في الجزء الأول من هذه المقالة أوضحنا أنه رغم إعلان الرئيس الأمريكي أوباما انتهاء العمليات القتالية، فإن الاحتلال في العراق باق ومستمر، وبالمقابل فإن المقاومة باقية ومستمرة وهو ما يعني أن الحرب هي باقية ومستمرة.
وقلنا أيضاً إن واقع العراق اليوم لا يحتاج منا إلى الدخول في جدال أو وضع فرضيات حول نيات وأهداف أمريكا من غزوها واحتلالها العراق، فهي لم تعبر البحار والمحيطات لتقوم بجريمة الغزو، وتتحمل كل هذه التكاليف البشرية والمادية من أجل أن تترك هذا العراق بهذه السهولة بكل ثرواته الهائلة وموقعه الاستراتيجي.
وفي وصف دقيق للحالة العراقية، قلنا إنه في ظل المعطيات الراهنة، هناك فعلاً هزيمة أمريكا متحققة في العراق، ولكنها ليست هزيمة كاملة الأمر الذي يعني أن هناك نصراً للمقاومة العراقية، ولكنه ليس نصرا حاسما.
فطالما أن الوجود العسكري الأمريكي المباشر في العراق لم ينته، وأن النتائج السياسية التي أفرزها المحتل مازالت باقية، فإن هذا الواقع يطرح أمام المقاومة تحديات إضافية من أجل الوصول بالاحتلال إلى مرحلة ينتهي فيها وجوده ومصالحه بمعنى الوصول إلى حالة "صفر الأرباح" بالنسبة إلى أمريكا، مع توافر إمكانية إعادة بناء العراق المتحرر والموحد من الاحتلال ومن إفرازاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وقد بينا بالشواهد والوقائع، أين حققت أمريكا أهدافها في العراق، وخاصة هدف تفكيك كيانه الوطني وتهيئة الأرضية للصراعات الطائفية والعرقية، وتدمير دولته الوطنية، بكل مؤسساتها السياسية والعسكرية والأمنية حتى تسهل السيطرة عليه وإفقاده هويته العربية، وبالتالي سهولة فرض الوصاية عليه، وفي هذا الجزء نحاول استكمال وجهة نظرنا حول هذا الموضوع عبر تسليط الضوء على الجانب الآخر من صورة الواقع العراقي.
فالجانب الآخر من الصورة يكشف لنا أن العراق اليوم هو بلا سيادة مع بقاء ما يزيد على 50 ألف جندي أمريكي، كما أن هذا البلد بسبب الاحتلال قدم أكثر من مليوني شهيد، وملايين آخرين من المعوقين والمفقودين وهو اليوم يعج بملايين الأرامل والأيتام، والمهاجرين أو المهجرين بفعل أعمال القتل والعنف التي تمارسها قوى الميليشيات والعصابات الإرهابية، كما أن أكثر من ربع سكان العراق هم تحت خط الفقر مع وجود آلاف من العاطلين عن العمل والمسرحين من الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية السابقة وغيرهم من العاملين في الوزارات العراقية السابقة بحكم قانون الاجتثاث، وعشرات الآلاف من الأطفال والكبار الذين يموتون ببطء نتيجة الأمراض السرطانية، وأخيراً وليس آخراً عشرات من الأبرياء الذين يسقطون شهداء يوميا بسبب التفجيرات والاغتيالات التي تنفذها المجاميع الإرهابية والميليشيات التابعة للأحزاب المتنفذة في السلطة العراقية، هذه هي الأثمان الباهظة التي دفعها الشعب العراقي جراء العدوان الأمريكي البريطاني الصهيوني.
لذلك نحن نقول إن الرئيس الأمريكي أوباما عندما يقف ويعلن ما اسماه انتهاء المهمات القتالية في العراق وخطة مسئولة لانسحاب القوات الأمريكية من العراق ويتحدث عن الثمن الذي دفعته أمريكا لوضع مستقبل العراق في أيدي شعبه وسيادة العراق واستقلاله هو في واقع الحال يراوغ ويتلاعب بألفاظ، بل يكذب أيضاً مثل سلفه المجرم بوش الذي أخذ على عاتقه تنفيذ سياسات المحافظين الصهاينة الجدد في العراق من خلال تدمير وتمزيق نسيجه الاجتماعي ونهب ثرواته الوطنية ومواصلة احتلاله إلى أمد غير معلوم عبر ربطه بمعاهدات استعمارية مذلة.
