بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
خمسون قاعدة عسكرية أمريكية في طول البلاد وعرضها وأكثر منها مواقع عسكرية للربط فيما بينها وسيطرة كاملة على الأجواء والمياه الإقليمية وشركات تدير عمليات الاستثمار وهيمنة مطلقة على النفط والغاز والثروة وتواجد دائم لقوات الاحتلال بصلاحيات مفتوحة ومهاجمة المدن العراقية وهدم البيوت على رؤوس ساكينها واعتقال أي شخص أو قتله دون مسائلة، وحصانة للشركات الامنية وضمان لمصالح أمريكا الحيوية. هذا ما تسرب من بنود المعاهدة، اما بنودها السرية فلا يعلم محتواها سوى الراسخون في علم الاسرار. ومن شرور البلية المضحكة أسموها معاهدة عراقية أمريكية، في حين ليس فيها للعراق جناح بعوضة سوى حماية السلطة العميلة. وكان الانسب تسميتها بالمعاهدة الأمريكية- الأمريكية لان ما يسمى بالطرف العراقي من المعاهدة لم يشارك في صياغتها او مناقشتها وانما اطلع عليها وهي جاهزة ليضع توقيعه دون ضغط او اكراه. وليس في ذلك ما يدعو للاستغراب، فهذا الطرف من حكومة وبرلمان ومجلس رئاسة قد صممه المحتل وهو في رحم العملية السياسية ثم اشرف على ولادته ورعايتة وتوفير الحماية له لهذا اليوم الموعود يوم توقيع المعاهدة المشؤومة.
ما حدث يحكي قصة معروفة عنوانها ما قبل الهزيمة، وقد جرت وقائعها على ارض العراق ايضا. فقبل أكثر من ثمانين عاما حين وقع العراق تحت الاحتلال البريطاني في عام 1917 قررت بريطانيا ألحاق العراق بالتاج البريطاني، فشكلت لهذا الغرض ما سمي بالادارة المدنية البريطانية في العراق ترأسها السير بيرسي كوكس حتى مايو/ايار عام 1918 تبعه السير ارنولد ولسون، لكن ثورة العشرين المجيدة اجبرتها، رغم فشلها عسكريا، على التخلي عن حلمها وادارة البلاد عبر ملك ومجلس وزراء وبرلمان ودستور وعلم وصفها الشاعر العراقي الكبير معروف الرصافي بانها كل عن المعنى الصحيح محرف. وجراء فشل المحتل البريطاني في اقناع الشعب العراقي بوطنية الحكومة وامام تصاعد الرفض الشعبي للاحتلال، لجأت بريطانيا الى عدد من الاتفاقيات والمعاهدات لربط العراق بها، من معاهدة الانتداب عام 1922 ومعاهدة 1925 مرورا بمعاهدة عام 1930 وليس انتهاءا بمعاهدة بورت سموث عام 1948 التي اسقطها العراقيون في وثبة كانون الشهيرة.
ها هي أمريكا تسير في نفس الاتجاه. فامام قوة وجبروت المقاومة العراقية لم يتمكن بوش من الحاق العراق بالتاج الأمريكي وادارة شؤونه من قبل الحاكم العسكري جي غارنر الذي عينه بوش قبل غزو العراق بعدة شهور ومن بعده الحاكم المدني بول بريمر، فلجأ الى ادارته عبر مجلس حكم وحكومة ودستور وبرلمان وعلم هي الاخرى عن المعنى الصحيح محرف، ليسير بعدها، كما سارت بريطانيا، في طريق الاتفاقيات ومذكرات التفاهم ليختمها بهذه المعاهدة التي يتضائل امامها صك الانتداب البريطاني على العراق قبل اكثر من ثمانين عاما. وهذا يعني بان المقاومة العراقية، باعتبارها الخطر الدائم على المعاهدة والمحتل معا، ستظل الهدف المركزي بالنسبة لقوات الاحتلال لجهة انهائها او تصفيتها بكل الوسائل والسبل. لذلك فان معركة المقاومة مع قوات الاحتلال اصبحت اكثر صعوبة واكثر تعقيدا وتتخذ، على الارج، طابع الحرب الشعبية الطويلة الامد وليس كما يتخيل البعض سنة او سنتين.
