في الأدبيات السياسية يعتبر البرلمان واحداً من سلطات ثلاث، تشريعية وتنفيذية وقضائية. وتؤكد الأدبيات الغربية المعاصرة، أن الشعب هو مصدر السلطات. وبما أن أعضاء البرلمان، هم ممثلو الشعب، فإن مهمتهم الأساسية هي الحرص على تأمين مصالحه والدفاع عن حقوقه، وصيانة ثوابته الوطنية والقومية.
غير أن الأمر مع البرلمانات العربية هو شيء آخر، فقد تزامن وجودها منذ البداية مع تصاعد سيرورة الكفاح الوطني لإنجاز الاستقلال عن الهيمنة الأجنبية. لكنها باستثناءات قليلة، لم تكن ضالعة بفعلها في هذه السيرورة. لقد جاءت، في الغالب، لمنح مشروعية للكيانات الوليدة. وهكذا كانت في تشكيلاتها استكمالا لهياكل الدولة القطرية وأجهزتها البيروقراطية، التي تم تشييدها بعد الحصول على صكوك الاستقلال، في ظل ضعف للتشكيلات الاجتماعية، وسيادة شبكة من العلاقات الطائفية والعشائرية والمناطقية والقبلية. وضمن هذا الواقع الاجتماعي المشوه، كان الفوز بالانتخاب في تلك البرلمانات، هو حاصل الاصطفافات التي يعكسها ذلك النسيج الاجتماعي. فكان من الطبيعي أن يضطلع أعضاء تلك البرلمانات، بصيانة وضمان التشكيلات التي أوصلتها إلى قبة المجالس النياية، بدلا عن العمل على حماية اللحمة الوطنية، وتعميق روح المواطنة.
ومع أن التعميم غير جائز، بشكل مطلق، فإننا نلاحظ تناقضا واضحا بين المهمات والأهداف التي من المفترض أن تضطلع بها المجالس البرلمانية العربية، وبين الممارسات المتحققة. فالمهمات والأهداف المعلنة هي في الغالب جميلة ونبيلة، ولكن الممارسات تبقى أسيرة لشبكة العلاقات الاجتماعية المتخلفة. وكان من نتائج ذلك أن بقيت هذه البرلمانات، طيلة الخمسين سنة المنصرمة، كسيحة وعاجزة في أحسن الأحوال، ورديفة لأنظمة القمع والاستبداد في أغلب الأوقات. وقد أدى ذلك في نهاية المطاف، بهذه البرلمانات إلى الوقوف بالضد من أهدافها ومبادئها المعلنة، وإلى الانقلاب بشكل دراماتيكي وسريع على قراراتها.
هذه المقدمة تقودنا إلى الاجتماع الأخير لاتحاد البرلمانات العربية، الذي عقد في مدينة أربيل، شمال العراق في الفترة من 11- 13 مارس 2008م، تحت مظلة الاحتلال الأمريكي للبلد الشقيق، وتسليما بأحد أهم إفرازات ذلك الاحتلال المتمثل في قيام الفدرالية، كمقدمة لازمة في مشروع تقسيم العراق، الذي صدر بحقه "قرار غير ملزم" من الكونجرس الأمريكي.
وإذا ما أمعنا في المرحلة التي تأسس فيها هذا الاتحاد، صار بإمكاننا التوصل إلى فهم التطورات اللاحقة التي حكمت موقفه طيلة تاريخه وبضمنها انعقاده الأخير في شمال العراق.
إن هناك علامات استفهام كبيرة ستطرح نفسها حول الظروف والطريقة التي انبثق عنها اتحاد البرلمانيين العرب. لقد انعقد أول اجتماع تأسيسي للاتحاد في أوضاع عربية بالغة التعقيد. كان ذلك في يونيو عام 1974م، بعد أقل من مضي ستة أشهر على ضبط وقف إطلاق النار على الجبهتين المصرية والسورية، إثر حرب أكتوبر عام 1973م. لقد شهدت تلك المرحلة الجولات المكوكية لمستشار الرئيس الأمريكي نيكسون لشؤون الأمن القومي ووزير خارجيته فيما بعد، هنري كيسنجر، ومن ثم توقيع اتفاقيتي فصل القوات المصرية والإسرائيلية على جبهة سيناء، وفصل آخر بين القوات السورية والإسرائيلية على جبهة الجولان.
لقد جاء تأسيس اتحاد البرلمانات العربية، في حقبة شهدت انتقالا استراتيجيا، في الفكر العربي الرسمي تجاه المشروع الصهيوني، من المقاومة المسلحة لهذا المشروع، إلى القبول بالاعتراف والصلح وتوقيع معاهدات السلام مع الكيان الغاصب. وكان هذا الانتقال قد فرض إعادة لصياغة خارطة التحالفات الدولية والإقليمية، فانتقل التحالف الإستراتيجي المصري، من الاتحاد السوفيتي السابق، إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وأصبح من المألوف الحديث عن امتلاك الإدارة الأمريكية لـ 99% من أوراق الحل للصراع العربي الصهيوني، وأن حرب أكتوبر هي آخر الحروب العربية. وتزامن ذلك مع رفع شعارات غير مألوفة في الإعلام العربي كإعطاء دفعة جديدة للحل، وكسر الحاجز النفسي، وهجوم السلام. وكانت نتائج الحرب التي يفترض فيها أن تقدم دعما اعتباريا للتضامن العربي، قد أدت إلى نشوب صراعات بين القيادات في جبهتي القتال، نتج عنها تباعد المسافات والخطوط بين أقطار المواجهة.
