عبدالمالك سالمان: زخم جماهيري دفع بعبدالناصر إلى القبول الفوري بالوحدة..
في الثاني والعشرين من فبراير سنة 1958 تحققت أول وحدة عربية في العصر الحديث بين مصر وسوريا واستبشرت الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج خيرا بهذا الحدث الكبير والزخم الذي رافق إعلان الوحدة وكان بمثابة زلزال في الوجدان الجماهيري والتاريخ العربي المعاصر. نقولها وبكل صراحة ان الوحدة العربية كانت ومازالت حلما يدغدغ عواطف الجماهير العربية ويراود عقول الشباب المفعم بالحيوية والآمال الجميلة، والوحدة مازالت هدفا استراتيجيا في تفكير العديد من التجمعات السياسية بالوطن العربي.. فمتى تتحقق؟ وإذا تحققت.. فهل يكتب لها النجاح والديمومة؟ هذه اسئلة هامة وملحة تحتاج إلى أجوبة.
وعلى الطرف الآخر وهو النقيض.. هناك معسكر رافض لقيام أي وحدة أو تقارب بين قطرين عربيين أي انه معادٍ لهذه الوحدة ويغذي توجهات السياسة الدولية في المنطقة كمنطقة صراع بين العرب وإسرائيل لايجب أن يميل فيه ميزان القوى لصالح الأمة العربية بالإضافة إلى أنها تعتبر عصب الشريان الاقتصادي العالمي لاحتواء بلدان المنطقة على الثروة النفطية.. لذا عملت هذه القوى المعادية للوحدة على إحباط أي أمل في التقارب بين قطر عربي وآخر وأفشلت تجارب وحدوية أو شبه وحدوية حيث إننا نؤمن بوجود الشيء خير من عدمه كالوحدة التي حصلت بين مصر وسوريا والعراق وبين مصر والسودان وكالتقارب الذي حصل بين أقطار المغرب العربي أو التوجه الخليجي في صيغة مجلس التعاون الخليجي. مرور 50 عاما حول هذا الموضوع وبمناسبة مرور 50 عاما على أول وحدة في التاريخ العربي الحديث، اقام التجمع القومي الديمقراطي ندوة تحدث فيها الأستاذ عبدالمالك سالمان رئيس قسم الدراسات في «أخبار الخليج« سلط الضوء على وحدة مصر وسوريا عام 1958والمشاعر الفياضة التي دفعت الى تشكيل الوحدة بين البلدين والدور القيادي للرئيس جمال عبدالناصر. كما تناول الظروف داخل سوريا التي عملت على تعجيل المطالبة بالوحدة لدرجة بلغت أن قدم ضباط من سوريا على متن طائرة إلى القاهرة يطلبون من الرئيس عبدالناصر الموافقة على الوحدة الفورية بين البلدين وتحت مسمى (الجمهورية العربية المتحدة) حيث سرت إشاعة حينها تقول إن القيادة السورية هي ضد الوحدة.. وكيف فشلت الوحدة والملابسات التي جرت في هذا الشأن وما هي أهم الدروس التي يمكن الخروج بها؟ استهل عبدالمالك سالمان الندوة بالقول إن تجربة عام 1958 لم تكن تجربة عابرة وإنما هي تجربة تستحق منا التعمق والدراسة والتمحيص واستخلاص الدروس والعبر ونقل الحقائق والمعرفة عنها للأجيال الحالية والقادمة، وهي تجربة تاريخية بحق كونها جاءت بضغط جماهيري سوري فما كان بمقدور الرئيس جمال عبدالناصر الرفض وهو زعيم قومي حقق انتصارات في السويس عام 1956 وأعرب عن استعداده لإرسال وحدات من الجيش المصري إلى سوريا كونها معرضة لتهديد من إحدى دول الجوار والاستعداد لحمايتها من العدوان الخارجي سواء القادم من إسرائيل أوحلفائها الدول الغربية. مشاعر متناقضة وتابع القول ان الوحدة هيمنت على المشاعر العربية والأجنبية.. المشاعر العربية بالدعم الجماهيري مقابل مشاعر العداء من الأنظمة العربية والدول الكبرى حيث مثل إعلان الجمهورية العربية المتحدة هزة في التفكير الاستراتيجي الغربي وخاصة بعد قيام ثورة 23 يوليو ونجاحها في تحقيق أهدافها في التحرر من الاستعمار وقيوده وبدء مرحلة الإصلاحات السياسية والاقتصادية وبناء الجيش المصري والإصلاح الزراعي وبناء السد العالي ونجاح التأميم متوازيا ذلك مع بداية استقلال بعض الدول العربية مثل سوريا ولبنان وظهور حركات التحرر في المغرب العربي للتحرر من المستعمر الفرنسي وخاصة في الجزائر. وأضاف عبدالمالك سالمان هذا عدا أن الوحدة بين بلدين قد تمهد لقيام دولة الوحدة تحت راية أمة واحدة من المحيط إلى الخليج مشيرا إلى ان تجربة 1958 جاءت بعد ظهور تباشير التحرر من الاستعمار وطرده من بعض الدول العربية. وقال موضحا أكثر: معنى ذلك أن أي وحدة بين قطرين عربيين أو اكثر في فهم ونهج التفكير الغربي هو تهديد مباشر للمصالح الاحنبية في المنطقة وهي في الوقت ذاته تقوي من أواصر العلاقات والوشائج التاريخية القائمة بين شعب عربي وآخر في عالم يتحدث بنفس اللغة وفي ظل حدود جغرافية أوجدها المستعمر، ومفهوم الوحدة في هذا الشأن يعني في حد ذاته رفض حالة الانقسام والضعف في الجسم العربي وهي في الوقت ذاته دعوة الى نهضة سياسية واقتصادية واجتماعية بين أقطار الوطن العربي. وتابع في هذا شان لا يمكننا إغفال الارتباط الجدلي بين مفهوم الوحدة وتحرير فلسطين من الكيان الغاصب منوها بإيمان القادة السياسيين بوجود جدلية في ربط الوحدة العربية بتحرير فلسطين وعودتها إلى اهلها الشرعيين والعكس صحيح بل يضاف إلى رهن تحقيق الوحدة في الوقت الراهن بتحرير العراق من القوات الأجنبية وعودته قطرا عربيا موحدا وإلا تظل وحدة ناقصة.
