في شهر فبراير الماضي وقبل انعقاد ما يسمى مؤتمر البرلمانيين العرب في مدينة أربيل في شمال العراق المحتل، تقدمت حينها جمعيتا التجمع القومي الديمقراطي والوسط العربي الإسلامي بخطاب إلى رئيس وأعضاء مجلس النواب البحريني، خاطبتا من خلاله السادة أعضاء المجلس باسم شعب البحرين الرافض قيم العدوان والغزو والاحتلال، ومن منطلق الإيمان العميق بمواقف هذا الشعب المتضامن مع أشقائه في القطر العراقي الذي تعرض لعدوان غاشم واحتلال همجي دمر كل مستويات الحياة والحضارة في هذا البلد، وأديا إلى تخريب نسيجه الاجتماعي، وسرقة ثرواته الوطنية، وطمس هويته العربية، من هذا المنطلق جرت مناشدة مجلس النواب بعدم المشاركة في هذا المؤتمر المزعوم وإحداث بذلك انعطافة أو نكسة خطرة يمكن لها أن تشوه التاريخ الشخصي والمؤسساتي لمن يحضر هذا المؤتمر الذي يمثل تواطؤاً مع المحتل وحكومته العميلة.
إن مدينة أربيل التي على أرضها جرى هذا المؤتمر هي مدينة وجزء من الشمال العراقي، وهي مدينة مغتصبة ومحتلة مثلها مثل كل مدن العراق من قبل الاحتلال الأمريكي والصهيوني وعملائهما الذين خانوا وطنهم وشاركوا في احتلاله وتدميره وقتل شعبه وتمزيقه، خاصة القوى الكردية العنصرية الانفصالية التي يقودها الحزبان الكرديان بزعامة «مسعود البرزاني وجلال الطالباني« اللذين لهما سجل أسود حافل بالتآمر على العراق وإضرار شعبه في الكثير من الفترات التاريخية الحرجة لهذا الشعب. لذلك كنا ننتظر في هذه الظروف الحرجة التي تمر بها أمتنا العربية أن يستجيب مجلس النواب لهذه المناشدة الصادقة والمخلصة لا أن يصم آذانه ووجدانه عنها ويقدِم على خطوة تشكل بكل المقاييس الوطنية والقومية انتقاصاً من تاريخ الشعب البحريني الذي عُرف عنه دائماً تمسكه بالحق ودفاعه عن قضايا أمته واعتزازه بانتمائه القومي، لذلك لم يكن مقبولاً باسم هذه المبادئ ولا باسم كل القيم الأخلاقية والإنسانية أن نقوم نحن بإضفاء الشرعية على تلك الأحزاب والقوى التي فرضها المحتل الأمريكي على شعب العراق، ونُقدم الغطاء للجرائم التي ارتكبها ضد هذا الشعب المظلوم. كان علينا أن نستحضر كل عذابات وألم العراقيين، وكان علينا أن نتذكر كل صرخات اليتامى والثكالى التي تتعاظم يومياً من حجم المأساة وهول الكارثة التي نزلت بالعراق جراء الاحتلال وما اقترفته أيادي عملائه، وكان علينا أن ندرك جيداً أن الشعب العراقي سوف لن يكون راضياً عن عقد هذا المؤتمر على أرضه في ظل الاحتلال، وأنه (الشعب العراقي) سوف ينظر بعين الريبة والشك، بل عدم الاحترام إلى كل من يشارك في هذا المؤتمر المزعوم.