لقد أشرنا توا إلى الويلات التي نزلت بالعراق وبالعراقيين نتيجة للاحتلال الأمريكي – الذي يسميه أوباما من باب الخداع والتضليل (عملية تحرير العراق) – والتحرير في عرف هؤلاء المستعمرين الوحوش هو تقويض مقومات الدولة العراقية وإجهاض كل الانجازات التي استطاع العراق تحقيقها على مدى أربعة عقود، في ظل دولته الوطنية والسيادة التي يتحدث عنها هي أن يتحول العراق إلى دولة فاشلة من الطراز الأول ينخر فيها الفساد وتتفشى فيها كل أنواع الرذيلة السياسية والأخلاقية، أما الاستقلال فهو أن يتحول العراق إلى مجرد أزمة مفتوحة على كل الاحتمالات مع وجود مكونات وقوى سياسية هي الأخرى مأزومة تقتات من النظام الذي أوجده المحتل، وأن يكون العراق في حالة دائمة من الانكشافين السياسي والأمني، ومصدر إغراء وطمع العديد من القوى والدول من أصحاب المشاريع والنيات الاستعمارية في العراق مثل الكيان الصهيوني والنظام الإيراني.
إن هذه الوقائع هي التي تجعلنا نتحدث عن عدم اكتمال نصر المقاومة حتى مع الانسحاب الفوري لجزء من قوات الاحتلال، وهذا يعني أن هناك مهام صعبة تنتظر المقاومة من أجل انجاز مهمة التحرير الكامل وإسقاط كل الإفرازات السياسية والأمنية والاجتماعية للاحتلال، هذه المقاومة التي استطاعت أن تفرض على الاحتلال إعادة النظر في حساباته، وأن يضع عجلاته على سكة الانسحاب هي الجهة الوحيدة صاحبة المصلحة في إعادة الاعتبار للعراق ككيان موحد ومستقل ومتحرر من كل أشكال التبعية والأحتواء، وإعادة تأهيله سياسيا واقتصاديا، ليعود عراق عربي الهوية والانتماء، وتعدديا ديمقراطيا في الممارسة السياسية، لذا فإن المقاومة هي الطرف الأكثر مشروعية في التعبير عن الطموح الوطني المحرر من كل القيود السياسية – المذهبية والطائفية والعرقية لأنها (المقاومة) هي قوة عابرة في التكوين والمنطلقات والأهداف للطوائف والأعراق، وهي مطالبة بأن تكون المركز الوطني الجاذب من أجل استكمال مهمة التحرير، ومتى ما استطاعت انجاز هدف السيادة الحقيقية والكاملة للعراق، والتسليم من جانب المحتل بكل حقوق العراق المشروعة في الحرية والاستقلال، وانسحاب آخر جندي محتل من أرض العراق، ومن ثم القضاء على قوى التبعية التي تقتات من مناخ التقسيم الطائفي، تكون المقاومة قد حققت انتصارها الكامل والناجز، وتكون بذلك قد أسقطت الاحتلال وكل ما أفرزه من نتائج، وعندها يمكن القول ان أمريكا قد هزمت في العراق وان استراتيجيتها وأهدافها المعلنة والمستورة قد أسقطت أيضا.
في ظل هذه الحقيقة، كيف يمكن لنا الحديث عن الهزيمة الأمريكية غير المكتملة؟ وأين هي المعطيات والشواهد التي تقدم الدليل على هذه الهزيمة؟
الولايات المتحدة خسرت في عدوانها على العراق وفق الأرقام الرسمية المعلنة من جانبها ما يزيد على 4420 عسكريا، بالإضافة إلى الآلاف من الجنود الذين لم يكسبوا الجنسية الأمريكية ولم تثبت أسماؤهم في الإحصاءات الرسمية، وهناك أضعاف هذه الأرقام من الجرحى والمعوقين، وهذا كله بفعل المقاومة المسلحة في العراق.