حلف بغداد كما تطرق إلى الظروف السياسية السائدة في مرحلة الخمسينيات منها ظهور حلف بغداد ودخول العراق في حلف عسكري فيه مع تركيا والباكستان وبريطانيا ومحاولة ضم سوريا بالإضافة إلى توجهات الرئيس كميل شمعون في لبنان وما آل إليه وضع الشعب الفلسطيني وطرده من أراضيه إلى الدول العربية المجاورة عام .1948 وقال لقد تزامنت الدعوة إلى الوحدة بين مصر وسوريا بوجود حكم عسكري ذي ميول وطنية وقومية في سوريا بقيادة الرئيس شكري القوتلي منيطا اللثام عن الهوية الفكرية للقيادة السورية في ذلك الوقت كانت مزيجا من البعثيين والشيوعيين والقوميين والمستقلين. وتابع رئيس قسم الدراسات في «أخبار الخليج« أن الشعارات التي كانت ترددها الجماهير السورية في تلك اللحظة التاريخية منها على سبيل المثال (الوحدة باكر باكر.. مع الثائر عبدالناصر) كانت دافعا عارما للقيادة السورية في المطالبة بالوحدة مع مصر حيث حضر عدد من الضباط السوريين متن طائرة خاصة واستقبلهم الرئيس جمال عبدالناصر وعرضوا عليه مشروع الوحدة فلم يكن لعبدالناصر بدا في تأجيلها بل قبولها خوفا من أن ينقلب حماس الجماهير إلى صورة عكسية، كما فسر عبد المالك أن عبدالناصر ليس راغبا في دخول قوى أجنبية سواء كانت أمريكية او روسية إلى المنطقة، واكد أهمية ان يكون للوحدة إعداد مسبق وألا تكون التجربة متسرعة ولا تصمد أمام اية تحديات تواجهها بعد انطلاقتها إلا انه كان مضطرا للإذعان إلى مطلب الجماهير الوحدوي. مذكرات البغدادي وأستند المتحدث ضمن عرضه لذلك المشهد السياسي قبيل قيام الوحدة مما كتبه عبداللطيف البغدادي وهو من القادة المشاركين لجمال عبدالناصر في ثورة 1952 يقول: إنه لمن الصحيح كان عبدالناصر معارضا لقيام وحدة اندماجية بين مصر وسوريا بهذه الصورة وهذه السرعة إلا ان المسئولين السوريين قالوا له: «أنت زعيم الوحدة.. وإذا رفضتها فماذا تقول عنك الجماهير«. فاضطر عبدالناصر للموافقة بشروط أهمها ان تحل الأحزاب في البلدين على غرار ثورة 23 يوليو وأن تكون الأمور على غرار الاتحاد القومي آنذاك وهنا تكمن المشكلة حيث إن الساحة السورية تعج بالأحزاب القوية كحزب البعث العربي الاشتراكي والحزب الشيوعي السوري وهي دولة قائمة على تعددية حزبية وهذه الأحزاب ممثلة ولها تواجد قوي في الجيش السوري مقابل أن الجيش المصري جيش قوي وغير مؤدلج حزبيا، ومن هنا جاءت مشكلة تحويل الجيش السوري إلى جيش محترف ولابد من إبعاد الضباط الكبار المتحزبين، ومن الطبيعي أن لا يرتاح الضباط الكبار من هذا الشرط وبدا على هذا الوتر التململ وبدا ان كل تنظيم يقدم قائمة الضباط لتنظيم حزب آخر مثلما ذكره عبدالحميد السراج في مذكراته حيث كان مديرا للمخابرات. هذا المشهد وكيفية التعامل معه كان مثل المسمار الذي دق في نعش وحدة 1958 مما أدى إلى إفشالها وإجهاض التجربة التي استمرت ثلاث سنوات إي إلى عام .1961 وواصل القول: الوحدة انتهت بالانفصال بين مصر وسوريا ولم تنبعث وحدة أخرى بنفس الروح والقوة، فما هي الصيغة المثلى للوحدة العربية؟ وأوضح عبدالمالك سالمان تصوراته في هذا الشأن قائلا: أي مشروع وحدوي يجب أن يأخذ في الاعتبار تطلعات الأنظمة والشعوب وهذا لا يتحقق إلا من خلال صيغة كونفدرالية لأقطار الوطن العربي، أي وحدة الأقطار العربية والالتزام بسياسة موحدة وتكامل اقتصادي ومشاركة في الثروة والمياه والنفط غيرها لخير الأمة جمعاء مشيدا بالتجربة الأوروبية في هذا الخصوص والتوجه الوحدوي الذي تخطط له بحيث احتفظت الدول بقوتها واستقلاليتها مثل فرنسا وإيطاليا وألمانيا.
