عدد من الأصدقاء أبدوا موقفا يمكن وصفه بالسلبي من روح المقالة السابقة التي نشرت بـ"الوطن" تحت عنوان: "غزة تحت الحصار والموقف العربي مؤجل حتى إشعار آخر". سر الموقف من المقالة إن الإخوة كانوا يتوقعون حديثا بصوت عال، ساخط وتعبوي وتحريضي ينسجم مع جسامة الحدث، وحجم معاناة أهلنا في غزة الذين أصبحوا يعيشون تحت القصف والحصار الإسرائيليين, كان موقفي من التنبيه الأول لا مباليا وربما متجاهلا، فليس من المألوف أن نكتب ما يوافق آراء الجميع ورغباتهم وأهواءهم، وفي النهاية فإن الكتابة هي موضوع اجتهاد ورأي. لكن تكرر هذه الملاحظة قد جعلني أعيد القراءة فيما كتبت. ووجدت أن المقال في جملته كان حديثا تحليليا، باستثناء السطور الأخيرة، وأن ذلك مجانب لطبيعة المقالات التي كنت أكتبها أثناء الانتفاضتين الفلسطينيتين: انتفاضة أطفال الحجارة وانتفاضة الأقصى. كانت العبارات أثناء الانتفاضتين متفائلة وواثقة، حاملة كبرياءً وعنفواناً يليق بالمواقف البطولية لشعبنا الفلسطيني. وكانت بطبيعة ما كان يجري تعبوية وتحريضية أحيانا، وفي أحيان أخر تمتزج بالتحليل، بهدف واضح ومحدد هو نصرة الكفاح الفلسطيني. وكان ذلك منسجما مع ما هو متجذر في النفس من تفاؤل وحماس.
كان الوعي بأن الانتفاضة الفلسطينية هي الطريق الصحيح لصياغة فجر جديد يتحقق فيه انعتاق الأمة بأسرها من الضيم والظلم الذي لحق بها جراء العدوان هو أهم عناصر التحريض. وكان هناك إدراك في الحالتين: انتفاضة أطفال الحجارة وانتفاضة الأقصى أن الانتفاضة هي هبة غضب شعبي، وأنها بطبيعة الأشياء تهدف لتحقيق مطلب أو عدد من المطالب، يأتي في مقدمتها طرد المحتل وإنجاز الاستقلال.. وكان رفع الحصار وفتح المعابر وحماية المدنيين هي المقدمات لتحقيق المطالب الاستراتيجية للشعب الفلسطيني.
للأسف في كلا الانتفاضتين، جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن. فقد جير السياسيون تضحيات الأطفال، لصالح العبث بالهدف الأكبر. وكانت سرعة التحرك السياسي لقيادة منظمة التحرير قد عكست خشية من عدم قدرة قادة الانتفاضة على المضي بها بثبات إلى الأمام. فأرادت استثمار حركتها، بأقصى سرعة، قبل أن تستكمل مسارها، وتحقق المخاض المطلوب. فكان الحصاد هو بيان استقلال باهت، صدر عن المجلس الوطني في دورته التاسعة عشرة التي عقدت بالجزائر في نوفمبر عام 1988. كان بيان استقلال لا تدعمه الحقائق المتواجدة على الأرض. وكان يمكن أن يكون مقدمة لعمل دؤوب واستراتيجية عملية تستثمر الممكنات الضخمة التي خلقتها انتفاضة أطفال الحجارة، وكان من المهم أن يستمر زخم الانتفاضة وحركتها حتى إنجاز هدف التحرير. لكن الأمور جرت بسرعة. عقد مؤتمر مدريد، وبدأت اجتماعات الفلسطينيين والصهاينة برعاية أمريكية، في واشنطن كانت عبارة عن حوار بين طرشان، وكانت مجمل الأوراق الفاعلة، والمواقف الدولية إلى جانب الخصم، بعد أن جرت التضحية بانتفاضة الأطفال، وتحول لهبها إلى رماد غير مؤثر على طاولة المتفاوضين. وقد أصبح واضحا غياب الاستراتيجية والتكتيك، كما أصبح واضحا انكماش هدف التحرير، وتقلصه إلى مجرد اتفاق برز لاحقا عام 1993، وعرف باتفاق غزة أريحا، أو اتفاقية أوسلو.
وكان الأمل، قويا في أن تصحح انتفاضة الأقصى المسار الفلسطيني، خاصة بعد أن تكشف للفلسطينيين وللعرب جميعا، أن الصهاينة قد اعتبروا اتفاق أوسلو مجرد فسحة يجري استثمارها لبناء المزيد من المستوطنات والمعازل، التي كان آخرها جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية. وعلى صعيد الموقف السياسي الفلسطيني، تواصل ركض لاهث، في مفاوضات مع الكيان الصهيوني، في محطات عدة، وتحت مسميات مختلفة شرم الشيخ، وواي ريفير، وكامب ديفيد، وتفاهمات تينيت، واقتراحات ميتشل… والقائمة طويلة. وفي كل تلك المحاولات وقف الوسيط الأمريكي بقوة إلى جانب حليفه الاستراتيجي، الكيان الصهيوني.