هذه حقيقة يجب مواجهتها وعدم الاستهانة بها، فالمعاهدة لا تحسب على انها مجرد معاهدة مجحفة بحق طرف هضم بعض حقوق الطرف الاخر، وانما هي معاهدة اشرفت على تصميمها كبار العقول القانونية والسياسية والعسكرية في الادارة الأمريكية وبدقة وعناية فائقتين ومع سبق الاصرار والترصد، لتحول الاحتلال القائم الى استعمارا ابديا او كما يقال الى يوم الدين. وسيسعى بوش، من اجل حمايتها وديمومتها والحيلولة دون اسقاطها من قبل الشعب العراقي الذي تمرس على اسقاط المعاهدات المذلة، الى مواصلة المعارك ضد المقاومة العراقية وتصعيدها بشكل اكثر عنفا ودموية، بحيث لا تقتصر على مدينة دون اخرى، وانما ستتسع رقعتها لتشمل الوطن كله. وعلى الجهة الاخرى سيواصل بوش اساليبه السياسية المضللة والمخادعة وسيبذل جهودا مكثفة لزج حلفاء أمريكا من عرب الردة والجامعة العربية لتفعيل ادوارهم في العراق ومنها فتح السفارات ودعم حكومة الاحتلال والمساهمة في شرعنتها وشرعنة المعاهدة وممارسة نفوذهم على بعض القوى المحسوبة على معسكر المقاومة لجرها الى مستنقع العملية السياسية، ليتمكن بعدها من مخاطبة الشعب الأمريكي بانه انجز المهمة وعلى الخلف الحفاظ على الوديعة فهذه فرصته الثمينة وسيكون حريص كل الحرص على عدم التفريط بها.
ولكن هل ستسير الرياح بما تشتهي سفن بوش وأمريكا كلها؟ ام انها ستخذله وتسير عكس الاتجاه؟
بوش كغيره من الغزاة اضافة الى غبائه المعهود لم يرى الجانب الاخر من النهر، فهو قد نسى او تناسى ما اصابه من جروح بليغة خلال سنين الاحتلال على يد الشعب العراقي ومقاومته الباسلة الذي ظن يوما بان هذا الشعب العملاق سيستقبل قواته بالورود والحلوى، فعلى الرغم من قوة وجبروت أمريكا وعظمتها وشبكة علاقاتها، فشلت في اكثر من جانب فلا قوات الاحتلال تعيش بأمان ولا الحكومة قادرة على الخروج من سجن المنطقة الخضراء ولا استطاعت احياء العملية السياسية ولا زجت البلاد في حرب اهلية او المجتمع العراقي في حرب طائفية بمعناها الدقيق وفشلت كذلك كل مشاريعها ومحاولاتها المدعومة من قبل اكبر قوة اعلامية تدير الرؤوس وتطحن العقول، في اقناع الشعب العراقي بمشروع الاحتلال ووعوده الوردية بالديمقراطية والعيش الرغيد.. ولكن اهم فشل تعرضت له أمريكا وحط من مكانتها وهيبتها ومرغ سمعتها في الوحل ذلك الذي تمثل في عجز قوات الاحتلال عن انهاء المقاومة العراقية او حتى الحد من تصاعد عملياتها العسكرية.
اذا شكل ذلك الفشل مصيبة لبوش فان القادم من الايام يخفي له مصيبة اعظم حين ينقلب السحر على الساحر. فهذه المعاهدة التي ارادها عونا له ستكون فرعونا عليه، فاذا كان هناك من ربع عاقل او موهوم بوعود بوش وعصابته سينقلب ضده. فالمعاهدة من ألفها الى يائها تقول انها معاهدة استعمارية مذلة ومهينة. فهل هناك شعب يقبل على نفسه الاستعباد والذل والمهانة؟ وما دمنا نتحدث عن مصيبة بوش فلنتحدث بالجملة وليس بالمفرد، فالقوى الوطنية المناهضة للاحتلال والتي دخلت في اجتهادات سياسية خاطئة او بتأثير هذه الدولة او تلك وظنت يوما بإمكانية انهاء الاحتلال سلميا او من خلال مفاوضات او ترتيب انسحاب وفق جدول زمني، فالمعاهدة قطعت الطريق عليها ووضعتها في موقف محرج للغاية وستعيدها الى جادة الصواب وستدخل ديار المقاومة من بابها الواسع كونها قوى وطنية يهمها مصالح العراق واهله خاصة وان المعاهدة المشؤومة لم تترك خيارات متعددة فاما مع الاحتلال او ضده اذ لم يعد هناك منطقة وسطى. بل لا نستبعد حدوث انقسام داخل معسكر الاحتلال نفسه، اذ كيف ستواجه القوى والشخصيات التي دخلت العملية السياسية تحت شعار النضال السياسي لانهاء الاحتلال شعبها وربها يوم الحساب اذا لم تغادر هذا المعسكر الاسن بعد ان كشف المحتل عن اخر اوراقه السوداء وانكشفت عورته امام الملا وتبين الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر؟
اما الجهة الاكثر ايلاما لبوش وقواته المحتلة ولا نقصد غير فصائل المقاومة المسلحة، فانها بكل تأكيد ستجري مراجعة شاملة وتعيد حساباتها وترتب اوراقها وتسلح نفسها باستراتيجية واضحة بما ينسجم مع الظروف الراهنة وبما يعينها ويمكنها من خوض معركة التحرير بكل قوة واقتدار وبكل تأكيد ايضا ستشد احزمتها وتتماسك أكثر فأكثر وتطوي الى الابد اي تعارضات فرضتها طبيعة المعركة وستشد الرحال باتجاه خيمة الوحدة الوطنية ليعلنوا من تحتها وحدة فصائلها المسلحة وتحت قيادة مشتركة وستسرع في تشكيل الجبهة الوطنية المنشودة وتسليحها ببرنامج سياسي يلبي القاسم المشترك الاعظم فيما بينها لكي ينبثق عنها جيش التحرير الشعبي الموحد المؤهل لدخول المنطقة الخضراء واعلان بيان التحرير من هناك ومن مقر السفير الأمريكي على وجه التحديد طال الزمن ام قصر.
