بالأمس القريب فقد نادي العروبة وفقدت البحرين كلها أحد رجالاتها ورموزها الأفذاذ من رواد الفكر والثقافة والمعرفة، انه الأستاذ المربي الفاضل معلم الأجيال والأديب حسن جواد الجشي، الذي طوى شراعه وأبحر إلى الفردوس الأعلى ملبياً نداء وقضاء الخالق عز وجل الذي لا راد لقضائه. بعد أن قدم لوطنه وشعبه كل ما يليق به كإنسان حباه الله علماً وخلقاً، وكل ما يليق بعائلة الجشي الأفاضل من عطاء زاخر على مختلف الأصعدة الثقافية والفكرية والسياسية. وعرفاناً لهذا الرجل العظيم وتقديراً لعطائه وإنجازاته تسابق الكثير من أبناء الوطن النجباء في رثاء الأستاذ الراحل والكتابة عن مآثره كل من موقعه وموقع الأستاذ في قلبه، في محاولة صادقة لاستذكار وتغطية بعض جوانب سيرة وحياة هذا العَلم الشامخ، والاقتراب من شخصيته الفذة، وسبر غور فكره المستنير، والإشادة بمواقفه الرائدة. وقد كانت كل تلك الأقلام بقدر ما تسعفها القدرة والذاكرة، وبقدر ما تزخر به صفحات التاريخ من حقائق ومعطيات ناصعة وذكريات مضيئة، كانت تحاول اختراق الزمن للوقوف على شواخص عطاء هذا الإنسان الرائع ومنجزاته، التي كان «نادي العروبة« تحت قيادته وما يمثله من حضور ثقافي ووطني، تمثل بحق أحد تلك المنجزات، لذا كان القاسم المشترك لكل تلك الكتابات هو علاقة الأستاذ حسن الجشي بنادي العروبة والدور الذي لعبه في وجود هذا الصرح منذ أن كان حلماً يحاصره وهو لايزال طالباً على مقعد الدراسة، مروراً بآلام مخاض التأسيس الذي حول الحلم إلى واقع، وحين أصبح هذا النادي حقيقة شاخصة وإضافة نوعية في ساحة الوعي الوطني والاجتماعي، فلا عجب في ذلك، فكل تلك الأقلام التي أفصحت عن عرفانها للراحل كانت تستقرئ التاريخ وتستنطق الحقيقة التي تقول وتؤكد أن نادي العروبة لم يكن محطة عابرة في حياة الأستاذ حسن الجشي، ولم يكن النادي مجرد حلم حاصره، وعندما تحقق كان رد فعله هو ورفاقه أن يحاصروا هذا الحلم المتحقق حتى لا يتلاشى من بين أيديهم، كما لم يكن الأستاذ مجرد عضو عادي ينتمي إلى مؤسسة عادية، وأخيراً لم يكن حسن الجشي مجرد أحد الذين ساروا مع هذا «الركب الثقافي« لمواجهة حالة الفراغ المعرفي والفقر الثقافي التي كانت تسود المجتمع في تلك الفترة، فالعلاقة كانت فوق هذا وذاك هي علاقة حب من النوع «الخاص« و«المتميز« الذي يسمو فوق كل الأشياء، انها علاقة حياة وتلاحم تقارب أو تماثل «عشق المتصوفين«، كل الحقائق والوثائق تؤكد أن نادي العروبة استطاع أن يحتوي الأستاذ، أو قُل ان الأستاذ استطاع احتواء النادي – لا فرق – فقد كان النادي يسكن قلب ووجدان وعقل الأستاذ حسن، وكان هو المؤسس والباني والصانع للأحداث فيه، وقد قال يوماً شارحاً تلك العلاقة «إن نادي العروبة بالنسبة إليه هو الغذاء والكساء وهو البيت والعمل«، وقد خيل إليه فيما بعد أنه أحياناً كان يبالغ في «تقمص« هذا الدور في علاقته بالنادي، خاصة عندما يتخذ القرارات في إطار ما يوصف بالمزاج الفردي أو «الدكتاتورية« في أقصى الحالات، تماماً كما يتصرف الأب مع ابنه الوحيد ويبالغ في الاهتمام به عندما ينوب عنه في اتخاذ أخطر القرارات في حياته من منطلق الحرص عليه صونا لوجوده. وكان «رحمه الله« (يصف نفسه والمؤسسين للنادي بأنهم أشبه بالمقاتلين المعبئين في كل لحظة للدفاع عن هذا الوليد الغالي). من هنا نحن نقول ان جميع الأقلام الصادقة التي أسفرت عن مشاعرها تجاه الفقيد (نثراً وشعراً) انها مهما أخلصت وأبدعت في إظهار عرفانها ومهما اجتهدت في شرح ووصف علاقة الأستاذ بنادي العروبة فستظل (الأقلام) غير قادرة على بلوغ مساحة الضوء النابع من أعماق تلك العلاقة وطبيعتها، وستبقى هناك دائماً مسافات تفصلها عن الوصول إلى ذلك النبع الذي يفيض ويتدفق حباً وعشقاً لا نظير لهما في تفسير تلك العلاقة. من ذا الذي يعرف البدايات والخطوط الأولى التي نسجها الأستاذ حسن في علاقته بنادي العروبة؟ ومن ذا الذي يعرف الخطوط التالية التي جعلته يتحمل كل تلك المعاناة والمشاق الكثيرة مدفوعاً بالعمل والأمل لرؤية حلمه يتحول إلى واقع ومشروعه إلى إنجاز؟ منذا الذي يعرف كيف كان يرعى الأستاذ تلك «النبتة« الثقافية في ظل عتمة الأفكار والجوع الثقافي والحرمان المعرفي حتى أصبحت بعد ذلك إحدى أبرز الأشجار المثمرة والزاهية الألوان؟ خمسة عقود أو يزيد كانت شاهداً على احتضان نادي العروبة أفكار ومنطلقات الفقيد العزيز في مجالات الأدب والفكر والسياسة، وكانت قاعة النادي وما حفلت به من ندوات ومحاضرات وخطابات قد رسمت في تلك الفترة صورة من تاريخ البحرين الثقافي والسياسي والتربوي. في ذات الوقت الذي كانت تتشكل فيه صور أخرى من خلال كتاباته المتنوعة في الصحف والمجلات، وخاصة مجلة «صوت البحرين« التي كانت تعتبر من أهم وأبرز الصحف في فترة الخمسينيات، نظرا لما كانت تتميز به من اهتمام بالقضايا والأحداث على المستويين الوطني والقومي، ورفعها شعار مقارعة الاستعمار ومحاربة الطائفية، ومن المؤكد أن المشهد الوطني لا يمكن أن يكتمل من دون المرور بتلك الصور الكثيرة التي تعكس نضالات الفقيد وإسهاماته الوطنية في فترات ومراحل متعددة من تاريخ العمل السياسي في البلاد. لذلك، فإن الحديث أو الكتابة عن الأستاذ حسن الجشي وما خلفه من إرث حضاري والاهتمام به يعني في الواقع الاهتمام بذاكرة الوطن وحفظها من النسيان الذي بات اليوم للأسف يزحف على الكثير من الأشياء الجميلة والمضيئة ليدفنها في ظلمة حالكة تحرم الوطن والمواطن من نورها وإشعاعها. من المؤكد أنه لا يمكن لنا في هذه العجالة حصد كل عطاءات وإنجازات الأستاذ حسن جواد الجشي «رحمه الله وأسكنه فسيح جناته«، وكل ما نحاوله هنا هو التقاط بعض تلك الإضاءات المشرقة في حياته، التي كما قلنا كان نادي العروبة ــ ولا يزال ــ يجسد أحد أهم هذه الإضاءات التي اتقدت بفكر وعقل فقيد الوطن. لقد خدم الراحل الوطن في العديد من المجالات بتفانٍ وتضحيات نائياً بنفسه عن الأضواء والخطابات أو المزايدات، وحمل الشعارات أهدافاً في عقله، وجَسَد تطلعات الناس في ضميره، وكان حبه لوطنه ولشعبه ولنادي العروبة بصفة خاصة جعله يجود إبداعاً وعطاءً يقارع به الجهل والتخلف، ويحارب به الطائفية ويفضح دعاتها. في بعض الجلسات القليلة والقصيرة التي جمعتني بالأستاذ حسن – خاصة في فترة استعداداتنا لإصدار «مجلة العروبة« – حيث كنت أحرص على التواصل معه للحصول على توجيهاته ومشاركته معنا ببعض المقالات أو الترجمات للمجلة، في تلك الجلسات طالما سمعته يتحدث عن فلسفته ورؤيته «لنادي العروبة«. وكان أحد جوانب هذه الرؤية اعتقاده المطلق – في أن النادي مهما اعترضت طريقه من صعاب – واجبه ودوره أن يؤسس ديمومة ثقافية مستنيرة في مجالات الفكر والثقافة، وألا يقتصر دوره فقط على إقامة بعض الأنشطة والفعاليات الثقافية التقليدية مثل الندوات والمحاضرات التي تتم في القاعات المغلقة وتحضرها النخبة من دون أن يكون لها أثر عميق ومستمر في حياة الناس العاديين. والديمومة التي يتحدث عنها الأستاذ يعني بها كيف يمكن جعل أنظار وعقول المثقفين والمواطنين العاديين تشخص باتجاه وصوب نادي العروبة بشكل دائم، وأن تكون أنشطته المتنوعة بالحجم والقوة اللذين يتركان أثراً لا يُمحى من الذاكرة بمجرد خروج الناس من القاعة، وفي تصوره أن هذه الديمومة لا تتحقق إلا عندما تقترن أو تحمل سمات الإبداع والجدية والتجديد، وعندما تكون مؤهلة وقادرة على بناء قواعد صلبة وثابتة لثقافة وطنية تمتد بجذورها في أعماق تربتها القومية، بكل ما تحمله هذه الثقافة من رحابه وتسامح وانفتاح على الآخر، وبكل ما تستمده من قوة من تاريخها وتراثها الحضاري الفني. كان الأستاذ حسن «رحمه الله« يقول ان البحرين وعبر كل العصور كانت زاخرة بنهضة ثقافية وتنوع حضاري، استطاعا عبر الزمن حمايتها من الانعزال والانكماش على الذات، وباستمرار كانت هذه النهضة قادرة على تزويد المثقفين والمبدعين البحرينيين في شتى مجالاتهم بجرعات من الإبداع والتنوع والانفتاح، وكان رحمه الله حلمه أن يرى البحرين مشروعاً ثقافياً كبيراً لا يتكئ أو يتوقف عند حدود أو مكبلات المحلية والقطرية الخانقة، وكان دائماً يدعو إلى تحرير القلم وأصحاب القلم من كل الضغوط والأعباء والخوف والترهل. حقاً لقد أعطى الأستاذ حسن الجشي وأبدع حتى الممات، وواجبنا نحن أبناءه في نادي العروبة وغيرهم الوفاء لمبادئه ولقيمه الوطنية والقومية النبيلة. كل العزاء للوطن ولأسرتك الكريمة ولنادي العروبة ولكل شعب البحرين. إلى جنات الخلد يا أبا عواطف. إنا لله وإنا إليه راجعون.