د / يوسف مكي
يصادف الخامس عشر من هذا الشهر مرور خمسة وستين عاماً على اغتصاب فلسطين، وإعلان الصهاينة قيام كيانهم الغاصب . والنكبة هي النتيجة الطبيعية لفشل الجيوش العربية، في هزيمة العصابات الصهيونية، بسبب غياب مستلزمات المواجهة، وفي مقدمها التنسيق بين القيادات العسكرية . فقد أعلن العرب الحرب على “إسرائيل” بعد رفضهم قرار التقسيم، الصادر عن الأمم المتحدة، رقم 188 في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني ،1947 الذي قضى بتقسيم فلسطين، مناصفة بين اليهود والعرب، ووضع مدينة القدس تحت إشراف دولي .
استند الرفض العربي لقرار التقسيم، إلى أسباب قومية وسياسية وديموغرافية . فقرار التقسيم هو استكمال لوعد بلفور عام 1917م، وبموجبه وعد اليهود بإقامة وطن قومي لهم على أرض فلسطين، بتجاهل مطلق لحقوق السكان الأصليين . وتزامن هذا الوعد مع اتفاقية سايكس -بيكو التي قسمت مشرق الوطن العربي، ووضعته تحت هيمنة بريطانيا وفرنسا . وهذا المشروع في حقيقته استكمال لاتفاقية سايكس- بيكو التي هدفت إلى تفتيت المشرق العربي .
إن مشروع التقسيم، يفصل مشرق الوطن عن مغربه، ورفضه يأتي ضمن سياقات حركة التحرر الوطني، الرافضة للاستعمار الاستيطاني الأوروبي، ممثلاً في الصهاينة، على الأرض العربية . يضاف إلى ذلك، أن مشروع التقسيم، لم يضع في الاعتبار، أن العرب وجدوا على أرض فلسطين، في حلقات متصلة وممتدة، لما يربو على ألفي عام، وأن اليهود المدونة أسماؤهم في سجلات الانتداب البريطاني، كسكان لفلسطين، لحين انتهاء الانتداب لم يتجاوز تعدادهم السبعة في المائة من السكان، وهذا هو ظلم آخر بحق العرب . لقد وجدت القيادات العربية في قرار التقسيم ظلماً فادحاً، تجاه الحقوق الفلسطينية، وقررت الدخول في مواجهة عسكرية، مع المهاجرين اليهود بهدف استعادة فلسطين، وإيقاف المجازر التي يرتكبونها بحق المدنيين العزل .
إثر انتهاء الحرب، بهزيمة مروعة للجيوش العربية . سئل المفكر العربي، ساطع الحصري، عن أسباب هزيمة الجيوش العربية في مواجهة الصهاينة، مع أنها سبعة جيوش . فأجاب المفكر العربي الحصري، لقد هزموا لأنهم سبعة جيوش . بمعنى أن الجيوش العربية لم تكن موحدة . لقد دخلت الحرب بنية مناصرة الأشقاء، لكنها لم تمتلك رؤية استراتيجية موحدة، فكانت النتيجة، استيلاء الصهاينة على قرابة 80 في المئة من فلسطين التاريخية، بتجاوز لقرار التقسيم الذي أشرنا له، وتشريد قرابة سبعمئة ألف فلسطيني، صودرت بيوتهم وممتلكاتهم، وعاشوا بقية حياتهم في مخيمات أقيمت لهم في البلدان العربية المجاورة .
منذ ذلك التاريخ، برزت معادلة صارمة، خلاصتها أن العرب ينتصرون على أعدائهم، عندما يتحقق لهم حد مقبول من التكامل والتنسيق والإرادة، ويهزمون حين يستغرقون قوتهم في صراعات مع بعضهم بعضاً .
بعد ثماني سنوات، من تأسيس الكيان الغاصب، وتحديداً عام 1956م، حدث العدوان الثلاثي: البريطاني- الفرنسي – “الإسرائيلي” الغاشم، على مصر . وغمرت المنطقة العربية، حالة غير معهودة من النهوض . فتحت السعودية مطاراتها، لاستقبال الطائرات العسكرية والمدنية المصرية، التي جثمت فوق مطاراتها لحين انتهاء العدوان . وساندت سوريا، ووقف الشعب العربي بأسره مع أرض الكنانة . واستشهد الطيار السوري جول جمّال، وهو يدافع عن الكرامة العربية . وأسهمت حقائق إقليمية ودولية في دعم صمود شعب مصر، في مقدمتها استعار الحرب الباردة بين الشرق والغرب . وانتهت الحرب بالخيبة وفشل مشروع العدوان .