وسيعتبر ذلك تحدياً لإرادته وتعدياً على حقه في المقاومة وتحرير أرضه المغتصبة، وفوق هذا وذاك كان الواجب الوطني يلزمنا بمعرفة وإدراك أن تداعيات ومخاطر ما يحصل في العراق لن تقف عند حدود هذا البلد، وأن مفاعيل الغزو وحصيلة الاحتلال قد تركت وسوف تترك آثاراً عميقة في دول المنطقة من دون استثناء، خاصة ما يتعلق منها ببروز العصبيات الطائفية والعرقية، وارتداد مجتمعاتنا العربية إلى مرحلة ما قبل الدولة بالتزامن مع انهيار وتفكيك الدولة في العراق، وخروج كل شياطين الطوائف من جحورها لتشعل نار الفتن الطائفية والمذهبية. وأصبح بذلك الوضع العربي منقسماً على نفسه بصورة لم تحدث في تاريخه على قاعدة الموقف من العراق وتفاعلاته، وأن دولنا باتت تعيش أزمات ونزاعات مستجدة ومستمرة بعد أن أصبحت مكشوفة بغياب العراق وما كان يمثله من توازن وقوة للعرب. فكل هذه الأوضاع كانت كافية لجعل أي فرد أو منظمة تفكر مليون مرة قبل أن تتخذ قراراً بالحضور إلى هذا المؤتمر للمساهمة في تبييض الصفحات السود لتلك الزمر الفاسدة، وتقديم صك البراءة للمحتل ولكل عملائه الذين جلبوا هذين الخراب والعار، ليس للعراق فقط بل لكل دول المنطقة، لذلك ينتابنا شعور بالألم والإحباط من مشاركة مجلسي النواب والشورى في هذا المؤتمر. وكلما حاولنا إيجاد تفسير أو تبرير لهذا الحضور نصطدم بجدار العقل والمنطق الوطنيين والقوميين اللذين يرفضان مثل هذه الخطوة مهما كانت الحجج والذرائع، ومهما كان حجم الضغوط التي مورست عليهما. وكان على «المؤسسات« أو البرلمانات العربية «المنتخبة« التي أذعنت للمشاركة في هذا المؤتمر – ممثلة في رؤسائها أو من ينوب عنهم – كان عليها أن تثبت حقاً أنها تمثل الشعب العربي، وأنها تتبنى مواقف هذا الشعب، وأنها تحترم استقلالها وهيبتها. وكان يجب عليها أن تضع حدوداً فاصلة في مواقفها وقراراتها عن خيارات وقرارات الحكومات والأنظمة «ومجالسها المعينة« في دولها، فهذه الأخيرة لها معاييرها الخاصة التي تحكم سلوكها السياسي – الذي إن كنا نرفضه – فإننا نعرف طبيعة وثقل السياسات الأمريكية وإملاءاتها على هذه الحكومات والأنظمة مما يجعلها غير قادرة على التصرف وفق مصالحها أو وفق مسؤوليتها الوطنية والقومية، وبالتالي مسايرة تلك الإملاءات المفروضة من دون أي حساب للعواقب. ولكن أن تقع المؤسسات الشعبية – التي يفترض أنها تتمتع بالاستقلالية التامة وتستند إلى إرادة ومواقف قواعدها الشعبية – أن تقع في ذات المطب وتتجاوب أو تستجيب لمنطق الضغوط والإكراه، فهذه مسألة لا يمكن قبولها أو إيجاد الأعذار لها، وهي مرفوضة لأنها تمثل انتهاكاً فاضحاً للقيم الوطنية والأخلاقية، فليس هناك ما يجبر هذه البرلمانات على التسابق للمشاركة في مؤتمر يعقد في مدينة خاضعة لهيمنة المحتل الأمريكي والموساد الصهيوني، ألم يسأل أحد من المشاركين نفسه – لماذا «أربيل« بخاصة وليس العاصمة بغداد مثلاً؟ السبب الأول طبعاً يعود إلى عدم توافر الأمن وعدم سيطرة القوات المحتلة وعملائها على العراق بعد خمس سنوات من الاحتلال رغم كل خطط القتل واستراتيجيات الإرهاب التي وضعتها وتنفذها قوى الاحتلال، والسبب الثاني هو أن مدينة أربيل وغيرها من مدن شمال العراق الخاضعة لسيطرة القوات الكردية الانفصالية تسير وفق مخطط تكريس وجود دولة كردية انفصالية لها جيش وأجهزة أمن وعلم خاص وتمثيل مستقل في بعض دول العالم، دولة قائمة كأمر واقع بدعم الأمريكان وسيطرة الأجهزة الأمنية والشركات الصهيونية التي باتت تتحكم في الوضع الاقتصادي والأمني هناك، حيث تتجاوز قيمة صادرات العدو الصهيوني إلى منطقة كردستان العراق (5 ملايين دولار) سنوياً، كما كشفت صحيفة «نيويورك« الأمريكية في نهاية عام 2006م عن وجود (3000) عميل وجندي من القوات الصهيونية في العراق، وعن وجود مخطط صهيوني لتأسيس وإقامة دولة كردية في شماله. كما ذكرت الصحيفة أن الخطة (ب) التي اعتمدتها المخابرات الصهيونية للتعاون مع الأكراد في إقامة دولتهم تقوم على تدريب وحدات من الكوماندوز الكردي للقيام بعمليات خاصة داخل أراضي الدول المجاورة (انظر تقرير مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية – أخبار الخليج العدد 10948 – 14 مارس 2008م). لذا، فان أي مشاركة أو حضور في هذا المؤتمر (مهما كان مستوى الحضور) وفي ظل الأوضاع والوقائع التي أشرنا إليها، تجعل المشاركين شركاء مع المحتل وتجعلهم مسئولين عن التغطية على كل جرائمه، كما تضعهم في موقع من يبارك مخططات المحتلين في تقسيم العراق ومحو هويته العربية، فكل الوقائع التاريخية تشهد بأن القوى الكردية الانفصالية تتحرك دائماً بإيعاز من الدول الاستعمارية وبالضد من مصالح العراق، بل بالضد من مصالح وإرادة الشعب الكردي المغلوب على أمره. فقد ارتبطت القيادات الكردية المتمردة دائماً بالقوى الاستعمارية ووظفت القضية الكردية لاستنزاف الدولة العراقية كما تحركت ضد مصالح هذه الدول غير المشروعة في العراق وفي الوطن العربي، فلم يكن من باب المصادفات أن تكون بدايات التمرد الكردي المسلح بقيادة البرزاني ورفض الحكم الذاتي تمت بالتزامن مع إعلان العراق قرار تأميم شركات النفط الأمريكية والبريطانية والفرنسية في ظل نظام حزب البعث العربي الاشتراكي وقيادة الرئيس الشهيد «صدام حسين«، كما ليس مصادفة أن يكون أول لقاء بين جلال الطالباني «رئيس العراق المحتل« و«شيمون بيريز« في باريس عام 1961م يتم فور تفجر الخلاف بين عبدالكريم قاسم وشركات النفط الغربية. ولتفادي أي سوء فيهم – مقصود أو غير مقصود – نرى من الواجب التأكيد هنا أن ما نورده من حقائق تتعلق بالزعامات الكردية الغارقة في وحل وعار التآمر على العراق ليس له علاقة بالموقف من الحقوق القومية والثقافية للأكراد التي نحترمها ونؤمن بها وفق منطلقاتنا القومية والإنسانية.
