قلْ لي، وموتُ العراقيينَ ما نضَبا
أستلهمُ الحُزنَ، أم أستلهمُ الغضَبا؟
أم أسألُ الدَّمَ مِلْءَ الأرض ِفي وطني
على الشوارعِ والجدرانِ ما كتبا
خَمسٌ مَضَينَ فهَل جَفتْ مَلابسهم
أم لم تزَلْ يا دَمَ الأحبابِ مُنسكبا؟
ولم تزَلْ كلُّ أثوابِ الصِّغارِ بها
شيءٌ يقطرُمِ الأردانِ مُنسرِبا؟
أكلُّ ما يَلعبُ الأطفالُ فيهِ دَمٌ
وفيهِ جرحٌ لِحَدِّ الآن ما قطبا؟
اللهَ يا دَمَ أهلي.. كيفَ أُنصِفهُ
مِن عَثرَتي بَعدَ أن أصبَحتُ مُغترِبا؟!
وكانَ بينَ شراييني وأورِدَتي
يَجري فأبقى به ِلِلفجرِ مُضطرِبا
وَكيفَ أجزي العراقيينَ عن زَمَن ٍ
كانوا بهِ للمَعالي صايةً وَعبا!*
وَغترَةً، وعقالاً.. كلما هزَجوا
ألقتْ جلالاً على أكتافهم عَجَبا!
أيامَ كنتُ بصَوبِ الكرخِ أرقبُهم
وهُم يَشعُّون في سُوح ِالوَغى شهُبا
والشعرُ يَهمي كسَيل ِالنارِمِن قلمي
تكادُ مِن وَقدِهِ الأوراقُ أن تثبا
كانُوا يُحيطونَ بي صَوتاً، وأحضُنُهُم
مَجامِراً.. أملأُ الدُّنيا بها لهبا
حتى إذا انتصَروا في أيِّ مَعرَكةٍ
وَسدتُ قلبي على أقدامِهم حدِبا!
***
اللهَ يا دَمَ أهلي.. كيفَ أُنصِفهُ
مِن عثرَتي بَعدَ أن أصبَحتُ مُغترِبا؟
أأكتفي يا بلادي أن أقولَ لهُم
وَهم يَموتون، أفديكم أخاً وأبا؟
أفديكمو وَلداً شلواً، وَوالدَةً
تدني لجثمانهِ الأثوابَ واللعبا
صَماءَ بكماءَ مِن رُعبٍ، وأعينها
وِسْعَ السماواتِ يَجري دَمعُها سُحُبا
أأنتخي للعراقيينَ مَحضَ فمٍ
يبكيهمو أنَّ عالي زَهوِهم ذهبا
وأنهم بَينَ مَذبوحٍ، وَمُحتجزٍ
وَهارِبٍ، وَطعينٍ عرضُهُ سلبا
أو لاجيءٍ في ديارِ الله مُحتسبٍ
أنْ لفَّ مِن حولهِ أطفالهُ الزُّغبا
وَفرَّ يحمِلُ للمَنفى مَصائِرَهم
مِن بَعدِما كلُّ شيءٍ عندَهم نهبا؟
أأنتخي للعراقيين مَحضَ فم ٍ
يبكيهمُ أنهم قد أصبَحوا عصَبا
وأنهم بعثِروا بعدَ الصَّفا شيعا ً
وأنهم صُنفوا بعدَ الوَفا رُتبا
مَجالساً، وَمِليشياتٍ، وأفدَحُها
مَذاهبٌ كلهم راحوا بهنَّ هبا
بَعضٌ يذَبحُ بَعضا ًلا أبا لكمو
وَقاتلوكم عليكم أصبَحوا رُقبا
هُم يَبذُرونَ الوَبا.. يَستمطِرونَ لهُ
دماءكم.. ثمَّ يَسقونَ الدِّماءَ وَبا
فيَقتلونَ بذا هذا، وذاكَ بذا
ويُصبحونَ هُمُ الأخيارَ والنجُبا
أولاءِ أنتم بني أُمِّي، بأيِّ فمٍ
أبكي لكُم والقوافي أصبَحَتْ تعبا؟
أفديكَ يا دَمَهم.. بيني وبَينهُمو
بَحرٌ من المَوتِ حتى الصَّوتُ فيهِ كبا
وأدَّعي، وأنا في الشام ِلي وطنٌ
أني غريبٌ، وهُم في أرضِهِم غرَبا!