وحدة المواءمة وكشف عن المزيد من التفصيل في معنى الوحدة العربية بهذا المعنى انها وحدة المواءمة بين الأهداف القطرية والأهداف القومية.. كما أشار الى ان المشكلة لا تكمن في الوحدة وصيغتها بقدر المشكلة في رؤية القيادات العربية للوحدة فكل قطر يريد أن يقود الأقطار الأخرى والوحدة بهذا المعنى والتي نسعى إليها لابد أن ترسي قواعد الديمقراطية من خلال دعم مؤسسات العمل المدني والأهلي وبناء علاقة جيدة بين الحكم والجماهير.. وفي هذا الشأن أكد أهمية الابتعاد عن أفكار الحلم بالقائد التاريخي المخلص ذي الشخصية الكارزمية والشخصية الاسطورية التي لا تنتقد وليس لها شبيه والاهتمام بنهج بناء المؤسسات الشعبية والدستورية والمستقرة مع أهمية ان ينفتح الفكر القومي على الفكر الإنساني والتفاعل مع الثقافات وبما يغني التجربة العربية بملامحها الإنسانية. وتناول في آخر المحاضرة ما بعد مرحلة عبدالناصر القائد الذي شارك في الوحدة عاصرها شمعة وهاجة وعاصرها تنطفئ، وقال إنه لطالما أن فكرة الوحدة حية وأهدافها إنسانية فحتى لو فشلت التجربة لا يجب أن يتسرب اليأس إلى نفوسنا فلنبق على هذه الروح وهاجة في أعماقنا ونربي أجيالنا وأولادنا على حب الأمة ووحدتها القومية.. ودعا إلى العمل على رفع الوعي بأهمية الوحدة وإبقائها في الأفق السياسي والمطلبي والجماهيري لان أي يأس يتسرب في هذا الشأن ومعاكس لحركة التاريخ وضد إرادة الأمة العربية. تعقيبات كما عقب كل من رسول الجشي الامين العام للتجمع القومي الديمقراطي على موضوع وحدة مصر وسوريا بالقول إن هذه الذكرى لم تلاق هذه المناسبة والتجربة حقها من التقييم فبقدر كونها حركة توحيد هي أيضا تجربة تعرضت للانفصال أي بمعنى أنه من المهم جدا أن نعرف الدروس والعبر من هذه التجربة والأخطاء التي صاحبت التجربة وأدت الى فشلها مشيرا إلى ان حركة الانفصال كان لها آثار كبيرة على الواقع العربي، ولو كتب لوحدة 1958 النجاح والديمومة لما كان حال الحرب على هذا الوضع البائس لدرجة وصلت أن تقوم قوات أجنبية باحتلال العراق والعمل على تجزيئه وتفتيته. وقال ان تجربة مجلس التعاون لم تخطو خطوة جادة في طريق الوحدة الخليجية مع العلم أن العديد من المواطنين كان يتطلع إلى نجاح التجربة الخليجية ولكن الذي حصل انها مازالت تراوح مكانها. كما ذكر رئيس تحرير جريدة «النبأ« التي سوف تصدر قريبا في البحرين في مشاركة منه على موضوع الندوة بالقول إذا كان المشروع الصهيوني قد جاء لتفتيت الوحدة العربية فها نحن نعيش الآن مرحلة تجزئة المجزأ وتفتيت المفتت والنخبة مازالت تتحدث عن الوحدة وتساءل: فأين دور الجماهير؟ فيما عقب جمال السلمان بتعقيب أوضح فيه أن حزب البعث بقي وفيا لمبدأ الوحدة العربية بدليل أنه أخذ قرارا في المؤتمر القومي الذي تلا الانفصال ألزم كلا من صلاح الدين البيطار وأكرم الحوراني بشجب الانفصال الذي وقع للوحدة عام .1961
نشر في :جريدة أخبار الخليج