وهي كما يعرف الجميع حقوق كانت مصونا ومحترمة في العراق قبل الاحتلال، حيث كان العرب والأكراد يعيشان تاريخا مشتركا وعلاقات أخوة وتفاعل لا مثيل له في دول الجوار التي توجد بها أقليات كردية. وقد جسد العراق في عهد الرئيس الراحل «صدام حسين« حرصه على إعطاء الأكراد حقوقهم السياسية والثقافية، وأكد هذا الحرص في تثبيت هذه الحقوق في مواثيق دستورية، وفي سياسات تطبيقية، كما كان في بيان 11 مارس 1970م، وقانون الحكم الذاتي لسنة 1974م، الذي أوجد الحل الشامل والنهائي للمسألة الكردية، وكان يراد به طي كل صفحات التناحر التي غرستها القوى الاستعمارية والتوسعية – مثل بريطانيا وأمريكا وإيران والعدو الصهيوني – عبر عقود طويلة من الزمن. فكل ما حصل ويحصل في العراق وفي كل مدنه شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً، ليس في مصلحة شعبه عرباً وأكراداً. إذاً، لمصلحة من شارك السادة النواب العرب في هذا الاجتماع؟ وما هي القرارات التي خرجوا بها لصالح شعب العراق؟ سوى أنهم قدموا الدعم المجاني للمحتل وحكومته وأحزابه العميلة، فالحضور والمشاركة في نهاية المطاف موقف يعكس توجها سياسيا محددا، كما هي المقاطعة تمثل موقفا ينبع من شعور وطني وقومي ويحترم هيبة المؤسسة أو الجهة التي يمثلها. ففي ظل هذا الفهم لا يمكن لنا تصديق أي ادعاء بالحرص على مصلحة العراق أو دعم شعبه في مواجهة الاحتلال، ولا يمكن التعويل في هذا الأمر على مجرد كلمة ألقيت في هذه المناسبة وتضمنت بعض الإشارات التي لا تغني ولا تسمن من جوع، ونحن والعالم نعرف أن شعب العراق اليوم مسلوب الإرادة والحرية والسيادة، وأن هذا الشعب يقدم اليوم الكثير من أجل نيل حريته والانعتاق من الاحتلال وعملائه، كما نحن والعالم نعرف أن لهذا الشعب مقاومة باسلة تمثله ومتمسكة بحق التحرير، وهي ماضية في طريقها نحو النصر بإذن الله تعالى. وشعبنا البحريني وأبناء أمتنا العربية كافة وكل أحرار العالم يعرفون مصداقية هذه المقاومة، ويُقَدرون إرادتها وعزيمتها في مقابلة المحتلين، وكان يجب على من يَدعي أنه يمثل شعبه أن يحتكم إلى إرادة هذا الشعب، ويحتكم إلى مواقفه الوطنية والقومية الداعمة لكل القضايا القومية، سواء في العراق وفلسطين أو لبنان أو غيرها من الأقطار العربية، وكما يقول المثل «رب ضارة نافعة«، فلعل المشاركين قد تلقوا جيداً الرسالة الحقيقية من عقد هذا المؤتمر في هذا الوقت، وفي هذه «المحمية الصهيونية« فالمناقشات التي دارت، والمواقف والقرارات التي صدرت عن المؤتمر والتي قدمت دعمها للحكومة وللقوى الكردية العميلة، وما حمله البيان الختامي بشأن تحفظ وفد ما يسمى برلمان الحكومة العراقية العميلة على عروبة الجزر العربية الثلاث المحتلة من قبل إيران «طنب الكبرى، طنب الصغرى، أبوموسى« وعائدية هذه الجزر لدولة الإمارات العربية الشقيقة، وطبعاً هذا التحفظ لا أحد يجهل محركه ومصدره أو دوافعه. ومن يدري ربما غداً يطلب إلينا أو يفرض علينا المشاركة في مؤتمرات مماثلة، وتصدر عنها قرارات وبيانات تتحفظ على عروبة البحرين وعروبة شعبها، أو يجرى التحفظ فيها على عروبة أقطار الخليج العربي وانتمائها إلى محيطها القومي العربي، كما هو حاصل اليوم في العراق «الذي ينتمي الشعب العربي فيه إلى الأمة العربية وليس العراق كله« حسبما جاء في الدستور الذي صاغته الأيادي الصهيونية. ليس هذا الأمر مستبعداً أو مستغرباً في هذا الزمن الأمريكي الصهيوني – زمن المفاسد والمظالم – الذي لا مكان فيه لصوت الحق أو لقيم العدالة، فقد سقط الجميع في الهاوية السحيقة التي حفرتها الولايات المتحدة، ودفنت فيها كل الجثث الهامدة التي لا يليق بها غير هذه الحفر المظلمة.