هاني الريس
احتفلت في (5 مارس /آذار 2016) القوى التقدمية والشعبية في أنحاء البحرين، بالذكرى السنوية «الـ 51» لانتفاضة مارس العمالية، وتحاول كل هذه القوى في كل مناسبة جديدة لإحياء الذكرى، فتح صفحاتها باعتبارها تاريخا قائما وممتدا إلى الأزل، أو بوصفها ذاكرة تستحق «منا جميعا» بين حين وآخر استعادة شريط أحداثها، واكتساب الخبرات النضالية المطلبية السلمية المشروعة، التي أنجزت من خلالها، بعيدًا عن التورط في عمليات العنف والتخريب وإثارة النعرات الطائفية والمذهبية وانفجار الأحقاد ونوافير الدم وحروب التعبئة والشعارات داخل المجتمع، وخاصة في دورها المميز في تقديم التضحيات الكبيرة وسقوط كواكب الشهداء الأبرار، دفاعاً عن السيادة الوطنية والاستقلال والديمقراطية والحرية والتقدم والازدهار.
ودفاعا عن هذه الذاكرة، وعن الحق المشروع في مطلب الديمقراطية والحرية والسلم الأهلي وحقوق الأنسان، يمكن أن نستعرض جزءاً من تفاصيل الحقيقة التاريخية لهذه الانتفاضة، وقيمتها النضالية والمعرفية، لكي تستفيد من عبرها ودروسها الأجيال الحاضرة واللاحقة.
على امتداد عدة أسابيع (في العام 1965) كانت غالبية المدن والقرى والمناطق البحرينية مسرحًا للاحتجاجات المطلبية الشعبية، على خلفية قيام شركة نفط البحرين المحدودة، وهي شركة مملوكة بالكامل لمؤسسة تجارية أميركية عملاقة، بفصل أعداد كبيرة من العمال البحرينيين، بلغت قرابة 450 موظفًا دفعة واحدة من بين نحو 1500 عامل قررت الشركة الاستغناء عن خدماتهم، واستبدالهم بأيد عاملة رخيصة أجنبية. وكانت أجهزة الأمن التابعة لقوات الحماية البريطانية تواجه الاحتجاجات بالرصاص الحي والمطاطي وحملات الاعتقال التعسفي، وتحصد أرواح المتظاهرين بكل شراسة، وكان قمعها واستبدادها فاق كل ما هو معقول حيث تساقط العديد من الشهداء والجرحى والمصابين واحداً تلو الآخر.
في كل الأحوال كانت أدوات الردع المتعطشة لنزف الدماء وخنق الحريات، مستمرة وقائمة ضد الأصوات المسالمة، التي طالبت بوقف التعسف والقمع وعودة العمال المفصولين إلى أعمالهم، حتى تمكنت من القضاء عليهم.
كانت «يوميات انتفاضة مارس» وبياناتها وشعاراتها المطلبية السلمية، التي ألهمت مشاعر الكثيرين من شعب البحرين، وأسعدت قلوب ملايين الأشخاص على امتداد الوطن العربي والعالم المطالبين بالحرية والسيادة الوطنية وطرد الغاصب والمستعمر. مادة يومية لوكالات الأنباء العربية والدولية على حد سواء، وكذلك الإذاعات ومصوري شبكات التلفزة العالمية، على رغم التعتيم الإعلامي، الذي فرضته فرضًا قوات الحماية البريطانية في البحرين، وكذلك المنظومة الإعلامية البريطانية والغربية، وعلى مدى الأسابيع الثلاثة الأولى من الانتفاضة كانت الجماهير المحتشدة في حرم مدرسة المنامة الثانوية والساحات والشوارع المجاورة، وفي كل مكان خرجت فيه تلك التظاهرات، تواجه الرصاص والسلاح وخيالة الجنود البريطانيين، وتهزمهم بالشجاعة النادرة والإرادة الحرة، وتنتصر عليهم بالحكمة والتعقل وعدم الانجرار لمواجهة العنف بالعنف، أو القيام بأعمال التخريب لأخذ الثأرات.
من المنامة والمحرق والحد حتى سترة والزلاق ومدينة العوالي والدراز وبني جمرة وجدحفص والسنابس والديه والبلاد القديم، كانت الآلة العسكرية البريطانية تجوب الشوارع وتسحق الناس وتعتقل الجماهير الغاضبة، وتحشرهم في المعتقلات وغياهب السجون، ولم تعفُ حتى عن النساء والشيوخ والأطفال. وإلى ما قبل هذه الانتفاضة الشعبية، كانت وسائل إعلام وصحف قوات الحماية البريطانية وأبواقها في كل مكان، تروج للدعاية الديمقراطية البريطانية «المدافعة زوراً» عن حقوق البؤساء والضعفاء والفقراء والمضطهدين في كل مكان في العالم، وتفرض نفسها كأداة رادعة للأنظمة الاستبدادية والدكتاتورية، لكن كل ما كشفت عنه مختلف، مسيرات القمع والعسف العام والاستبداد، ضد ارادة شعب البحرين في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والدفاع عن السيادة الوطنية والاستقلال التام ورفض التبعية الأجنبية، على امتداد عقود من الزمن في نطاق «الوصاية أو الحماية أو الانتداب أو الاستعمار البريطاني»… قل ما شئت من كل هذه التوصيفات، المتطابقة بالفعل مع تلك الحقبة المشؤومة، هو مجرد ادعاءات وأوهام الهدف الأساسي منها هو حرف الأنظار عن كل ما يحدث من انتهاكات فاضحة في مجالات حقوق الإنسان في البحرين.
توقفت شعلة الانتفاضة العمالية الشعبية في البحرين، بعد أن انتصر صوت الشعب الذي أجبر شركة نفط البحرين (بابكو) على قبول عودة العمال المفصولين إلى أعمالهم من دون قيود أوشروط مسبقة، وعاد الهدوء والاستقرار في ربوع البلاد.