في ظل التوجهات الرسمية في بعض الدول العربية نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني الغاصب لأرض فلسطين العزيزة والاتفاقات الأخيرة المخالفة للتوجهات الشعبية بشكلٍ كامل، فإن من أبرز التحديات والمخاطر التي تواجه المجتمع العربي كافة هو التوجه نحو التطبيع الثقافي والإعلامي والذي يعتبر مرتكزاً أساسياً في الاستراتيجية الصهيونية، وبنداً رئيسياً دائماً وهاجساً لدى المفاوضين الصهاينة وعرابيهم من الولايات المتحدة ودول الغرب الاستعماري. لكن هل أنهم يقصدون علاقات ثقافية طبيعية أو متكافئة كما قد يوحي المصطلح حتى لو تجاوزنا كل معارضتنا المبدئية عليه، إذ أن لدى الصهاينة منطلقاتهم الثقافية وتكوينهم الذي يمنعهم من التطبيع مع (الاغيار) كما يسمونهم في عقيدتهم حتى وهم يطالبوننا بالتطبيع معهم.
المقصود بالتطبيع الثقافي والهدف منه إذن هو فتح أبواب العقول والقلوب التي تحاصر هذا الكيان لكي تتمكن “إسرائيل” من اختراق محيطها ثقافياً ووجدانياً وتغيير مفاهيمه وقيمه. نحن نتحدث عن مشروع إلحاق ليس فقط فيما يتعلق بحالة العداء المتأصلة تجاه العدو الصهيوني، بل أن إزالة حالة العداء نفسها تتطلب هدم كل شيء عربي حتى لا تبقى ثمة عروبة ولا تبقى أصالة أو نهضة… فقط محيط من الخواء الثقافي لا يمكن أن يشكل يوماً خطراً على “إسرائيل”. فنحن نتحدث فعلياً هنا عن سرطان ثقافي لا يمكن أن يتعايش مع بيئته.
إننا كما نرى فإن جوهر التطبيع الثقافي هو إعادة تشكيل منظومة القيم والمفاهيم العربية صهيونياً، وهو ما يتطلب ضرب فكرة المقاومة من جهة، وفكرة العروبة من جهة أخرى.
وتأسيساً على ذلك فإن معنى التطبيع الثقافي كما يفهمه الكيان الصهيوني، هو مشروع الهيمنة الثقافية الصهيونية على الساحة العربية وفرض الرواية والرؤية الصهيونية على عقول العرب وقلوبهم وذلك يقتضي تذليل العقبات الثقافية ليتقبل الهيمنة الصهيونية والتواجد الصهيوني في فلسطين، أي التغلب على المقاومة، وإعادة تشكيل المنطقة ثقافياً كوعاء قادر على تعزيز عناصر قوة المشروع الصهيوني، أي التغلب على المقاومة والممانعة الثقافية العربية.
أما تحقيق هذين الهدفين الاستراتيجيين فيقتضي شطب أو تشويه وتخريب هوية المنطقة العربية والإسلامية، ونسف ثقافة أبناء المنطقة وتفكيكها، وهو المشروع الذي تشارك فيه الإمبريالية العالمية أيضاً من خلال وسائل الإعلام وبعضها عربي مع الأسف ومنظمات التمويل الأجنبي.
إن نظرة فاحصة لما تم عقده من اتفاقات مع الكيان الصهيوني يؤكد ذلك فقد نصت المادة الثالثة من اتفاقية كامب ديفيد الأولى وتحت عنوان العلاقات الثقافية على:
((يتفق الطرفان على أن التبادل الثقافي في كافة الميادين أمر مرغوب فيه على أن يدخلا في مفاوضات في أقرب وقت ممكن وفي موعد لا يتجاوز ستة أشهر بعد الانسحاب المرحلي بغية عقد اتفاق ثقافي)).
وقد نشرت الصحف المصرية آنذاك أن بيغن رئيس وزراء الكيان الصهيوني في زيارته لمصر في 1981 قد أعرب للسادات عن استيائه من استمرار الطلبة في مصر بدراسة كتب التاريخ التي تتحدث عن اغتصاب إسرائيل لفلسطين بل ومن تدريس آيات القرآن الكريم التي تندد باليهود.
كما نلاحظ أن اتفاقية وادي عربة مع الأردن قد نصت على “انطلاقاً من رغبة الطرفين في إزالة كافة حالات التمييز التي تراكمت عبر فترات الصراع فإنهما يعترفان بضرورة التبادل الثقافي والعلمي في كافة الحقوق ويتفقان على إقامة علاقات ثقافية طبيعية بينهما”
بل ونصت المادة الحادية عشرة على يسعى الطرفان إلى تعزيز التفاهم المتبادل فيما بينهما والتسامح القائم على ما لديهما من القيم «التاريخية» المشتركة، وبموجب ذلك فإنهما يتعهدان بما يلي:
أ – الامتناع عن القيام ببث الدعايات المعادية القائمة على التعصب والتمييز، واتخاذ كافة الإجراءات القانونية والإدارية الممكنة التي من شأنها منع انتشار مثل هذه الدعايات؛ وذلك من قِبَل أي تنظيم أو فرد موجود في المناطق التابعة لأي منهما.
ب – القيام بأسرع وقت ممكن بإلغاء كافة ما من شأنه الإشارة إلى الجوانب المعادية، وتلك التي تعكس التعصب والتمييز، والعبارات العدائية في نصوص «التشريعات» الخاصة بكل منهما.
حقيقةً نحن لا نعلم ما تضمنته الاتفاقات الأخيرة مع الصهاينة من بنود ونحن نرى التهافت في التنسيق في مختلف المجالات السياسية والثقافية والصحية والاقتصادية، وإن ذلك يحتاج أن نكون على وعي كامل لتحصين الوضع الشعبي الداخلي في مواجهة ما يجرى من مخططات لتيسير تقبل التواجد الصهيوني في أرضنا واقتصادنا وحياتنا بشكل كامل.