مر أكثر من قرن على اتفاقية (( سايكس بيكو – 1916)) التي قسمت الأقطار العربية ورسمت حدودها الجغرافية والسياسية، جاعلة منها مجرد كيانات هشة ضعيفة تخدم مصالح وأهداف الاستعمارين البريطاني والفرنسي اللذين كانا خلف صدور هذه الاتفاقية دون مراعاة لرأي ومصالح شعوب هذه الأقطار و تطلعاتها إلى الحرية والاستقلال والسيادة، بعد ذلك جاء “وعد بلفور” المشؤوم في 1917 المولود من رحم تلك الاتفاقية والذي نص على إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وسرعان ما نفذت القوى الاستعمارية خطواتها الفعلية لإخضاع المنطقة العربية لتكريس نظام التجزئة والتبعية بزرع الكيان الصهيوني في فلسطين عام 1948، كحلقة متقدمة في مسلسل التآمر على الأمة.
منذ تلك الأعوام المشؤومة وإلى وقتنا الراهن تغيرت المنطقة العربية كثيراً وتغير معها العالم بأسره وتبدلت فيها موازين القوى، واجتاحتها الكثير من الزلازل والأعاصير السياسية والاجتماعية والأمنية وتفجرت في معظم الدول العربية صراعات وحروب بأوجه وأهداف مختلفة، وعانت من فتن داخلية وتدخلات خارجية متعددة؟؟ حدث كل ذلك بوحي من نظرية “الفوضى الأمريكية الصهيونية الهدامة” التي تستهدف تدمير المنطقة وتفكيك كياناتها، وقد بلغ هذا الاستهداف ذروته بغزو العراق واحتلاله عام 2003 وإسقاط نظامه الوطني، وفتح أبوابه أمام معاول الهدم والتدمير التي تكفلت بمهمة وأد مسيرته النهضوية والتنموية وإرجاعه إلى القرون الوسطى بإعادة تركيبه بلداً مقسماً طائفياً وعرقياً، حيث الجهل والتخلف وشيوع مظاهر الفساد والنهب، وكل أشكال المحاصصات الحزبية والطائفية والعرقية؟؟؟.
وهكذا تحول العراق من كونه البوابة التي تحمي الأمة وحارسها القوي المنيع – تحول – إلى بوابة تنفذ من خلالها كل الفتن الطائفية، وعوامل التخريب والإرهاب وأصبح الجسر الذي شيده الاحتلال لدفع الأقطار العربية نحو مسار “التطبيع” مع الكيان الصهيوني بكل ما يمثله من مخاطر على حاضر الأمة وهويتها العربية، وعلى وجودها ومستقبلها؟؟ وكان من الطبيعي والحال هذه، ومع خروج العراق من معادلة الصراع مع أعداء الأمة، أن تعاني الأقطار العربية من وهن ونكوص، وأن تواجه تهديدات كبرى تتوزع بين مخاطر التقسيم وتقويض وحدة كياناتها، ومحاولات ضرب ومحو هويتها القومية لصالح مخططات العدو الصهيوني، وبروز أطماع بعض القوى والدول الإقليمية مثل تركيا وإيران وتمدد نفوذهما داخل الأقطار العربية التي تعاني من الحروب والصراعات، ومن تكاثر التنظيمات الإرهابية والمليشيات الإجرامية التي عملت على تمزيق المجتمعات العربية اأسم الدين والمذهبية، بعد أن أيقنت هذه الدول وتأكد لها بأن الحروب الطائفية هي سلاح لا يقل تدميراً وفتكاً عن الأسلحة والجيوش العادية، فما يحصل في العراق وسوريا واليمن وليبيا نموذج صارخ على حجم انهيار الوقع العربي.
أن ما تمر به المنطقة العربية من ظروف صعبة وقاسية وما تشهده الأقطار العربية تحديداً من أزمات وتحديات هائلة ليس أقلها إعادة رسم خرائط هذه الدول جغرافياً وسياسياً، الأمر الذي يعودنا إلى مرحلة وظروف “سايكس بيكو” ونستحضر معها تلك الوقائع التي افرزت تجزئة الدول العربية، حيث تتواصل اليوم فصول المؤامرة الكبرى على أمتنا العربية لتقسيم المقسم وتجزئة المجزأ؟؟.