لقد ذكر أحد التقارير الصادرة عن وزارة قدامى المحاربين في الولايات المتحدة الأمريكية أن مجمل الخسائر الأمريكية في العراق حتى نهاية 2005 وصل إلى 228 ألف جريح، من بينهم مصابون بلوثة عقلية وأمراض نفسية مستعصية، وهناك الآلاف المصابون بعاهات مزمنة وجميع هؤلاء أصبحوا يمثلون شواهد شاخصة على حجم الهزيمة الأمريكية في العراق. في العموم هناك تقارير محايدة تؤكد أن ثلث القوة العسكرية الأمريكية التي اشتركت في الحرب على العراق تمثل ثمن التكلفة البشرية حتى الآن.
الإخفاق الأمريكي تمثل أيضاً في سقوط المصداقية السياسية للولايات المتحدة الأمريكية، من خلال الجرائم التي ارتكبتها القوات الغازية داخل العراق وهي جرائم حرب موصوفة بكل المقاييس والمعايير، كما أن العالم لم ينس كيف قامت أمريكا بتلفيق التقارير الكاذبة لتبرير شن حربها العدوانية مثل ادعائها امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل وعلاقته بالقاعدة وفشلها في انتزاع أي قرار دولي يشرع لها عدوانها واحتلالها العراق.
وجاء هذا السقوط السياسي الذي منيت به واشنطن مترافقاً مع سقوط أخلاقي من خلال الانتهاك الخطر لحقوق الإنسان، ومن خلال لجوء قواتها إلى كل أساليب التعذيب والتنكيل بحق الأسرى والمعتقلين، وكان آخر ما أقدمت عليه في هذا المجال قيامها بتسليم المعتقلين والأسرى إلى الحكومة العراقية العميلة معرضة حياة هؤلاء الأسرى للموت المحقق لما عرف عن هذه الحكومة استخدام كل أساليب البطش والتعذيب في سجونها السرية والعلنية المنتشرة على امتداد أرض العراق.
بالإضافة إلى كل ما تقدم فاننا نعرف أن أمريكا التي دخلت الحرب على العراق وهي تقود اصطفافا دوليا خارج الشرعية الدولية، لم تستطع أن تحافظ على هذا الاصطفاف، لذلك وجدنا عشية إعلان أوباما انتهاء عملياتها القتالية كيف أصبحت أمريكا وحيدة ومعزولة دوليا، تحاول ترميم ما أفسده سلوكها الإجرامي السابق.
وكل هذا من دون شك يدخل في خانة الفشل السياسي والهزيمة السياسية والأخلاقية التي ما كان لها أن تتحقق لولا المقاومة العراقية التي جعلت الاحتلال يتعثر في الكثير من مشاريعه حتى وصل إلى مرحلة المأزق الخطر الذي دفع الإدارتين الأمريكيتين السابقة والحالية إلى أن تعيدا النظر في استراتيجيتيهما وتطرحا استراتيجية الانسحاب كما أوضحنا قبل قليل. والحقيقة أن هذه الخطوة الأمريكية (الانسحاب الجزئي) ستعيد خلط الأوراق، وخاصة أن هناك قوى إقليمية (النظام الإيراني) تعمل على ملء الفراغ السياسي والأمني الذي سيخلفه الانكفاء الأمريكي، بمعنى أن الساحة العراقية ستبقى مفتوحة بين قوى المقاومة والتحرير والتوحيد والعروبة، وبين قوى الاحتلال، وعملاء الاحتلال، والمعادين لعروبة العراق في الداخل والخارج، وهو ما يؤكد أن الجولات القادمة أمام المقاومة العراقية ستكون أصعب وأكثر تعقيداً وستكون معركة توحيد العراق أكثر شراسة من معارك تحريره وقد بانت تجلياتها اليوم بشكل أكثر وضوحاً، وسيحمل غداً بإذن الله بشائر هزيمة الاحتلال وكل إفرازاته، إيذانا ببزوغ "فجر التحرير" الشامل للعراق والاستقلال التام والناجز لشعبه الكريم، بعد هروب آخر جندي أمريكي وسقوط كل العملاء خاسئين مدحورين، مجللين بالخزي والعار، تلاحقهم لعنة الله والتاريخ الأبدية.
وكذب من ادعى أن العمليات القتالية انتهت في العراق فمازالت للحرب من بقية.
© جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia.