون إضاءة صاخبة تعمي البصر وتحجب الرؤية وستظهر الحقيقة عارية وهي أن انهيار السقف القومي على مستوى النظرية والتطبيق يعني في الواقع انهياره على رؤوس كل من يسكن هذه البقعة من الوطن العربي الكبير ولن ينجو أي اتجاه فكري أو سياسي وسيصبح الجميع رهن الإرادة الامبريالية الصهيونية، ورهن القوى والدول الطائفية المتحالفة معها، وهذا ما يفرض على كل القوى بذل جهود صادقة ومراجعة مسيرة العمل وتصحيح المسار من أجل تعزيز صمود الأمة في وجه الهجمة الاستعمارية الصهيونية من دون التوقف عند المحطات السلبية أو إخضاع فكرنا وسلوكنا لأخطاء وهفوات مر بها بعض التجارب في هذا القطر أو ذاك وعند هذا الحزب أو ذاك. ولعل درس العراق بكل تداعياته التدميرية السوداوية خير شاهد على صحة الرؤية الوطنية والقومية التي نؤمن بها، ونعمل على «بعثها« في حياة الأمة وجماهيرها، وهذه هي مسؤوليتنا حاضراً ومستقبلاً.
نشر في : صحيفة أخبار الخليج