عوني صادق
تحل هذه الأيام الذكرى الخامسة والستون لنكبة الشعب الفلسطيني، في ظروف تبدو فيها الأمة العربية واقفة على مشارف نكبة قد تكون أخطر وأشد مأساوية من نكبة فلسطين .
لقد كان الشعب الفلسطيني ضحية مؤامرة دولية، حاكها الغرب الاستعماري وصنيعته الحركة الصهيونية، وشارك فيها لاحقاً “الشرق الأوروبي” الذي كان اشتراكياً . وكانت فكرة “المشروع الصهيوني”، جزءاً من المشروع الاستعماري في المنطقة العربية، ووسيلته للسيطرة عليها . أما آلية التنفيذ، فكانت تبدأ بتقسيم المشرق العربي (اتفاقية سايكس- بيكو 1916)، باعتباره جزءاً من التركة العثمانية، ثم إخضاعه تمهيداً لتنفيذ المؤامرة التي تجسدت في وعد بلفور (1917)، وزير خارجية بريطانيا آنذاك . وبعد الحرب العالمية الثانية، ورثت الولايات المتحدة الأمريكية ما كانت قد ورثته بريطانيا وفرنسا بعد الحرب العالمية الأولى، زعامة ومصالح ومسؤوليات، وهيمنة على المنطقة العربية .
وبالرغم من اختلاف البدايات بين نكبة الفلسطينيين و”نكبة العرب” الماثلة هذه الأيام، فإن الأهداف والمصالح الاستعمارية الغربية، وكذلك المصالح الصهيونية- “الإسرائيلية”، لم تتغير . لذلك، من المتوقع، إن لم تحصل معجزة، أن تأتي النتائج مماثلة لنتائج السياسة الاستعمارية في مطلع القرن الماضي، إلى درجة تفرض وجود مؤامرة دولية جديدة بنفس الأهداف القديمة، فهل يعيد التاريخ نفسه بصورة أكثر مأساوية؟
لقد أدت السياسة الاستعمارية في مطلع القرن الماضي، إلى قيام أنظمة عربية ضعيفة ومرتبطة بالمراكز الاستعمارية، تحولت إلى ديكتاتوريات بدرجة “وكالات” لهذه المراكز، وأثبتت حرب 1948 هذه الحقيقة . وبعد قيام (دولة “إسرائيل”)، جهدت السياسة الاستعمارية لأن تبقى هذه الأنظمة بنفس المواصفات والمهام، مع الحرص والالتزام بدعم الكيان الصهيوني ليكون متفوقاً على مجموع الدول العربية، عسكرياً واقتصادياً، كما لجأت إلى ضرب وإفشال كل نظام عربي تطلع إلى الاستقلال، وقمعت كل محاولة استشفت منها نية صادقة، أو شبه صادقة، للتمرد عليها، أو نية لتغيير الأوضاع في هذا البلد العربي أو ذاك . لذلك تآمرت الدول الغربية، مجتمعة ومنفردة، على مصر وسوريا والعراق، وشنت عليها الحروب في الأعوام ،1956 ،1967 1982 (على المقاومة الفلسطينية في لبنان)، ،1990 2003 . ومارست مختلف سياسات النهب لثرواتها الوطنية، والتحكم في مقدراتها وقراراتها السياسية .
وفي بداية العام ،2011 ومع تفاقم وتدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية العربية، واستمرار العجز العربي تجاه الغطرسة “الإسرائيلية”، تحركت الشعوب العربية متمردة على أوضاعها مطالبة بإسقاط الأنظمة والحكام في أكثر من بلد . وبسبب غياب الطلائع الثورية القادرة على قيادة التغيير، نتيجة للاستبداد الذي مارسته هذه الأنظمة لعقود، لم تتوافر لهذه الشعوب حركات وقوى وطنية تستطيع أن تكون بديلاً للأنظمة القائمة في وقت قصير أو مناسب، ما أفسح في المجال لقوى محلية لها أجندات وبرامج سياسية عاجزة عن نقل هذه البلدان إلى فضاءات الحرية والتغيير الديمقراطي . وتحولت الانتفاضات إلى “حالات فوضوية” وفرت للقوى الاستعمارية نفسها أوسع الفرص للتدخل ووضع يدها عليها باسم “مساندة الشعوب المطالبة بالحرية والدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان” . وأدى تشبث الحكام بمواقعهم، ومواجهة شعوبهم بقوة الحديد والنار إلى جعل التدخل الخارجي “مطلباً مشروعاً” بالنسبة إلى الشعوب المقهورة، وبالتالي إجهاض “عملية تاريخية” كان يمكن أن تحدث التغيير المطلوب . وكانت “النسخة الثانية” من السياسة الاستعمارية القديمة، من حيث إثارة العصبيات الدينية والطائفية والعرقية، بل وحتى الجهوية، هي الوصفة الجديدة لإجهاض هذه الانتفاضات، لتضع البلدان العربية، مرة أخرى، على طريق “تقسيم المقسم وتجزيء المجزأ”، ومن أجل تدمير كل البنى التحتية لهذه البلدان وكذلك النسيج الاجتماعي فيها .
إن الناظر اليوم إلى ما جرى ويجري في تونس ومصر واليمن وسوريا والعراق، وحتى الأردن ولبنان، يتأكد من أن المؤامرة الدولية أوضح من أن يجادل فيها أحد، أو أن يشكك في تقدمها على المسار الذي أرادته الدول الاستعمارية . لقد كانت المؤامرة على الدول والشعوب العربية ولم تكن على الأنظمة أو الحكام، وما يجري الحديث عنه كحلول للأزمات الخانقة في هذه البلدان التي سقط فيها الحكام أو التي لم يسقطوا فيها بعد، لا يخرج عن تظهير تلك المخططات والأهداف الاستعمارية التي عانيناها عقوداً طويلة ولانزال، والتي هي اليوم قيد التنفيذ مجدداً .
لقد وقعت نكبة فلسطين بسبب غياب الدور العربي الذي يفترض فيه أن يرد الهجمة الاستعمارية- الصهيونية . و”نكبات” العرب الحالية سببها الفرقة والتشرذم العربي، بل وعدم تفعيل اتفاقيات التكامل والتضامن و”الدفاع المشترك” التي تغص بها أدراج الجامعة العربية .
في هذه الظروف والأوضاع العربية، كان طبيعياً أن تتراجع “القضية المركزية” للعرب إلى أسفل سلم الاهتمامات العربية، وأن تسقط عن طاولة الاهتمام الدولي، وأن يزيد الكيان الصهيوني تغولاً في توسعيته ونكراناً لحقوق الشعب الفلسطيني . وقبل العام ،2011 كان الأمل في استرداد الحقوق المسلوبة في فلسطين يأتي من فرضية أن العرب تعلموا من نكبة فلسطين، لكن مجريات الأحداث تسقط هذه الفرضية، وتجعلنا نضع أيدينا على قلوبنا ونحن نرى “نكبات العرب” تسد أبواب الأمل، وتحول حلم تحرير فلسطين إلى وهم ليس في معطيات الواقع ما يسنده .