لقد شكل قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين قبل ما يزيد على سبعون عاماً، وكذلك احتلال العراق قبل ثمان عشر عاماً منعطفات مصيرية، ومحطات تغيير جذرية في الوطن العربي، وكل التطورات الدولية والمتغيرات الإقليمية والعربية التي حصلت في أعقاب هذين الحدثين المصيريين ” احتلال فلسطين والعراق” قد أحدثا اختلالاً في التوازن الاستراتيجي، مكن من تصاعد وتفرد السيطرة الأمريكية الصهيونية، إضافة إلى ما حصل من انحدار قومي وتمزق سياسي عربي غير مسبوق في تاريخ الأمة العربية، فقد عمل التحالف الأمريكي الصهيوني على توظيف حالة الضعف والتمزيق التي تعاني منها الدول العربية وعجزها عن مواجهة هذه الأوضاع الصعبة، لفرض عليها اتفاقيات” إدعان” و “استسلام” تكرس العدو الصهيوني قوة مهيمنة على المنطقة ورغم استمرار نزعة الحرب والعدوان و الإرهاب التي تشكل مرتكزات وجود هذا الكيان الغاصب.
مما يجعل الحديث عن السلام والتعايش مع هذا الكيان المحتل الذي يروج له البعض مجرد حديث “خرافة” وأضغاث أحلام؟؟؟.
إن المرحلة الراهنة التي تجتازها الأمة العربية يمكن اعتبارها المرحلة الأخطر، حيث يجري استكمال فصول المؤامرة الكبرى التي بدأت قبل عقود، عبر محاولات مستميته ومتسارعة لدمج الكيان الصهيوني في المنطقة ورسم واقع عربي واقليمي يضمن علاقات مع هذا الكيان وفق صيغ قانونية وسياسية يصعب الانفكاك منها؟؟ تحت عناوين مضللة من قبيل “السلام” و”التعايش” وقد تجاوزت اليوم محاولات ” التطبيع” مرحلة الترويج والتسويق إلى مرحلة التنفيذ العملي التي تجعل من هيمنة العدو الصهيوني واقعاً عسكرياً وأمنياً واقتصادياً تحت السقف الأمريكي؟؟؟، وهكذا يتحول ” الاقتصاد” الصهيوني محطة الضخ الاقتصادية الرئيسية في المنطقة تجارياً ومالياً وسياحياً وتكنولوجياً، وهو أحد الأهداف الرئيسية لكل خطوات “التطبيع” التي تقدم عليها بعض الدول العربية في الوقت الراهن، كما هو حاصل مع “البحرين” والإمارات وكذلك المغرب والسودان وغيرها من الدول العربية التي تمارس ذات التوجه من خلف الستار؟؟ وهكذا يتم تحويل جريمة اغتصاب فلسطين إلى “اتفاقات” لها صفة قانونية تحقق شرعية وجود هذا العدو في المنطقة بينما لازال الشعب العربي الفلسطيني يرزح تحت نير الاحتلال ويقدم التضحيات في سبيل تحرير ارضه المغتصبة، وإقامة دولته الحرة المستقلة، وهو ما يؤكد أن هذا الشعب عصى على الاخضاع والتطويع، رغم كل جرائم العدو التي تستمر بصور وأشكال متعددة، من عمليات قتل واغتيالات إلى هدم البيوت وتشريد أهلها، والمضي في توسيع المستوطنات، وسياسات تهويد القدس يجري كل ذلك وسط صمت عربي مريب، وتهافت مخجل نحو التطبيع مع هذا الكيان المحتل؟؟ فلم تعد فلسطين هي البوصلة عند الأنظمة العربية، ولم يعد اغتصابها وقتل شعبها يمثل قضية قومية وكارثة إنسانية تستحق العمل والتفكير من أجلها؟؟ بل لم تعد القدس المغتصبة والمحاصرة، القدس زهرة المدائن، مدينة الأنبياء، وبوابة السماء، مهبط الديانات، لقد هانت قدسيتها وتراجعت هي وكل فلسطين في سلم اهتمامات وحسابات الأنظمة العربية، وأغلقت دونها أبواب المقاومة والتحرير، في الوقت الذي تفتح فيه أبواب العواصم العربية مشرعة أمام جحافل الصهاينة. وهو ما يمثل قمة الاستفزاز والإهانة لمشاعر المواطنين الرافضين لسياسات التطبيع والتطويع للعدو.