***
أستمطِرُ الحُزنَ، أم أستمطِرُ الغضَبا
أم أترُكُ الأرضَ والجُدرانَ والترَبا
تحكي، كما حَدَّثتني، عن مَواجعِها
وكنتُ أُرهِفُ سَمعَ الرُّوحِ مُنتحِبا
قالتْ تأمَّلْ، فهذا اللونُ تعرِفهُ
يا ما مَلأتَ بهِ الأوراقَ والكتبا
لكنهُ الآنَ لا ذاكَ الكتبْتَ بهِ
تلكَ القصائدَ أيامَ العراقُ صَبا
فصالَ للمَجدِ كلِّ المَجدِ صَولتهُ
وكنتَ تأتي بذاكَ الدَّمِّ مُعتصِبا
يكادُ حَرفكَ مِما فيهِ مِن وَهجٍ
وكبرياءٍ يهزُّ الكونَ مُصطخِبا
وذلكَ الدَّمُ يَهمي مِن مَفاصِلهِ
ضَوءاً يُعانقُ وَجهَ اللهِ مُحتسبا
اليَوم يَنسابُ مَقهوراً، نوازِفهُ
تصيحُ بالناس كونوا مَرتعا ًخَصِبا
أسقيهِ كي تورِقوا في ليل ِمِحنتِكُم
لا هذهِ النارَ والأحجارَ والنصُبا
قالتْ لخمسةِ أعوام ٍ يلبدُني
هذا الدَّمُ المُرُّ، لا ألوي، ولا شحُبا
كأنهُ يَستغيثُ الكونَ أجمعهُ
لكي يعيدَ لهُ الزَّهوَ الذي ذهبا
***
يا ضَوءَ عيني العراقيِّين.. يا شُهُباً
يَبقى بها الليلُ، عُمرَ الليلِ، مُنشَعِبا
ما حاقَ يَوما ًبنجمٍ مِن مَجَرَّتها
إلا رماهُ بسهم ِالضَّوءِ فانثقبا!
لكنهُ الغدرُ، غَدرُ الأهلِ يا وطني
وهيَ الخيانةُ.. يَكفي الخائنينَ غبا
أنَّ المآسي التي رِيعَ العراقُ بها
ما حرَّكتْ منهمو رأسا ًولا ذ َنبا
فأوقدوا مَرَّةً أُخرى مَجامِرَها
ليُصبحوا مَرَّة ًأُخرى بها حَطبا!
وَيُصبحونَ وَرَبِّ البَيت.. تذبَحُهُم
هذي الرِّقابُ التي قد قطعَتْ إرَبا
هذي دماءٌ يَجلُّ اللهُ خالقها
عن أن يُرى وَجهُهُ عنهُنَّ مُحتجبا!
***
أما بَنو عمِّنا.. اللهُ يَحرُسهُم
فخَيرُهُم لم يَزَلْ بالصَّمتِ مُنتقبا
هُم أشعَلوا النار.. هُم كانوا مَواقِدَها
وَمِنهُم المَوتُ نحوَ الرَّافِدَينِ دَبى
تعاوَنوا كلهُم كي يَذبَحوا وَطنا ً
صُدورُ أبنائِه ِكانتْ لهم حُجُبا
تقوَّستْ حَولهُم أضلاعُنا زَرَداً
وَخيمَتْ فوقهُم أرواحُنا قبَبا
وكلُّ أولادِنا كانوا لمُقلتهم
جَفنا ً، فلو راوَدَتها نسمَة ٌوَثبا
فأجمَعوا أن يَفونا دَينَ نخوَتِنا
بأنْ غدَوا كلهُم في ذ َبحِنا سبَبا
مِن كلِّ بَيتٍ تعرَّى مُخفيا ًيدَهُ
نصلٌ لِيَطعَنَ طفلا ًفي العراق ِحَبا
وكلُّ بيتِ أُعيْرابٍ أسالَ لنا
سَهماً رَهيفاً بجَنبَيْ طفلةٍ نشِبا
بَلْ جَسدوا هُم لأمريكا خَواطِرَها
فنفذوا ما أحط ُّ المُجرمينَ أبى
تناهَبُوا ضِعفَ ما جَيشُ العدا نهَبا
وأرعَبوا ضِعفَ ما جيشُ العِدا رَعَبا
وَنحنُ نزعُمُ أنا أ ُمة ٌعرَبٌ
الحمْدُ للهِ كنا أ ُمة ًعرَبا!
لوأنَّ وَجْهَ الحصى يَبتلُّ مِن خَجَل ٍ
أعمامُنا لن ترى وَجها ًلهُم رَطِبا!
إلا دمشق.. وباسم ِالناس ِفي وطني
أقولُ أَدَّى بنو بَشار ما وَجبا
وَما يَزالون..ندري الحِملُ أبهَظهُم
فآثروا الصَّبرَ والأخلاقَ والأدَبا
وآثروا أن يَظلوا الأهلَ ما نكَصُوا
وأنْ يَكونوا لنا في عسرِنا نسبا!
الصاية: البُردة، وقد آثرتها لعراقيتها الصميمة
والعَبا: العباءة
* نقلا عن جريدة (الوحدة) الأردنية
أضف تعليق