ولأن معظم البرلمانات العربية آنذاك، كانت تابعة للحكومات التي أنشأتها، وليست مستقلة بقراراتها وتوصياتها عنها، فقد اعتبر تشكيل الاتحاد خطوة على صعيد ربط الموقف السياسي الشعبي، تجاه الصراع العربي- الصهيوني بالموقف الرسمي. لقد أريد للبرلمانيين العرب، الذين يفترض فيهم أن يمثلوا صوت الشعب ونبض الأمة، أن يكونوا جزءا من الانتقال الإستراتيجي الذي كان يأخذ مكانه بقوة آنذاك تجاه تحرير فلسطين، والسياسات المعتمدة رسميا بحق المواجهة مع المشروع الصهيوني. والنتيجة أن الرفض البرلماني لسياسات التفريط والتسليم جاء واهناً وباهتاً لدى البعض، ومتماهياً مع مشروع الانتقال الإستراتيجي بالقضية لدى البعض الآخر. وفي كل الأحوال كان التناقض واضحا بين الأهداف المعلنة، والتكتيكات التي يجري العمل بها على الصعيد العربي آنذاك.
نعود هنا إلى ما قدمنا به هذا الحديث، عن التناقض بين الأهداف الجميلة والنبيلة وبين الممارسات التي طبعت سلوك البرلمانيين العرب، فنقتبس فقرتين الأولى مستلة من مبادئ اتحاد البرلمانيين العرب، كما هي منصوص عليها في البيان الصادر عند تأسيس اتحادهم في يونيو عام 1974م. حيث أشار البيان التأسيسي إلى أن "الاتحاد البرلماني العربي منظمة برلمانية عربية تتألف من شعب تمثل المجالس البرلمانية العربية ومجالس الشورى العربية. تأسس نتيجة لجو التضامن والعمل العربي المشترك الذي عاشته الأمة العربية في تلك الفترة، والذي وفر مناخا مؤاتيا لنمو التعاون العربي عن طريق المؤسسات السياسية والنقابية والمهنية العربية".
في الفقرة الثانية من البيان التأسيسي لاتحاد البرلمانيين العرب، أكد البيان على أهمية تعزيز التضامن العربي، وأشار بوضوح إلى التحديات والمخاطر التي تواجهها الأمة العربية، ومنها مخاطر الاحتلالات. وأشار البرلمانيون العرب إلى أن هذه النقطة كانت "ولا تزال في رأس اهتماماتهم في جميع المجالس والمؤتمرات التي عقدها الاتحاد". وأكد النص أيضاً على أنه "انطلاقا من الظروف الدقيقة التي مرّ ويمر بها الوضع العربي، وفي ضوء المستجدات الدولية الراهنة، يواصل الاتحاد تأكيد أهمية التضامن العربي كسلاح فعال في التصدي للعدوان والاحتلال والتآمر، ويعمل باستمرار على تعزيزه وترسيخه. كذلك أرست مجالس الاتحاد ومؤتمراته الأسس التي ينبغي أن يقوم عليها التضامن العربي ووضعت خططا ملموسة لإسهام البرلمانيين العرب في تحقيقه وتوطيده".
عشية العدوان الأمريكي الغاشم على العراق الذي انتهى باحتلاله أشار البرلمانيون العرب في بيانهم الصادر بتاريخ 20/3/2003 إلى "أن الاتحاد البرلماني العربي يعلن بكل قوة إدانته المطلقة للحرب العدوانية الإجرامية ضد العراق الشقيق، ويؤكد تضامنه الكامل مع شعب العراق، ويدعو الحكومات العربية إلى إعلان رفضها لهذه الحرب وتضامنها مع العراق واتخاذ جميع الإجراءات التي من شأنها وقف الحرب المدمرة ضد البلد الشقيق والعمل على احترام وحدة العراق وسلامة أراضيه والحفاظ على سيادته".
هذه الصياغات والنصوص، إذا ما جرت مقاربتها بأداء هذا الاتحاد، وبخاصة المؤتمر الأخير الذي عقد تحت العلم الكردي في شمال العراق، تكشف عن تناقض واضح وصريح وصارخ، بين الإعلان عن التمسك بالثوابت الوطنية والقومية، والتماهي مع روح الشارع العربي، الذي عبرت عنه النصوص أعلاه، وبين الأمر الواقع، كما يمارس بالفعل. وليس له من تفسير سوى متابعة ذات النهج السابق، المتمثل في إلحاق الموقف الشعبي العربي بالموقف الرسمي، لإضفاء الشرعية عليه، وليكون جزءا مكملا له.
أين يكمن هذا التناقض، وما هي تعابيره، وكيف تتم معالجته…؟ وأسئلة أخرى ذات علاقة ستكون موضوعنا للحديث القادم بإذن الله.