طرح الوسيط الأمريكي بقوة إصلاح السلطة الفلسطينية، والخيار الديموقراطي، على أمل أن يتمخض عن هذا الخيار قيام سلطة تبصم بالكامل على شروطه ومقترحاته. فجاءت النتائج مغايرة بالكامل لتوقعات الوسيط، وحليفه الكيان الصهيوني. برزت حركة حماس قوة قادرة على حصد أصوات الفلسطينيين، في قطاع غزة، وإلى حد مقبول بالضفة الغربية. وبناء على تلك النتائج، أوكل لها تشكيل الحكومة الفلسطينية. لكن الوسيط رأى في بروز حركة حماس اتجاها معاكسا لخياره الديموقراطي، لا ينسجم مع المقاييس والضوابط التي فصلها، والتي أراد منها التسليم بشروطه وتوجهاته ورؤاه لطبيعة الصراع الدائر بين العرب والصهاينة.
كانت النتيجة رفض خيار الشعب الفلسطيني، ومعاقبته بفرض الحصار عليه وتجويعه. وكانت المشكلة، كما بدت على السطح منطقية ومعقولة. فقد خاضت حماس الانتخابات بموجب البنود التي تضمنتها اتفاقية أوسلو. وكان منطق الرفض لاتفاقيات أوسلو يقتضي في أبسط أبجدياته رفض ما تمخض عنها، والاستمرار في الالتزام بالنهج المقاوم، أو التماهي مع مشاريع التسوية. وكان المفترض أن يكون التقدم من الشاطئ، وليس بالغطس مباشرة في عمق مياه البحر، والتعرض للموجات العالية والأعاصير. ولكن حماس اختارت أن تكون في قلب الموج العاتي، وأن تتقدم بعكس اتجاهه. فكان لا بد من الارتطام.
وهكذا بدا الصراع بين مركزي استقطاب. مركز في رام الله برئاسة السلطة التي أبرمت اتفاق أوسلو، وتنسجم حركتها مع بنود وشروط أوسلو، وتحظى بتأييد دولي وعربي، وتعتبرها الإدارة الأمريكية والصهاينة، طرفا يمكن التفاوض معه، ومركز آخر في غزة يطرح موقفا مقاوما، لكنه صار يغرق رويدا رويدا في شؤون الدولة ومقابلة متطلبات الغذاء اليومية للفلسطينيين بالضفة والقطاع. وحين احتدم الصراع بين المركزين، وبلغ حدا غير محتمل من قبلهما، استخدم فيه السلاح والتصفية الجسدية، أقدمت حماس على السيطرة على القطاع، وطردت أجهزة الأمن الفلسطينية التابعة للرئاسة.
أصبح لدينا الآن على أرض الواقع كيانين فلسطينيين، أحدهما في الضفة، وقد جاءت نتائج لقاء أنابوليس في صالحه. والآخر، في القطاع، وقد اعتبر من قبل الأمريكيين والصهاينة كيانا معاديا. وقد جاء الحصار الصهيوني الأخير لقطاع غزة، والواقع الفلسطيني يشهد انقساما عموديا وأفقيا حادا. فهناك موقف شعبي قوي يقف حول حركة حماس، وهناك موقف شعبي قوي آخر يقف خلف حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية. وما حدث في غزة، من كسر لجدار الحصار، لم يكن مطلبا أو هبة شعبية بهدف تحرير الأرض وإنجاز الاستقلال، بل كان تعبيرا عن ألم ومعاناة وغضب، هدفت إلى التقليل من الضرر، غايته رفع الظلم والحصار وفتح المعابر. وذلك يعني محدودية المطالب، وهي مطالب مشروعة دون شك، لكن عنصري الأمل والتفاؤل لا يتوفران فيها، وربما أدى غياب عنصري الأمل والتفاؤل، إلى غياب لغة التحريض والتعبئة والتحشيد في المقال السابق. وبالتأكيد كان للقصف الهمجي للطائرات الأمريكية في بعقوبة، والحصار المفروض على عدد من المدن العراقية، وقتل الأبرياء على الهوية إسقاطاته على لغة الخطاب.
لكي تبقى بوابات الأمل والتفاؤل مفتوحة، لا بد من مراجعة شاملة للقرار الفلسطيني، في رام الله وغزة معا. لا خيار عن العودة إلى الوحدة الفلسطينية على أساس الالتزام بالثوابت الوطنية، وصولا لتحقيق التحرير الكامل، وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة.
في هذا السياق، يجدر التذكير بأن الفلسطينيين حين قبلوا بمشروع الدولتين على أرض فلسطين التاريخية، منذ منتصف السبعينيات، قد اعتبروا ذلك برنامجا مرحليا، بهدف الضغط من أجل تطبيق جملة القرارات الدولية التي صدرت عن مجلس الأمن والمتعلقة بالشأن الفلسطيني، وفي مقدمتها قرار التقسيم الصادر عن مجلس الأمن الدولي في نوفمبر عام 1947، رقم 181، الذي قضى بتقسيم فلسطين مناصفة بين الفلسطينيين والصهاينة.
بموجب قرار التقسيم ليست لمصر حدود مباشرة مع الكيان الصهيوني، فالجهة الجنوبية، تخص دولة فلسطين التي اقترح مجلس الأمن الدولي قيامها. بمعنى أن كل الحدود مع مصر، هي بموجب القانون الدولي والشرعية الدولية أراض محتلة من قبل الكيان الغاصب، وينبغي أن تعود للفلسطينيين.
مرة أخرى، وحدة الفلسطينيين واتفاقهم على برنامج كفاحي، يشمل الضغط من أجل تطبيق كل القرارات الدولية المتعلقة بفلسطين، والتفاف العرب معهم في نضالهم، وعودة مفهوم التضامن العربي، والالتزام الصريح بالعهود والمواثيق العربية هي مفاتح بوابات التفاؤل والأمل، وهي التي تفضي إلى بروز لغة مختلفة، مجسدة واقعا من نوع آخر…
نشر في : التجديد العربي