اذن هي معركة بين محتل ومشاريعه العدوانية وبين شعب خلفه مقاومة عملاقة ومشروعها تحرير العراق واستعادة استقلاله وسيادته ووحدة اراضيه، انها معركة ليست كبقية المعارك، انها المعركة الفاصلة، معركة لا منطقة رمادية فيها فاما مع الاحتلال او ضده، معركة لا مساومة فيها ولا مبادرات لاخراج المحتل بماء الوجه، وانما معركة تخرج المحتل بسواد الوجه، معركة لا مكان فيها للانتهازين وتجار السياسة، معركة لا وجود فيها لاصحاب نظرية مقاومتان واحدة سياسية والاخرى مسلحة فالمقاومة واحدة وان تعددت اشكالها، معركة شعارها لا صلح لا هدنة لا مفاوضات مع المحتل قبل ان يعلن عن انسحابه دون قيد او شرط ويتحمل كافة النتائج الكارثية التي ترتبت على جريمة الاحتلال.
قيل منذ زمان وفي هذا القول حكمة بليغة، ليس عيبا ان يتعرض شعب للاحتلال، ولكن العيب كله ان يقبل به ولا يقاتل من اجل طرده، والعراقيون ومقاومتهم الباسلة قالوا كلمتهم ليس في الجرائد أو من فنادق ذات خمس نجوم وانما قالوها من ارض المعركة ومن فوهات البنادق سنحرر العراق. وبعد المعاهدة قال الشعب كلمته لا للمعاهدة لانها عار ومذلة وليس هناك من شعب يقبل على نفسه الرضوخ للذل والعار. وقالو ايضا بان اسقاط المعاهدة ستكون صفحة جديدة من صفحات معركة التحرير. فهل ستتمكن أمريكا "بجلالة قدرها" الزام الحكومة المقبلة، التي سأسميها حكومة التحرير، بتطبيق بنود هذه المعاهدة او تلك؟ ام ان لحكومة التحرير قوانينها المشروعة في الدفاع عن استقلال البلاد وسيادته ووحدة اراضيه والحفاظ على مصالح شعبها؟ وهل هناك مهمة عاجلة لحكومة التحرير اهم من تمزيق كل المعاهدات والاتفاقات ومذكرات التفاهم والدستور الذي قسم البلاد والعباد؟. واذا وظفت أمريكا الامم المتحدة والقانون الدولي لشرعنة المعاهدة والاشراف على تطبيقها، فان المقاومة العراقية لقادرة على الدفاع عن مصالح الشعب العراقي وهزيمة كل قوة غازية او معتدية سواء تحت خيمة الامم المتحدة او تحت اي خيمة اخرى. فمثلما يتضمن القانون الدولي حماية المعاهدات الدولية، فانه يتضمن ايضا عدم الاعتراف بالمعاهدات التي توقعها الاطراف التي تفقتد السيادية والاهلية. وهل هناك حكومة فقدت سيادتها واهليتها اكثر من الحكومة العراقية.؟
لا خطر ممن تعاهد على الباطل وسرق بلد بأكمله مادامت المقاومة العراقية قد تعاهدت على الحق وعلى التحرير. وهل هناك شك في قوله تعالى قل جاء الحق وزهق الباطل ان الباطل كان زهوقا.؟