إن التحديات الراهنة في الوضع العربي كبيرة وخطيرة، و من أجل مواجهتها مطلوب أولاً استيعاب معطيات المرحلة وما تحمله من تحولات كبيرة في المفاهيم والأفكار وفق منظور استراتيجي مختلف، كونها “المرحلة” تمثل منعطفاً تاريخياً، ومحطة يعاد فيها تشكيل المنطقة في ظل مشاريع الهيمنة الأمريكية الصهيونية واستقواء المشروع الصهيوني في قبال تراجع المشروع القومي العربي، ومحاولات تحويل التناقض الرئيسي مع الكيان الصهيوني إلى تناقض ثانوي واستبداله بتناقضات مدمرة كالفتنة المذهبية الطائفية، وهذا يستدعي منا فتح آفاق لتغيير واقعنا الراهن على المستويين الفكري والنضالي، وبعث الوعي القومي، الذي يحرر العقل والفكر ويقربنا من أهداف أمتنا القومية والاجتماعية، في أبعادها الديمقراطية والإنسانية والحضارية، فليس المطلوب أن نبقى اسرى للصدمات والنكسات، فحياة الشعوب أكبر من أي لحظة تاريخية، وإن الحقوق لا يجب التفريط فيها تحت وطأة الظروف الطارئة، لذلك لا يحب السكوت أو القبول بالأوضاع الراهنة حيث الاستبداد والفساد، والتبعية، وحيث القرارات والإجراءات التي تعطل قيم التعددية والديمقراطية وحرية الرأي، وذلك هذا أن كل التحديات والأزمات التي تعاني منها الأقطار العربية راهناً، لا يمكن التصدي لها والتغلب عليها دون وجود دولة وطنية جامعة أساسها المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات عابرة للطوائف والمذاهب، القادرة على جلب الاستقرار السياسي والاجتماعي ودولة محصنة ضد أي اختراقات أو اعتداءات خارجية أياً كان مصدرها، دولة تحترم خيارات شعوبها الوطنية وتستجيب لتطلعاتها في دعم قضايا أمتها العربية، وفي المقدمة منها قضية فلسطين، حيث تدرك الشعوب العربية بفطرتها أن أي تقارب “وسلام” مزعوم مع الصهاينة سوف لن يخرج الدول العربية من أزماتها، وأن سياسة المهادنة والاستسلام للعدو، لن تسترجع حقاً مسلوباً أو أرضاً مغتصبة، في هذا السياق سيكون من الضروري أن تتوجه القوى والأحزاب الوطنية والقومية في كل الساحات العربية، إلى وضع حد لحالة التشردم والتفكك السياسي عبر توحيد الرؤى والمواقف التي تعزز اللحمة الوطنية وتعلي المصلحة العليا للأقطار العربية، في إطار من الجبهات الوطنية والقومية التي تدعم الدولة المدنية الديمقراطية وتحقيق العدالة والمساواة ودولة القانون، والتأكيد على الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية وأن يكون في صلب برنامج هذه الجبهات استحضار واستنهاض دور الجماهير العربية لنصرة القضايا القومية في فلسطين والعراق ومواجهة كل الأزمات والصراعات المتعددة التي تعاني منها معظم الأقطار العربية، وذلك من خلال الحوار السلمي والديمقراطي القادر على فتح مسارات سياسية جادة وحقيقية تعالج كل الانسدادات والاحتقانات القائمة، من أجل عودة السلام والوئام إلى هذه الأقطار والعبور بها إلى بر الأمان.
فبعد كل ما جرى طوال عقود من الصراع مع العدو الصهيوني، وبعد كل هذه التضحيات التي قدمت والطاقات والثروات التي بذلت في سبيل استعادة حقوق الأمة لن يستطيع أحد إجبار الشعوب والجماهير العربية على التخلي عن عقولها وضمائرها ونسيان كل ما اقترفته أيدي الصهاينة القتلة المجرمين سواء في فلسطين أو في غيرها من الأقطار العربية لذلك يجب وقف كل محاولات تصفية القضية الفلسطينية والوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني وقواه المناضلة ودعم حقه في تحرير أرضه بكل السبل المتاحة، و التوقف عن إشاعة منطق اليأس والهزيمة المسؤول عن ضياع فلسطين وضياع كل الحقوق العربية.