وفي الستينات من القرن المنصرم، عاش المشرق العربي انقسامات وصراعات سياسية كبيرة . وبدلاً من التصدي للعدو المشترك للأمة، استهلكت قوانا في صراعات داخلية، وتاهت بوصلتنا التي يفترض أن تتحسب لغدر العدو، الذي لم يتردد مطلقاً في الإفصاح عن نوازعه، حيث السطو آنذاك على مياه نهر الأردن وتحويلها إلى صحراء النقب . فكانت نكسة يونيو/ حزيران ،1967 التي نتج عنها تضخم “إسرائيل” إلى أكثر من ثلاث مرات من حجمها، بعد تمكنها من بلع شبه جزيرة سيناء، وقطاع غزة ومدينة القدس الشرقية والضفة الغربية وهضبة الجولان .
كان مؤتمر القمة العربي بالخرطوم، قد انتهى ببرنامج سياسي وعسكري لإزالة آثار عدوان يونيو/ حزيران تعهدت دول النفط، بتقديم مبالغ سخية، إلى أن تتمكن الأقطار العربية، من استرجاع أراضيها . ورغم مرارة النكسة، فإن قرارات قمة الخرطوم، التي حملت لاءات ثلاث: لا مفاوضات ولا صلح ولا اعتراف، قد جعلت الموقف السياسي العربي، متماسكاً ومؤثراً، مؤكدة مقولة أن ما أخذ بالقوة لا يسترجع بغير القوة .
وتكرر الموقف التضامني في محطات أخرى من الصراع مع الصهاينة، مؤكداً المعادلة التي أشرنا لها . ولعل الأبرز فيها، هو المزاوجة في حرب أكتوبر 1973م، بين السلاح والاقتصاد والسياسة، حيث استخدم النفط العربي لدعم المعركة . لقد قهر العرب من خلال رسم الاستراتيجية الصحيحة، خرافة الجيش “الإسرائيلي” الذي لا يقهر . لقد انتصر السلاح، وتأكدت عزيمة الجيوش العربية في استخدامه، بجرأة وشجاعة واستعداد للتضحية، لكن السياسة لم تكن قد تهيأت لاستثمار ذلك، فكان انتصار السلاح وفشل السياسة .
وبالنسبة إلى الصهاينة، فإن نوازعهم التوسعية والعدوانية، تجاه الأقطار العربية، لم تتوقف أبداً . توسعت أذرع العدوان لتطال بلدانا عربية جديدة، شملت تونس والعراق والسودان . لم تحل اتفاقيات كامب ديفيد دون غزو بيروت . وحين وقع الرئيس عرفات، اتفاقية أوسلو عام ،1993 حسبت منظمة التحرير الفلسطينية أن مرحلة جديدة من السلام بالمنطقة في طريقها للانبثاق، لكن عرفات نفسه، انتهى به المطاف سجيناً في مقره الرئاسي برام الله، لينهي حياته مسموماً، على يد “الإسرائيليين” .
ويتمادى الصهاينة، مرة أخرى، في عدوانهم غير آبهين باتفاقيات وقف إطلاق النار، ومعظمها جرت بوساطة ورعاية دولية، وبقرارات أممية . فاعتداءاتهم على الضفة الغربية، يعجز هذا الحديث عن الإحاطة بتفاصيلها . وبالمثل هناك اعتداءات متكررة على قطاع غزة، أما لبنان فإن طائرات العدوان لا تتوقف يوماً عن التحليق فوق سمائه، خارقة مجاله الجوي، وضاربة بعرض الحائط كل الأعراف والمواثيق .
العدوان “الإسرائيلي” الأخير، على سوريا يأتي ضمن نهج عدواني مستمر، فهذا العدوان هو في كل الأحوال انتهاك خطر لسيادة دولة عربية . وما لم يتم التصدي لهذه العربدة، فإن الصهاينة سيواصلون اعتداءاتهم، غير آبهين بالمواثيق والأعراف الدولية وقرارات الأمم المتحدة . فليس من سبيل لوقف هذه العربدة، سوى موقف عربي شجاع لمواجهة العدوان . وقديماً قال أهلنا في مأثور ما قالوا “ما حك جلدك مثل ظفرك” .